مواعظ القرآن (3)

د. محمود بن أحمد الدوسري
1441/09/25 - 2020/05/18 19:35PM
                                                                             مواعظ القرآن (3)
                                                                     د. محمود بن أحمد الدوسري
       الحمد لله الذي هدانا لشهر رمضان, وشَرَعَ لنا فيه الصِّيامَ والقيام, والصلاةُ والسلام الأتمَّان على أتقى خَلْقِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه, وسَلَّمَ تسليماً كثيراُ, أمَّا بعد: فمِنْ أهوالِ يوم القيامة: أنَّ الأرض تَتَخَلَّى عَمَّا في بَطْنِها من المعادنِ والناس, وفي ذلك يقول اللهُ تعالى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 3, 4]. فالأرض لَمَّا مُدَّتْ وبُسِطَتْ ألقتْ أثقالَها وما فيها من الموتى على ظهرها, وتَخلَّتْ عنهم, فألْقَتْ الأمواتَ الذين دُفِنوا فيها على ظهرها - ونحن سنكون منهم - كما قال تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق: 44].
       وتُلقِي أيضاً ما بِداخِلِها من المعادِنِ وغيرِها؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا[1] أَمْثَالَ الأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ[2]. وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي. وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي. ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلاَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا» رواه مسلم. فقد تخَلَّت الأرضُ عنهم بعدَ أنْ كانت لهم كِفاتاً؛ أحياءً وأمواتاً, وبعدَ أنْ كانت لهم مِهاداً, لَفَظَتْهم وتَخلَّتْ عنهم, وهذا مما يزيد في رهبة الموقف وشدَّتِه والتَّضْييقِ على العباد, وأنْ لا مَلْجأ ولا منجى إلاَّ إلى الله تعالى, كما قال سبحانه: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 11, 12]. أي: ليس هناك فرارٌ ينفع صاحِبَه, ولا شيء يلجأ إليه ويحمِيه من هذا الهولِ الذي حَضَر, سواء كان حِصْناًً, أو جبلاً, أو مَعْقِلاً.
        * قال الله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 19]. أي: لتركَبُنَّ - أيها الناس - أحوالَ الشِّدَّة, حالاً بعد حال. يُقال: وَقَعَ فُلانٌ في بناتِ طَبَقٍ, أي: وَقَعَ في أمرٍ شديد. والمعنى: لَتَمُرَّنَّ بكَ - أيها الإنسانُ وأيها الناسُ - جُملةٌ أمورٍ وأحوال؛ وهي أطوارٌ مُتعدِّدة وأحوالٌ مُتباينة، من النُّطفة إلى العلقة، إلى المُضْغة، إلى نفخِ الروح، ثم يكون ولِيدًا وطِفلاً ثم مميزًا، ثم يجري عليه قلمُ التكليف، والأمر والنهي، ثم يموت بعد ذلك، ثم يُبعث ويُجازى بأعماله، فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد، دالة على أنَّ الله وحده هو المعبود، الموحَّد، المُدبِّر لعباده بحكمته ورحمته، وأنَّ العبد فقير عاجز، تحت تدبير العزيز الرحيم، ومع هذا؛ فكثير من الناس لا يؤمنون!
       وفي قراءةٍ صحيحة: {لَتَرْكَبَنَّ}[3] بفتح الباء, على أنه خِطابٌ لمفرد, وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم, والمعنى: لَتَرْكَبَنَّ - يا محمدُ - حالاً بعد حال؛ من حال فقرٍ إلى حال غنًى, ومن حال ضعفٍ إلى حال قوة وظَفَرٍ وغَلَبَةٍ على المشركين المكذِّبين بالبعث؛ كما قال سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * َوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 6-8]. وقيل: لَتَرْكَبَنَّ سماءً بعد سماء, وقد فَعَلَ اللهُ تعالى ذلك به ليلةَ المعراج, وقد قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3].
       * قال الله تعالى - في الفَرْقِ بين عذابِ جهنَّمَ, وعذابِ الحريق: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10]. إنَّ عذابَ جهنَّمَ حلَّ بالكفَّار لكفرهم. وعذابَ الحريقِ حلَّ بهم لِتحْرِيقهم المؤمنين والمؤمنات, فهناك عذابان: للكفر, ولإيذاء العباد, جزاءً وفاقاً. كما قال سبحانه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88]. فعذابٌ للكفار, وعذابٌ للصَّد عن سبيل الله. وكما قال سبحانه: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].
       * قال الله تعالى - مُخاطِباً نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} [البروج: 17-19]. والمراد بالجنود: هم فرعونُ وجنودُه, وقومُ صالحٍ المعروفون. والمراد بحديثهم: ما وَقَعَ منهم من كُفرٍ وعنادٍ وضلالٍ وظُلم, وما وقع بهم من العذاب والنَّكال. والمقصود من الآيات: ألاَّ يَظُنُّ ظانٌّ أنَّ هؤلاء الكفار - كفَّارُ مكة - لم يأتهم حديثُ الجنود, وما أحَلَّه الله بهؤلاء الجنود من العذاب, وما أنزل بهم من النكال؛ بل قد جاءتهم أخبارُ الجنود, وغيرِ الجنود أيضاً, كما قال سبحانه: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137, 138]. والمعنى: وإنكم - يا أهلَ مكةَ - لَتَمُرُّون في أسفاركم على منازِلِ قوم لوطٍ وآثارِهم وقتَ الصباح، وَتَمُرُّون عليها ليلاً. أفلا تعقلون، فتخافوا أنْ يُصيبَكم مِثْلُ ما أصابهم؟ وكما قال تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحِجر: 79]. أي: وإنَّ مَساكِنَ قومِ لوطٍ وشعيبٍ لَفِي طريقٍ واضحٍ, يمرُّ بهما الناسُ في سفرهم فيعتبرون.
      فقد جاءت هذه الأخبارُ وبَلَغتْ الذين كفروا, ولكنهم مع ذلك كلِّه في تكذيبٍ مُستمر, وعِنادٍ دائم, ومُخالفةٍ ظاهرة, كما قال سبحانه: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 22]؛ وقوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 2]. فهذا شأنُهم وذاك ديدنُهم منذ زمنٍ بعيد. وفيه تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنْ كُنْتَ - يا محمد - قد كُذِّبْتَ من هؤلاء الكفار؛ فهذا شأنُ الكفَّارِ مع غيرِك أيضاً, فهم في تكذيبٍ دائمٍ للرسل {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34]. فالأمرُ الذي يَلْزَمُكَ إذاً؛ أنْ تصبِرَ كما صبر أولو العزمِ من الرسل.
                                                                                     الخطبة الثانية
      الحمدُ لله ... عبادَ الله .. قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} [الأعلى: 6]. من إعجاز هذه الآية؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان رجلاً أُمِّياً لا يقرأ, ولا يكتب؛ كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]. وبَيَّنَ هذه الأُميَّةَ في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف: 157], ومع ذلك حَفِظَ القرآنَ كلَّه عن ظهرِ قلبٍ, فلا ريب أنه أمر خارِقٌ للعادة, فيكون ذلك مُعجِزاً. والله تعالى أخبرَ في هذه السورة - سورة الأعلى - وهي من أوائل ما نزل بمكة؛ أخبرَ فيها أنه سَيُقرِئُه القرآنَ {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} أي: سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب، ونوعيه قلبَك، فلا تنسى منه شيئًا، وهذه بِشارةٌ كبيرة من الله تعالى للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّ اللهَ سبحانه سيعلمه علمًا لا ينساه. فَوَجْهُ الإعجازِ من الآية؛ أنه إخبارٌ بالغيب, فوقَعَ كما أُخُبِر به.
       لكن بالنسبة لنا - أيها الأحبة - فإنَّ من أهم الأسباب المُعينة لنا على حِفْظِ القرآن وعدمِ نسيانه: تعاهدُ القرآن ومداومةُ قراءتِه ومُراجعتِه؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ؛ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا, وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ» رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: «وإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ». وقال أيضاً: «تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا» رواه البخاري.
     ومن أسباب حِفظِ القرآن: التَّخفُّفُ من الذنوب والمعاصي؛ فإنَّ الذنوب والمعاصي تُزِيلُ النِّعَم, وحِفظُ كتابِ الله من أعظمِ النِّعم, وضَياعُه وذَهابُه مُصيبةٌ من المصائب الكُبرى, وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30], ومن ذلك: طَلَبُ الثباتِ من الله؛ فهو سبحانه قادر على إذهابه بعد حِفظِه؛ كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} [الإسراء: 86].
       * قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى: 9, 10]. هذه الآية تتعلَّق بالنُّصح والوَعظ؛ فذكِّرْ - أيها الداعيةُ؛ أيها الواعِظُ - ما دامَت الذِّكرى مقبولةً، والموعظةُ مسموعة، سواء حَصَلَ من الذِّكرى جميعُ المقصود أو بعضُه. فإنْ ترجَّح لدى الناصح أنهم ينتفعون بالذِّكرى؛ فهؤلاء يُذَكَّرون؛ كما قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]؛ لأنَّ ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة، واتِّباعِ رِضوان الله، يُوجِبُ لهم أنْ تنفعَ فيهم الذِّكرى، وتقعَ الموعظةُ منهم موقِعَها.
       وأمَّا إنْ ترجَّحَ للناصِحِ عدمُ الانتفاع بالذِّكرى؛ كمَنْ بُيِّنَ له مِراراً وتكراراً, فما وُجِدَ منه إلاَّ السُّخريةُ والاستهزاءُ من الدِّين, ومُحاربةُ أهلِه, ومُحاربةُ الواعِظين, وليس له معه إيمانٌ, ولا استعدادٌ لِقَبول التَّذكير، فهذا لا نَفْعَ في تذكيرِه، فهو بمنزلة الأرض السَّبِخَة، التي لا يُفيدها المطرُ شيئًا، وهؤلاء الصِّنف، هم المَذْكورون في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 96, 97]. وهذا الذي جعل موسى - عليه السلام - يدعو ربَّه قائلاً: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 88].
 
[1] (تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا): أي: تُخْرِج كُنوزَها المَدْفونة فيها. والأفْلاذُ: جَمْع فِلَذٍ. والفِلَذُ: جمع فِلْذَة وهي القطعة المقطوعة طُولاً. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/914).
[2] (فِي هَذَا قَتَلْتُ): أي: من أجل هذا وبسببه. انظر: شرح النووي على مسلم (7/98).
[3] {لَتَرْكَبَنَّ} بفتح الباء, وهي قراءة ابن كثيرٍ, وحمزة, والكسائي. انظر: تفسير الطبري, (24/256).
المرفقات

مواعظ-القرآن-3

مواعظ-القرآن-3

المشاهدات 468 | التعليقات 0