مواسم التوبة

هلال الهاجري
1445/11/21 - 2024/05/29 06:14AM

الحمدُ للهِ الذي خَلقَ فسوَّى، والذي قدَّرَ فهَدى، والذي أخرجَ المَرعى؛ فجعله غثاءً أَحوى، نَحمدُه سبحانَه فهو أَهلُ الحمدِ وأوفاهُ، ونَستغفرُه من الزَّللِ فهو الغَفَّارُ، ونسألُه العَونَ فهو المعينُ، ونسألُه الكِفايةَ فهو الكَافي، ونسألُه الشِّفاءَ فهو الشَّافي، نَستعينُ به في السَّراءِ على الضَّراءِ، وفي الضَّراءِ على السَّراءِ فهو الرَّحمنُ الرَّحيمُ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له شهادةً يُنقذُنا اللهُ جَلَّ وعَلا بها في الدُّنيا، وشهادةً ننجوا بها في الآخرةِ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، وصَفيُّهُ وخليلُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم بإحسانٍ، واقتفى أثرَهم بإيمانٍ إلى يومِ الدِّينِ، أما بعدُ:

فإني أُوصي نفسي وإياكم بتقوى اللهِ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

عبادَ اللهِ، هل تعلمونَ ماذا يُريدُ اللهُ تعالى؟، اسمعْ إلى هذه الآيةَ: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)، اللهُ أكبرُ، خالقُنا ورازقُنا صاحبُ الفضلِ كلِّه على العالَمينَ، يُريدُنا أن نتوبَ فيتوبَ علينا أجمعينَ، حتى نرجعَ إلى الجنَّةِ التي أخرجنا منها إبليسُ اللَّعينُ، ولذلكَ أرسلَ الرُّسلَ عليهمُ السَّلامُ، وأنزلَ الكُتبَ بواسطةِ الملائكةِ الكِرامِ، ليدلَّنا على طريقِ الجنَّةِ فندخلَها بِسلامٍ، وقالَ سُبحانَه: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ).

هَل تَأَملتُم في الفُرصِ التي أَعطَانا إيَّاها لَنتُوبَ فَيَتُوبَ عَلينَا، وَنستَغفِرَ فَيَغفِرَ لَنا؟، يَنزلُ كلَّ ليلةٍ ليسمعَ أنينَ التَّائبينَ، ويُجيبَ دُعاءَ الدَّاعينَ، ويغفرُ لعبادِه المُستغفرينَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)، لا إلهَ إلا اللهُ، ينزلُ سُبحانَه كلَّ ليلةٍ ليَعرُضَ علينا التَّوبةَ والمغفرةَ، فمنْ تابَ تابَ اللهُ عليه.

تُفتحُ أبوابُ الجنَّةِ مرتينَ في الأسبوعِ للمؤمنينَ، فيغفرُ للموَّحدينَ إلا المُتخاصِمِينَ، كما قالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)، وهكذا تتكرَّرُ الفرصةُ مرتينِ أُسبوعياً للفوزِ بمغفرةِ ربِّ العالمينَ، ولكن إياكَ والخِصامَ مع إخوانِك المُسلمينَ.

ختمَ الأسبوعَ بساعةٍ، لا يَسألُه عبدٌ مسلمٌ شيئاً إلا أجابَ دُعاهُ، ومن أعظمِ الدُّعاءِ هو التَّوبةُ من الذُّنوبِ، ورجاءُ المغفرةِ من علَّامِ الغُيوبِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: (فِيهِ سَاعَةٌ، لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ)، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا، وَهِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.

يا ربِّ إني قد أَتيتُك تَائباً *** فاقبلْ بعفوكَ تَوبةَ النَّدمانِ

من لي سِواكَ يُجيرني ويُعيدُني *** من عَالمِ الأهواءِ والشَّيطانِ

سُدَّتْ بوجهي كُلُّ أبوابِ المُنى *** فأتيتُ بابَك طالبَ الغُفرانِ

جعلَ في السَّنةِ شهراً فِيهِ عَظيمُ المَزَايا، هو شهرُ التَّوبةِ وغُفرانِ الخطايا، صومُه مغفرةٌ، وقيامُه مغفرةٌ، بل قيامُ ليلةٍ فيه من لياليهِ الأخيرةِ، مغفرةٌ لذنوبِ السَّنواتِ الكثيرةِ، المغفرةُ فيه أسهلُ من شُربِ الماءِ، ولذلكَ جاءَ في الحديثِ: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ)، فيه يتوبُ اللهُ على التَّائبينَ، ويغفرُ اللهُ ذنوبَ المُستغفرينَ.

ختمَ سُبحانَه السَّنةَ بعشرةِ أيامٍ هي خيرُ أيامِ الدُّنيا، الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ سَائرِ العَامِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسِلَّمَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ جعلَ في بدايةِ السَّنةِ يوماً، من صامَه غُفرَ له السَّنةُ الماضيةُ، حتى يبدأَ العامَ الجديدَ، بصفحةٍ بيضاءَ نقيَّةٍ، كما جاءَ في الحديثِ: (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ).

فما معنى هذا أيُّها الأحبابُ؟، مَواسمٌ لِلطَّاعاتِ، ومَغفِرةٌ لِلخَطيئاتِ، وصومُ ساعاتٍ فيه تكفيرٌ لجبالِ السيِّئاتِ، فَليسَ لهذا معنى إلا إنَّه سُبحانَه يحبُ التَّوبةَ، ويحبُ من عبادِه أن يُقبلوا عليه بالقليلِ، ليُقبلَ عليهم بالجزيلِ، فأيُّ فضلٍ هذا؟، وأيُّ كرمٍ هذا؟، وأيُّ عفوٍّ هذا؟، وأيُّ رحمةٍ ومغفرةٍ هذه؟، فأينَ التَّائبونَ؟، أينَ المُستغفرونَ؟.

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني اللهُ وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على نعمةِ الإسلامِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له الملكُ العلَّامُ، وأشهدُ أن نبيَّنا ورسولَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلِه وأصحابِهِ إلى يومِ الدينِ، أما بعد:

يفرحُ اللهُ سُبحَانَهُ بتوبةِ عبدِه أشدَّ الفرحِ، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)، يقولُ ابنُ القيمِ رحمَه اللهُ: ولم يجيء هذا الفرحُ في شيءٍ من الطَّاعاتِ سِوى التَّوبةِ.

و جعلَ للتَّوبةِ باباً عظيماً جِهةَ المغربِ، كما جاءَ في الحديثِ: (أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ بِالْمَغْرِبِ بَابًا عَرْضُهُ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا لِلتَّوْبَةِ، لاَ يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ قِبَلِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ‏)‏.

فيا أيُّها الحبيبُ .. ضعْ يدَك بيدٍّ بُسطتْ لكَ باللَّيلِ والنَّهارِ، وأقبلْ على رحمةِ العزيزِ الغفَّارِ، يَدٌ بسطَها اللهُ تعالى لعبادِه حتى لا يقنطوا من رحمتِه، كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إِن الله تَعَالَى يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوب مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها)، فأدركْ البابَ قبلَ الإغلاقِ، في يومٍ عظيمٍ يكونُ مِن مغربِه الإشراقُ، فلا توبةً حينَها تُسمعُ، ولا ندمَ حينَها يَنفعُ.

اللهمَّ اغفر لنا ذنوبَنا كلَّها، دِقَها وجِلَّها، أولَها وآخرَها، ما علمنا منها وما لم نعلمْ، اللهمَّ إن ذنوبَنا قد بلغتَ عَنانَ السَّماءِ وإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفرها لنا يا أرحمَ الراحمينَ، اللهمَّ إنَّ لَنا إخوانَاً في فِلسطينَ، قَد ضَاقَتْ بِهم المَسالكُ، وَأَحَاطتْ بِهمُ المَهالكُ، وَاشتَدَّ بهم الأَمرُ، وازدَادَ الظُّلمُ والقَهرُ، فَاللهمَّ نَدعوكَ بِاسمِكَ الأعظمِ، الذي إذا دُعيتَ بِهِ أَجبتَ، يَا حَيُّ يَا قَيومُ يَا ذا لجَلالِ والإكرامِ، يَا أَحدُ يَا صَمدُ، اكشفْ غُمَّتَهم، وَفرِّجْ كُربتَهم، وأغِثْ لَهفتَهم، وآمِنهُم في أَنفسِهم وفي أَوطانِهم، اللهمَّ انصرهُم وكُنْ مَعهُم وَتَولَّ أَمرَهم، وَاجبرْ كَسرَهم، وارحم ضَعفَهم، وَتَقبَّلْ شُهداءَهم، اﻟﻠﻬﻢَّ اجعلْ لهم من أَمرِهم رَشداً، وَمن كَربِهم فَرَجاً، وَمِن ضِيقِهم مَخرجَاً، اللهمَّ مُنزلَ الكِتابِ، سَريعَ الحِسابِ، مَجريَ السَّحابِ، اهزِمْ اليَهودَ الصَّهاينةَ وَزلزِلهُم، اللهمَّ أَحصِهم عَدداً، واقتُلهم بَدداً، وَلا تُغادرْ مِنهم أَحدًا، وصلى اللهُ وسلمَ وباركَ على محمدٍ وآلِه وصحبِه وسلمَ تسليماً.

المرفقات

1716952480_مواسم التوبة.docx

1716952490_مواسم التوبة.pdf

المشاهدات 1215 | التعليقات 0