من وحي صفقة شاليط

عمر الدهيشي
1432/11/23 - 2011/10/21 07:03AM
خطبة من وحي صفقة شاليط 23/11/1432هـ
عباد الله.. أعلى الله تعالى مكانة هذه الأمة واختصها دون سائر الأمم ، وميزها على ما سواها من الملل، حيث أرسل إليها خير الرسل وأنزل عليها أفضل الكتب (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه) وما ذاك إلا لخيرية هذه الأمة وفضلها وعلو شأنها فاستحقت المكانة العالية والدرجة الرفيعة عند خالقها وبارئها سبحانه فعن حكيم بن معاوية عن أبيه قال:قال رسول الله ﷺ (أنتم توفون سبعين أمة،أنتم خيرها وأنتم أكرم على الله عز وجل )رواه الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد. فنالت بذلك العزة في نفسها والفخر والاستعلاء على من خالفها وتنكب سبيلها (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) مما أورثها أن تكون أكثر أهل الجنة نزلا وأبلغهم عددا فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال لنا رسول الله ﷺ : (أما ترضون أن تكون ربع أهل الجنة) قال: فكبرنا، ثم قال: (أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟) فكبرنا،ثم قال: ( إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة) رواه البخاري ومسلم.
عباد الله.. هذا قَدَر هذه الأمة الذي فرض عليها وحُكْم الله عليها بأنها خير الأمم وأفضلها، إلا أن هذا القدر مرهون بواجبات شرعية وفرائض تعبدية وتكاليف ربانية ، ليوافق القدر الكوني القضاء الشرعي ، فتتبوأ حينئذ المكانة السامية والمنزلة العالية الرفيعة اللائقة بها، قال تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) فالخيرية والأفضلية مقترنة بالإيمان بالله تعالى وعمل الصالحات واجتناب المنهيات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..وهو ما تجلى في العهد النبوي وخلفائه الراشدين وما تلاه من عصور القوة والعزة والغلبة ، حتى ألقى الإسلام بظلاله على بلاد الروم وفارس ومن غربي الصين إلى جنوب فرنسا ومن شمال إفريقيا إلى اسبانيا بقوة دولته وعزة رجاله، وما حادثة ربعي بن عامر رضي الله عنه مع رستم إلا أنموذجاً للعزة والرفعة السائدة في ذلك الزمن قال ابن كثير رحمه الله:قالوا: ثم بعث سعد بن وقاص قائد المسلمين في القادسية ربعي بن عامر، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة، والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت، واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه.فقالوا له: ضع سلاحك.فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت.فقال رستم: ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فحرق عامتها.فقالوا له: ما جاء بكم؟فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله.قالوا: وما موعود الله؟قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟قال: نعم!كم أحب إليكم؟ يوما أو يومين؟قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا رؤساء قومنا.فقال: ما سن لنا رسول الله أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل.فقال: أسيدهم أنت؟قال: لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم.فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا، تدع دينك إلى هذا الكلب أما ترى إلى ثيابه؟فقال: ويلكم لا تنظرون إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي، والكلام والسيرة...فالعزة والرفعة الإيمانية شعور معنوي يمتلئ من الداخل حتى يظهر على الجوارح والفكر ويسيطر على العقل والخلق فيورث عملاً وجهداً مسددا على نور من الله رجاء موعود الله تعالى.. وهذه العزة والرفعة المتمثلة في نفوس المؤمنين هي التي دعت ذلك العلج من ملوك الروم أن يظفر ولو بقبلة من أحد الصحابة حتى يفك قيده ويخلي سبيله من الأسر مع ثمانين من أصحابه فقد قال له: أتقبل رأسي و أطلق سراحك ،فيجيب الصحابي المؤمن : لا أفعل . فيقول الملك : و أطلق معك ثمانين أسيراً من قومك . و يطرق الصحابي هنيهة ، فلا يرى بأساً أن يقبل رأس ملك الروم إذا كان في ذلك فك أسار إخوانه من الأسرى ، فيقول للملك : أما هذه فنعم و يتقدم منه و يقبل رأسه . و يعود عبد الله بن حذافة السهمي و الأسرى إلى المدينة ، فلما رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه احتضنه و قبل رأسه . فقد بلغت العزة والرفعة والخيرية المعنوية والحسية مبلغها في نفوس المؤمنين حين امتثلوا هذا الدين في نفوسهم وأظهروه في خلقهم وسارت عليه سيرتهم حتى أضحى سمة لهم يقر بها أعداءهم وتتجلى بها طباعهم.
عباد الله.. أما إن تنكب المسلمون الصراط وآثاروا الحياة الدنيا واطمأنوا بها على حساب الآخرة والعمل لها، وقدموا هوى النفس على طاعة الرب، ومصلحة الفرد على منفعة المجتمع، فإن الخيرية والأفضلية، والعزة والغلبة تتقهقر بتقهقر معاني الإيمان في القلب وشعائر الإسلام في الظاهر ، ففي الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى قال:( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) رواه أبو داود. وعن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى : (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها . فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن . فقال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت) رواه أبو داود ، فاللهم رحماك رحماك اللهم ردنا إليك ردا جميلا اللهم ردنا إليك ردا جميلاً اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا اللهم من الراشدين أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى
عباد الله.. في الأيام الماضية القريبة عقدت صفقة تبادل أسرى مسلمين مع أسير يهودي، فبقدر فرحنا وسرورنا لفرح إخواننا المفرج عنهم وذويهم وأطفالهم فالمسلم يفرح لفرح إخوانه ويحزن لحزنهم ففي الحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)رواه مسلم وخضوع وخنوع الطغمة اليهودية في الاستجابة لمطالب إخوتنا، إلا أنه أحزننا تلك القيمة المعنوية والمقايضة العجيبة بين جندي صعلوك لما يتجاوز العشرين ربيعاً وبين قامات علمية،ورجالات جهادية،ونفوس أبية، تجاوزت الألف بقليل ألهذا الحد وصلت قيمة الرجل المسلم وبلغت حاله في زمن لا مجال فيه لعيش كريم وحال محترمة إلا للقوي القادر ، وكيف بنا ونحن خير أمة أخرجت للناس فهي أخرجت وأبرزت لتكون في الطليعة وتكون لها القيادة، فالاعتقاد الموافق للفطرة والنظام الصحيح والخلق الصحيح والمعرفة الصحيحة والعلم الصحيح كل ذلك في جعبتها ومما ورثته من تعاليم دينها ورسالة ربها، فالواجب أن تبرز وتعطي لا أن تهان وتحرم ، وتظفر وتتقدم لا أن تتأخر وتتقهقر ،هذا واجبها الذي يحتمه عليه مكانها وتحتمه عليها غاية وجودها.
عباد الله.. مكانة المسلم وقدسيته جلها رسول الله صلى بكلمات وهو يطوف حول الكعبة بعد فتح مكة المكرمة.. فقد قال وهو ينظر إلى الكعبة:{ما أعظمك وأعظم حرمتك، وما أطيبك وأطيب ريحك، والمسلم أعظم حرمة عند الله منك} فالمسلم يكتسب هذه القدسية وهذه الحرمة من عقيدته التي يرتكز عليها في عبادته وليس بولاءاته ليهودي أو نصراني.ويكتسبها من صفاء نفسه التي أعلى الإسلام غرائزها وهذب طباعها.ويكتسبها من طهارة قلبه النابض بحب الله ورسوله.ويكتسبها من إيمانه المتناغم مع سلوكه المثالي والرفيع.ويكتسبها من ذهنه الخاشع لجلال الله، والمتأمل في الملك والملكوت.ويكتسبها من طهارة باطنه، ونظافة ظاهرة، والتسامي بآدميته إلى آفاق الفضائل ومكارم الأخلاق.ويكتسبها من إبائه الضيم ورفضه الهوان،.ويكتسبها من إنسانياته المتمثلة في الرحمة والعطف والتعالي عن سفاسف الأمور.ولذلك فإن المسلم عظيم الحرمة عند الله، حتى إن حرمته أعظم من حرمة الكعبة، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم. أحسن الله الحال وأعقبى بحسن المآل.. هذا وصلوا وسلموا
المشاهدات 1914 | التعليقات 0