مواسمٌ لربيع القلوب
شايع بن محمد الغبيشي
مواسمٌ لربيع القلوب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله. أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ([1])
أما بعد عباد الله غيث السماء تهتز به الأرض وتربوا وتنبت من كل زوج بهيج فتٌربع الأرض بعد جدبها فلله ربيع تلك البقاع! حين تُسفر الأرض عن مفاتنها وترسم بمروجها ودوحاتها وأزهارها وثمارها صورة أخاذة الجمال يحار الطرف في وصفها وما أجمل قول البحتري:
أتَاكَ الرّبيعُ الطّلقُ يَختالُ ضَاحِكاً منَ الحُسنِ حتّى كادَ أنْ يَتَكَلّمَا
وَقَد نَبّهَ النّوْرُوزُ في غَلَسِ الدّجَى أوائِلَ وَرْدٍ كُنّ بالأمْسِ نُوَّمَا
يُفَتّقُهَا بَرْدُ النّدَى، فكَأنّهُ يَبِثُّ حَديثاً كانَ قَبلُ مُكَتَّمَا
وَرَقّ نَسيمُ الرّيحِ، حتّى حَسِبْتُهُ يَجىءُ بأنْفَاسِ الأحِبّةِ، نُعَّمَا
وكما أن للأرض ربيعٌ يطل عليها كل عام هذا بعض وصفه، فكذلك للقلوب ربيعٌ له أيامٌ ومواسمُ لكن يختلف ربع القلوب بحسب العناية باستنزالهم الغيث الذي يصنع لتلك القلوب مباهج ربيعها، وغيث القلوب هو ذكر الله عز وجل وهو الذي به تهتز القلوب وتربوا وتخضر وتزهر وقد أمر الله عز وجل بالاستكثار من هذا الغيث فقال جل وعلا: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}، ومن أعظم فرص هذا الربيع هذه الأيام التي نعيش فيها فإن غيثها وابٌ صيبٌ فهي الأيام التي حث الله على كثرت الذكر فيها فقال سبحانه : (وَيَذْكُروا اسْمَ اللَّهِ فِي أيَّامٍ مَعْلُوماتٍ ... ) قال ابن عباس رضي الله عنه: هي أيامُ العشر وكذا قال الشافعي والجمهور.
وقال النووي رحمه الله: واعلم أنه يُستحبُّ الإِكثار من الأذكار في هذا العشر زيادةً على غيرها.
فعلينا عباد الله أن نكثر من ذكر الله عز وجل في هذه الأيام والليالي التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: « ما من أيام أعظم ولا أحب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» رواه الإمام أحمد
فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى الاستكثار من أحب الأعمال وأعظمها عند الله في هذه الأيام فقال: "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد" الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وأعظم الذكر تلاوة كتاب الله جل وعلا فعن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أفضل الكلام بعد القرآن أربعٌ وهى من القرآن لا يضرك بأيهن بدأت سبحان الله والحمد لله ولا إله الا الله والله أكبر» رواه أحمد
قال خبّاب بن الأرت رضي الله عنه لرجل: "تقرب إلى الله تعالى ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه" رواه ابن أبي شيبة والبيهقي وصححه
فما أجمل عباد الله أن نجعل القرآن ربيع قلوبنا فقد علمنا صلى الله عليه وسلم من أن يلهج بالدعاء: «اللهمَّ إنَّي عبدُك، وابنُ عبدِك، وابنُ أَمتِكَ، ناصيَتي بيدك، ماضٍ فيَّ حُكمُكَ، عَدلٌ فيَّ قَضاؤكَ، أسْأُلكَ بكلِّ اسْم هُوَ لكَ سمَّيْتَ به نفسَك، أوْ أَنْزلتَهُ في كتابِكَ، أو علَّمْتَهُ أحداً مِنْ خلقِكَ، أوِ اسْتَاْثرتَ بِه في علْمِ الغيْبِ عندَك، أنْ تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلْبي، ونور صدْري، وجَلاء حُزْني، وذَهابَ همِّي» وصححه الألباني .
وأعظم الحرمان أن يحرم العبد نفسه من هذا الربيع في يومه وليلته خاصة في هذه الأيام، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب هومنا
الخطبة الثانية :
الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ واشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد ان حمد عبده ورسوله أما بعد:
عباد الله لهذا الربيع ثمرات عظيمة فكما تسعد النفوس وتسر بربيع الأرض ومنظره الأخاذ، ففرحها بربيع القلوب أعظم وأعود عليها بالسعد والمسرات بل لا تزال تتذوق ثمار ذلك الربيع ولذة جناه ما لا يخطر على بال ومن ثماره:
1/ ذكر الله لعبد وثناءه عليه ومعيته له قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» رواه البخاري
2/ طمأنينة النفس وانشراحها وسعادتها: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} قال السعدي رحمه الله: أي: يزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها ولذاتها... فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أشهى ولا أحلى من محبة خالقها، والأنس به ومعرفته، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له، يكون ذكرها له. ([2]) وفيه السلامة من حياة الضنك والهموم والغموم التي تصيب الغافل عن ذكر الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}
3/ أنه حصن حصين من الشيطان فعن الحارث الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وفيه: «وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أَثَرِه سِراعًا، حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يُحرِز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله... » رواه الترمذي وصححه الألباني.
5/ أنه غراس الجنة فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» رواه الترمذي وحسنه الألباني.
6/ أنه وقاية للعبد من النار فعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «خُذوا جُنَّتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهنَّ يأتينَ يوم القيامة مقدِّمات، ومُعقِّبات ومُجنِّبات، وهنَّ الباقيات الصالحات» رواه النسائي وصححه الألباني.
7/ أنه حياة للعبد وقوة، فعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ» متفق عليه يقول ابن تيميَّة رحمه الله: "الذِّكر للقلب مثل الماء للسَّمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارَق الماء؟!". قال ابن القَيِّم: "وحضَرتُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة مرَّة صلَّى الفجر، ثم جلَس يذكر الله تعالى إلى قُرب من انتصاف النهار، ثم الْتفتَ إليَّ وقال: "هذه غدوتي، ولو لَم أتغدَّ هذا الغداء لسَقَطت قوَّتي".
5/ أنه يشهد للعبد بين يدي الله عز وجل، قال ابن القيم رحمه الله: إن في دوام الذكر في الطريق والبيت والحضر والسفر والبقاع تكثيراً لشهود العبد يوم القيامة، فإن البقعة والدار والجبل والأرض تشهد للذاكر يوم القيامة، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا }
هذه بعض ثمار ربيع القلوب فلنستكثر من ذكر الله عباد الله لتكون قلوبنا ربيعاً ولننال بعض هذه الثمار، والناظر في نصوص السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن حياة العبد يكتنفها الذكر في كل لحظة، ذكر للنوم والاستيقاظ، وذكر لدخول المنزل والخروج منه، وذكر عند دخول السوق، وذكر لدخول المسجد والخروج منه، وذكر عند دخول الخلاء والخروج منه، وذكر عند الأكل والشرب والفراغ منهما، وذكر عند سماع الأذان، وذكر عند الوضوء وبعده، وأذكار في الصباح والمساء، ورقية بالذكر عند المرض، وذكر عند رؤية الهلال، وذكر عند المصيبة والبلاء، وذكر عند رؤية المبتلى، وحتى عندما يأتي العبد شهوة يذكر به جل وعلا، ومن أعظم ما يعينك على ذلك كتيب صغير بعنوان حصن المسلم ويوجد له تطبيق على الأجهزة الذكية .
فما أجمل عباد الله أن نصبغ حياتنا بذكر وتكون ألسنتنا رطبة به لتذوق ربيع الحياة، الله أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
([1]) ـ [آل عمران : 102].
([2]) تيسير الكريم الرحمن (ص: 418)
المرفقات
1686828117_مواسمٌ لربيع القلوب.pdf