مَهْلاً مُسْتَخْدِمِيِ وَسَائِلَ التَواصُلِ الاجْتمَاعِي. 1441/4/23هـ
عبد الله بن علي الطريف
أيها الإخوة: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما: أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» رواه البخاري ومسلم.
ومعنى "قِيلَ وَقَالَ" قال الإمَامُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ: هُوَ هذِهِ الأَخْبَارُ والْإِكْثَارُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْإِرْجَافُ نَحْوُ قَوْلِ النَّاسِ قَالَ فُلَانٌ وَفَعَلَ فُلَانٌ، وَأُعْطِى فُلانٌ كذا ومُنِعَ فُلانٌ كذا، وَالْخَوْضُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي.. وقال ابن عبد البر: الْخَوْضُ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا وَإِنَّمَا جُلُّهَا الْغَلَطُ وَحَشْوٌ وَغِيبَةٌ وَمَا لَا يُكْتَبُ فِيهِ حَسَنَةٌ وَلَا سَلِمَ الْقَائِلُ وَالْمُسْتَمِعُ فِيهِ مِنْ سَيِّئِةِ.
وقال شيخنا محمد العثيمين: قيل وقال معناه أن يَشْتَغَلَ الإنسانُ بالكلامِ بنقلِه قالَ فلانٌ وقِيلَ كذا وقِيلَ كذا كما يوجد في كثير من المسرفين الآن، الذين يعمرون مجالسهم بقولهم ماذا قيل اليوم، وقال فلان وماذا تقول في فلان وما أشبه ذلك من الكلام الذي يضيع به الوقت..
أيها الإخوة: وَلَقَدْ حدثَ في هذا الزمانِ من وسائل الاتصال الاجتماعِي ما فاقَ ما عناه الرسولُ ﷺ بقوله: «وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ» ووسائلُ التواصلِ الاجتماعِي: هي نوعٌ منْ التكنولوجيا تُسْتَخْدَمُ مِنْ خِلَالِ شبكةِ الإنترنت العالمية، وهي التويتر الاستقرام والفيس بك والواتس أب والسناب شات والتلجرام وغيرها.. ويُدخَلْ عليها المستخدم مِنْ خِلَالِ أجهزةِ الكمبيوتر، والأجهزةِ اللوحيةِ، أو الهواتفِ الذكيةِ، وتُتيحُ هذه الوسائلُ لـمُستخدمِيها إمكانيةَ التفاعلِ مع الـمُستخدمين الآخرين كالعائلةِ والأصدقاءِ.. وعمومِ شُعوبِ الدُنيا، سواءً بالكتابةِ أو الصُورِ أو تسجيلِ الأَصْواتِ أو البثِ المباشرِ صوتاً أو صوتاً وصورةً، ونَشرَ هذا التفاعلِ وتناقُلَه، والتعليقَ عليه بخيرٍ وشرٍ.. وعليه فهذه الوسائلُ أيسرُ طريقٍ للوقوع فيما هو أشد من النهي عن "قِيلٍ وَقَالَ"..
ولها أضرارٌ منها: تَجَرَأَ بعضُ المستخدمين من خلالها على الجناية على الآخرين، أو انتهاك خصوصياتهم أو أعراضهم وفَضْحِها، وقد نهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عن ذلك فقد صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ». رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وقال الألباني حسن صحيح. وقد أصدرت الدولة نظاماً يجرم من اعتدى عبر هذه الوسائل واشتمل على عقوبة تعزيرية منها السجن والغرامات والمنع من استخدام هذه الوسائل.
ومن أضرارها أنها ملأت الدنيا وشغلت الناس، فقد انتشر استخدامُ هذه الوسائل بين الناسِ انتشار النار بالهشيم صغيرهم وكبيرهم، خاصتهم وعامتهم، وكل يوم يزداد مستخدموها، وقد أشارت الإحصاءات أن مُستخدِم هذه الوسائل حول العالم يُقارب ثلاث مليارات.. فصرت ترى كثيراً من الناس رؤوسهم مُطرقة، وهاماتُهم جَاثِمَةٍ، ووجُوهم مُكِبَةً على تلك الأجهزة وركزوا عيونهم في تلك الشاشات، لا فرق بين راكبٍ ولا ماشيٍ ولا جالسٍ.. فمنهم من يقرأ ومنهم من يكتب، ومنهم من يُعَلِقُ، ومنهم من يصور ويرسل، ومنهم من يُغرد ومنهم من يسنب ومنهم المرسل والمستقبل، فترى المبتسم وترى الغضبان والمنبهر.. ومن أضرارها أنها أَفْقَدَت المجالس أطايب حديثها، وجميلَ حواراتِها وصادقَ مشاعرِها، تُسرحُ طرفَك في عموم الجالسين فتجدهم قد أطرقوا على أجهزتهم وعاش كل واحد منهم جواً خاصاً.. فسرقت هذه الوسائل متعة المجالس وبنت حواجز أفسدتها..
أيها الإخوة: وهذه السهولة في التداول سهلت تناقل الأخبار غير الموثوقة أو الكاذبة، وصارت مجالاً لنشر الشائعات في المجتمع والإرجاف فيه وقد توعد رسول الله ﷺ من تعمد الكذب ونشره، فَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَ في حديث الرُؤُيَا الطَوِيل قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟» قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ: «مَا شَاءَ اللَّهُ» فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟» قُلْنَا: لاَ، قَالَ: «لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ، بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ وَيُدْخِلُ ذَلِكَ الكَلُّوبَ [الحديدة التي ينشل بها اللحم ويعلق] فِي شِدْقِهِ [جانب فمه] فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ [يصح ويبرأ] شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالاَ: هو الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.» رواه البخاري. فاحذروا يا رواد وسائل التواصل الاجتماعي من التعرض لهذا الوعيد الشديد..
ومن أضرار هذه الوسائل إتاحة كل شيء لاطلاع الأطفال والمراهقين، فيطلعون على ما لا يليق من الصور والمقاطع وفي هذا هدم لأخلاق الأجيال..
وأعظم الضرر ما يقوم به بعضُ مستخدمي هذه الوسائل من التعدي على ثوابت ديننا الحنيف، وما يمارسه بعضهم من تشكيكٍ، وما يطرحه من شُبه لا تجد من يتصدى لها ويفندُها، والغالبُ أن من طالع الشبهة وهو غير عالمٍ بها يحتاج لمن يردها، وربما لا يجد فيحتار، والاطلاعُ على الشُبَهِ منهيٌ عنه فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ: أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِنُسْخَةٍ مِنْ التَّوْرَاةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ نُسْخَةٌ مِنْ التَّوْرَاةِ أَصَبْتُهَا مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ.؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَجَعَلَ عُمَرُ يَقْرَأُ، وَوَجْهُ رَسُولِ اللهِ يَتَغَيَّرُ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ [أَيْ: فَقَدَتْك، وَأَصْلُهُ الدُّعَاءُ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ اسْتُعْمَلُ فِي التَّعَجُّبِ] أَمَا تَرَى وَجْهَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.؟ فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَغَضَبِ رَسُولِهِ، رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ.؟ [أَيْ: أمتحيِّرون في دينكم حتى تأخذوا العلم من غير كتابكم ونبيكم] وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً [أَيْ: واضحة صافية خالصة خالية عن الشرك والشبهة] وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَصْبَحَ مُوسَى فِيكُمْ فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي، لَضَلَلْتُمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي أَنَا حَظُّكُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنْتُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ. رواه أحمد والدارمي والبيهقي وحسنه الألباني.
ومن أضرارها إذكاء القبلية والعنصرية بين القبائل والشعوب وكل هذا من عمل الجاهلية المنهي عنه.. والنيل من قيم المجتمع ومحاولة تقويضها.. اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا...
الثانية:
أيها الإخوة: وما من شرٍ إلا وفي ثنياه الخير لمن وفُق لاقتناصِه، ووسائلُ التواصلِ الاجتماعيِ فيها خيرٌ لمنْ وُفِقَ لاغتنامِه: من ذلك أنها تتيحُ للإنسانِ التعبيرَ عما في نفسه، وتتيحُ له إيصال صوته لأي مسؤول بسهولةٍ وحرية لكنه يتحمل تبعاتها..
ومن فوائدها التواصل مع العائلة والأسرة بيسر وسهولة، تواصلاً مكتوباً ومسموعاً ومرئياً، وفيها اختصار للمسافات والأوقات..
ومن فوائدها: أنها فتحت لكثير من الناسِ فُرصَ عملٍ مربح، فيَشغل وقته بخير، يعلن لهذا، ويروج سلعة لذاك، لكن على من سلك هذا المسلك أن يتقى الله ولا يُروج إلا صدقاً، ولا يقول إلا حقاً، وإلا كانت أعمالُه عليه وبالاً وحسرة..
ومن فوائدها تبادل الخبرات والتجارب الحياتية بين الناس وفتحت نقل الخبرات بسرعة وسهولة، ويسرت تكوين صداقاتٍ بين الناس، وأداء كثيرٍ من الأعمال بيسر وسهولة.
ومن أعظم وأجل فوائدها أنها فتحت مجالات للدعوة إلى الله في كل اللغات فأصبح الموفقون يدعون إلى الله عبرها، فدخل في دين الله ملايين البشر وتصححت عقائد كثير من المسلمين الذين لُبس عليهم دينهم من أئمة الضلال ودعاة الباطل، وكُشِفَتْ أباطيلُهم في وقت لا يستطيع الداعي إلى الله أن يصل إليهم لأي سبب مادي أو سياسي أو غيره. وبدأنا نرى تَحَقق مَا رَوَاهُ تَمِيمُ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ» رواه أحمد وحسنه الألباني.
أيها الإخوة: اجعلوا استخدامَ هذه الوسائل فيما يُوصِلُ نفعًا، ويُثمِرُ خيرًا، ويدفعُ شرًّا، ويكونُ في الآخرة ذُخرًا.. لتكُن كتاباتُكم ومُشاركاتُكم ومناشِطُكم في تلك الوسائل سببًا يُقرِّبُكم إلى المولَى الكريم، ويُدنِيكم من دار كرامَته، ويُعلِيكم في نعيم جنَّته. «من دعَا إلى هُدى كان له من الأجرِ مثلُ أُجُور من تبِعَه، لا ينقُصُ ذلك من أُجُورهم شيئًا، ومن دعَا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثمِ مثلُ آثامِ من تبِعَه، لا ينقُصُ ذلك من آثامِهم شيئًا» رواه مسلم عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ويا من تورَّطتُم في إنشاءِ حساباتٍ تنشُرُ القبائِحَ والمُنكَرات، وتدعُو إلى الرذائِلِ والمُوبِقات، ستحمِلُون أوزارَكم وأوزارَ من غوَى بغوايتِكم، وضلَّ بضلالِكم. فساءَ ما تزِرُون، وبِئسَ ما تحمِلُون.
وقد خابَ المُصِرُّ الذي لا يرجِع، وشقِيَ المُسترسِلُ الذي لا يُقلِع، (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11]. والتائِبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ له.
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].