مواجهة الفتن عند الفتية أصحاب الكهف
أحمد عبدالله
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ أحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أنزل القرآن للتعبد بتلاوته، وتدبر آياته، والانتفاع بعظاته ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ آتاه الله تعالى الحكمة والكتاب، وشرفه بالدعوة إلى الهدى والإيمان ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم-أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، وبالعمل الصالح الذي ينفعكم في دنياكم وأخراكم ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
مجموعة من الشباب في مقتبل العمر نشأوا على الإيمان والهدى، وتربوا على العقيدة الصحيحة، واستقاموا على طاعة الله وعبادته، نشأوا في مجتمع منحرف قد فسدت عقيدته، وانحرفت فطرته، يحكمه طاغية يأمر الناس بالشرك وعبادة الأوثان، فيعلن الشباب عقيدة الإسلام ويصدحون بالتوحيد والفطرة، ويرفضون الشرك، ويكفرون بالطاغوت، فيخافون من بطش الطاغية، ويخشون على إيمانهم من الضعف والافتتان، فيفرون بدينهم، وينأون بعقيدتهم، ليحافظوا على أعظم كنز في الحياة.
انهم أصحاب الكهف، الفتية السبعة الذين عاشوا في زمن غابر، قص الله خبرهم في القرآن الكريم، وخلد ذكرهم في الوحي، وسمى سورة في القرآن باسم المكان الذي آووا إليه.
لقد شُرِع لنا قراءةُ سورة الكهف في كل جمعة، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّه قال: (من قرأ سورةَ (الكهفِ) في يومِ الجمعةِ أضاء له من النورِ ما بين الجمُعَتَين). وقال النبي ﷺ (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال).
أيها المؤمنون..
سورة الكهف ترسم منهجا للمسلم في طريقة التعامل مع الفتن، حيث تناولت في قصصها الأربعة أعظمَ فتن يتعرض لها المسلم في حياته، ففي قصة أصحاب الكهف فتنة الدين وهي أعظم الفتن، وفي قصة صاحب الجنتين فتنة المال، وفي قصة موسى مع الخضر عليهما السلام فتنة العلم والمعرفة، وفي قصة ذي القرنين فتنة الملك والسلطان، واليوم في الواقع المعاصر الذي اشتدت فيه الغربة واستحكمت الفتن، وصارت تموج موج البحر، وتعرض على القلوب كالحصير، وبالذات فتنة الدين، اليوم تزداد حاجة المسلم للتأمل في قصة الفتية أصحاب الكهف، ليتعلم كيف ينجو المسلم بنفسه من الفتنة، وكيف يحافظ على دينه ويثبت على إيمانه.
وكعادة القرآن في السرد القصصي نجده لا يذكر التفاصيل وإنما يركز على أهم الأحداث في القصة ويعقب بإرشادات في غاية الأهمية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ هكذا عرض الله القصة بإجمال، ثم فصل بعد ذلك في أحداثها، ومن العرض المجمل والتفصيلي يمكن أن نتعرف على المنهج الرباني الذي يريده الله من المسلم في التعامل مع فتنة الدين.
أيها المسلمون إن أول وسيلة لمواجهة الفتن هي التنشئة الإيمانية والاستزادة من الهداية.
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ مهما فسد المجتمع وانتشر الباطل وظهر الانحراف، فينبغي أن نربي أنفسنا وأولادنا على الإيمان، والبحث عن الحق، والثبات على التوحيد والفطرة، وطلب الهداية من الله.
عباد الله
والوسيلة الثانية لمواجهة الفتن صحبة الصالحين والارتباط بأهل الإيمان والبحث عنهم والاعتصام بهم والصبر معهم وعليهم، حيث أشار الله إلى أنهم فتية مجتمعين متآزين آمنوا سويا ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ﴾ واعترضوا على الفساد معا ﴿ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا﴾، والتجأوا إلى الكهف معا ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا..﴾ واعتزلوا المجتمع سويا ورقدوا سويا وبعثوا سويا، ولذلك عقب الله على هذه القصة بأمر النبي ﷺ بقوله: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾
ومن وسائل مواجهة الفتن الصدعُ بالحق، وإظهارُ التوحيد، وإعلانُ العقيدة، والكفرُ بالطاغوت، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً ۖ لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)﴾ إن بقاء المؤمن في المجتمع الفاسد يحتم عليه الإعلانَ عن الحق، والقيامَ بواجب الدعوة إلى الله، والإنكارَ على الباطل، حتى لا يذوب المسلم في ذلك المجتمع وتُطمس هويته، وتتلاشى مبادئه وقيمه، ولا بد من التسلحِ بسلاحِ العلمِ الحقيقي الصحيح، والاعتمادِ على الدليل والحجة والبرهان، ومجادلة أهل الباطل بالسلطان البين.
عباد الله..
وحينما يستفحل الفساد ويطغى الباطل ويشيع المنكر وتظهر الفتن بحيث لا ينفع معها الإنكار، ولا يجدي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الواجب على المسلم هو الاعتزال فرارا بدينه وخوفا على إيمانه ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾ وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّ النبي ﷺ قال: (يوشِكُ أن يَكونَ خيرُ مالِ المسلِمِ غنمًا يتبعُ بِها شَعَفَ الجبالِ ومواقعَ القطرِ يفرُّ بدينِهِ منَ الفتنِ).
ولأن الانسان اجتماعي بطبعه مدني بفطرته فإن العزلة أمر في غاية الصعوبة، وقد يتردد المسلم في هذا العمل ولكن القصة تبين ثمرة هذه الوسيلة وما يحصل للمؤمن بعدها من السعادة والطمأنينة والرحمة والانشراح ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا ﴾ وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة. فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم، ويهجرون ديارهم، ويفارقون أهلهم، ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة، هؤلاء الذين يأوون إلى كهف ضيق خشن مظلم، إنهم يستروحون رحمة الله، ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة ﴿يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ﴾ فإذا الكهف الضيق فضاء فسيح رحيب وسيع، تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء.
ومن وسائل مواجهة الفتن الدعاء والافتقار إلى الله والتجرد من الحول والقوة وطلب الهداية والسداد والرشاد من الله: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾
أَقُوْلُ مَا تَسْمَعُوْنَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ تَعْظِيْماً لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً كَثِيْراً إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ:
وهكذا عباد الله لما ثبت أولئك الفتية على الحق وصمدوا أمام الفتنة وواجهوا الباطل بالثبات على الإيمان الذي نشأوا عليه، أكرمهم الله بمجموعة من الكرامات وحفظهم من كيد الطغاة وأهل الباطل، وخلد ذكرهم في التاريخ وجعلهم أسوة وقدوة للمسلمين على مر الأزمان.
عباد الله..
إن الفتن اليوم تحيط بنا وبنسائنا وشبابنا وفتياتنا وأطفالنا من كل جانب، فما أحوجنا إلى الاستعانة بالله في مواجهتها، والرجوع إلى الكتاب والسنة لمعرفة الطريقة الصحيحة في الثبات على الدين والمحافظة على الإيمان، والكشف عن المنهج الرباني في مواجهة الفتن.
لقد عقب الله في ختام قصة الفتية أصحاب الكهف بأمرين عجيبين للنبي ﷺ بهما ينجو المؤمن من فتنة الدين، الأول الارتباط بالوحي وتلاوة القرآن ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ فالقرآن يبدد كل فتن الشبهات، ويغسل من القلب كل فتن الشهوات، ويرسم للمسلم طريقة التعامل مع الفتنة، ويعرف المسلم بربه وخالقه حق المعرفة، فيعظمه ويحبه ويخشاه، فتزول من قلبه كل فتنة، ولا يصمد أمام إيمانه شيء.
وأما الأمر الثاني وقد أشرنا إليه سابقا وهو ملازمة الصحبة الصالحة والصبر معها قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾
اللَّهُمَّ إنّا نعوذُ بكَ من الفِتَنِ، ما ظهَرَ منها وما بطَنَ، اللهم اعصمنا من الفتن، اللهم جنبنا الفتن، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ونعوذ بك من عذاب القبر، ونعوذ بك من فتنة المسيح الدَّجال، ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم ثبتنا على الإيمان حتى نلقاك، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرف القلوب والأبصار صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم اغفر لنا ما مضى من ذنوبنا واعصمنا فيما بقي من أعمارنا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ، أو أراد مجتمعنا بفساد وفتنة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، ربَّنا اغفِر لنا ولوالدِينا، وارحَمهم كما ربَّونا صِغارًا، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
المرفقات
1664961432_مواجهة الفتن عند الفتية أصحاب الكهف.doc
1664961454_مواجهة الفتن عند الفتية أصحاب الكهف.pdf