من هم أهل السنة والجماعة؟
عاصم بن محمد الغامدي
1437/12/29 - 2016/09/30 05:31AM
[align=justify]من هم أهل السنة والجماعة؟
الخطبة الأولى:
الحمد لله مدبر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، المنفرد بالكمال والتمام، الملكِ القدوسِ السلامِ، قدَّر الأمور فأحسن إحكام الأحكام، وبقدرته هبوب الريح وتسيير الغمام، {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ}.
أحمده حمدًا يبقى على الدوام، وأصلي وأسلمُ على رسوله محمد شفيعِ الأنام، وعلى آله وأصحابه الكرام الأعلام، ومن تبعهم وعلى طريقهم استقام، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه ولا تعصوه، وتوبوا إليه واستغفروه، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
عباد الله:
من أعظمِ ما حلَّ بالمسلمين، وفاةُ خاتمِ الأنبياء والمرسلين، فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أولَ ظهورِ الشرِّ بارتداد العرب، وأولَ انقطاع الخيرِ، وأولَ نقصانِه.
قال عليه الصلاة والسلام: "إذا أصيبَ أحدُكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب". [رواه الدارميُّ وصححه الألباني].
وما فقدَ الماضون مثلَ محمدٍ
ولا مثلَه حتَّى القيامةِ يُفقدُ
عن أنس رضي الله عنه قال: "لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا أَيْدِيَنَا مِنَ التُّرَابِ، وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا". [رواه الترمذيُّ وصححه الألبانيُّ].
ومع هول الموقف، وصعوبة الأمر، فقد قام أبو بكر رضي الله عنه خطيبًا في المسجد يقول: "أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ، ومَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حيٌّ لَا يَمُوتُ". [رواه ابن حبانَ وصححه الألبانيُّ].
عباد الله:
هذا الموقف للصديق رضي الله عنه، يبين حجم الإيمان في قلبه، ويوضح عمق فهمه وعلمه، ويؤكد أن أعلم الناس بدين الله، بعد نبيه صلى الله عليه وسلم، أصحابُه الكرام رضوان الله عليهم، ومن سار على نهجهم من التابعين وعلماء المسلمين.
فكلُّ حادثةِ في زماننا إن وقعت في عهد الصحابة رضي الله عنهم، أو تابعيهم أو القرون المفضلة، فالحق فيما قالوه، وإن اختلفوا فالصواب لا يكون في غير ما اختلفوا عليه، ولا يمكن أن تحيد جميع الأمة عن الحق، كما أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال: "لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ". [رواه البخاريُّ ومسلم].
أيها المسلمون:
ما فتئت البدع تنتشر، بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فبدأ الخوارج بتكفير المسلمين بالذنوب، ولم يسلم منهم حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي سنة سبع وثلاثين من الهجرة أقبل نفر من خوارج البصرة إِلى إخوانهم من أَهل الكوفة، فلقوا عبدَ اللّه بن خباب رضي الله عنه ومعه امرأَته، فقالوا له: من أَنت؟ قال: أَنا عبدُ اللّه بن خبَّاب صاحبُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فسأَلوه عن أَبي بكرٍ وعمَر وعثمان وعلي، فأَثنى عليهم خيرًا، فذبحوه فسال دمه في الماء، وقتلوا المرأَة وهي حامل مُتِمّ، فقالت: أَنا امرأَة، أَلا تتقون الله؟! فبقروا بطنها. [أسد الغابة 3/119].
ثم ظهر بعد الخوارج قوم قالوا أن الإيمان ثابت لا يزيد ولا ينقص، وقال بعضهم أنه قول بلا عمل، فمن نطق الشهادتين فهو كامل الإيمان، لا يضره ما صنع من ذنوب وآثام.
ويا عجبًا لهؤلاء ألا يعلمون أنهم بقولهم هذا يجعلون إيمان أفسق الفاسقين كإيمان أتقى المتقين؟
ثم ظهرت فئة لسان حالها يقول: لا نقبل وصف الله تعالى بما وصف به نفسه في القرآن، أو وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثابتة، وخالفوا بذلك منهج الصحابة والتابعين الذين كانوا يصفونَ الله بِمَا وصف بِهِ نَفسه، وَبِمَا وَصفه بِهِ رَسُوله من غير تَحْرِيف، وَلَا تَعْطِيل، وَمن غير تكييف وَلَا تَمْثِيل.
جاء رجل إلى الإمام مالكٍ رحمه الله فسأله عن كيفية استواء الله تعالى على عرشه، فقال له الإمام: الاستواء معلوم؛ لأن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، والكيف مجهول، لأنه لم يرد في كتاب ولا سنة، والإيمان به واجب؛ لأنه خبر من عند الله تعالى، والسؤال عنه بدعة، لأن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ما سألوا عنه.
لماذا يفترض البعض أن اتحاد الأسماء يلزم منه اتحاد الحقائق؟
أليس للمخلوقين صفات تتحد أسماؤها وتختلف حقائقها؟
هل أقدام الإنسان مثلُ أقدام الحيوان؟
هل الماء النازل من السحاب كالماء الذي في المحيط؟
وكذلك اتحاد الأسماء بين صفات الله تعالى، وصفات بعض خلقه، ولله المثل الأعلى، لا يلزم منه التشبيه أو التمثيل أو التكييف، بل صفات الله تعالى تليق بجلاله وعظمته، وليست كصفات أحد مخلوقاته، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
عباد الله:
النجاة يوم الدين، لا تكون إلا باتباع سَنَنِ الصالحين، قال عليه الصلاة والسلام: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بني إسرائيل حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بني إسرائيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً»، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي». [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
وقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي، وسنةِ الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنواجذِ، وإيَّاكم ومحدَثاتِ الأمور، فإن كلَّ بدعة ضلالةٌ". [رواه الترمذي وصححه الألباني].
ومقاومة أهل البدع سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظلَّ، ولا يتكلمَّ، ويصومَ، قال: "مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه".[رواه أبو داود وصححه الألباني].
ومن أحيا سنة أمات بدعة، ومن أحيا بدعة أمات سنة.
فمرحى للمؤمنين بالله تعالى وأسمائه وصفاته الثابتة في الكتاب والسنة، الرافضين عبادة الله سبحانه بما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، أو الخلفاء الراشدون المهديون من بعده، فتلك هي الأمة الناجية، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروا إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فإن للبدعة أنواعًا، منها إنشاء عبادة لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، ومنها تخصيص بعض العبادات بأيام أو أزمنة لم يثبت تخصيصها بها.
وقد قارب عامنا الهجري على الانتهاء، ومن البدع التي تصاحب هذه الأيام، ما يتناقله البعض من الحث على ختم صحيفة العام بعمل صالح، وطلبه الصفح والتحلل من إخوانه، وذكرِه ما لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم من طي صحائف الأعمال في نهاية العام، ورفعها إلى الله تعالى، وبعضهم يتجاوز ذلك كلَّه فيحيي هذه الأيام باحتفالات تشبه احتفالات النصارى، وكل ذلك من البدع، التي ينبغي لمن وقع فيها المبادرة للتوبة، فليس لآخر العام عبادة خاصة به، ومن أخطأ على مسلم فعليه المبادرة بطلب العفو والمسامحة، وليس لذلك ارتباط بآخر العام، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن من تشبه بقوم فهو منهم، وعلى المسلم الحذر من ترويج البدع، والابتعاد عن إشهارها ونشرها، والتأكد من مضمون رسائله وأخباره قبل دلالة الناس عليه.
والمبادرة بالتوبة من جميع الذنوب، فإنها أكثر تسلطًا على القلوب، ألا ترون كيف أثَّرت على الحجر الصلد؟ فتأثيرها على القلب اللين أكبر وأشد.
ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، وثمرة العلم العمل، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا رحمكم الله من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا لتعظيم شعائرك، واجعلنا ممن خافك واتقاك واتبع رضاك.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين المصلحين، واغفر لنا خطايانا في يوم الدين.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًا، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد يعز فيه أولياؤك، ويذل فيه أعداؤك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم كن لإخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم كن لجنودنا المرابطين على الحدود مؤيدًا ونصيرًا، ومعاونًا وظهيرًا، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب رأيهم ورميهم، واجمع على الحق كلمتهم، واجعل الدائرة على عدوك وعدوهم.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وتولَّ جميع أمرهم، اللهم ارحم موتاهم، واشف مرضاهم، وداو جرحاهم، وفك أسراهم، وأمن روعاتهم، واستر عوراتهم يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك بكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن دينك، ويحاربون أولياءك، اللهم عليك بهم وبمن عاونهم على المسلمين، يا قوي يا عزيز.
[/align]
الخطبة الأولى:
الحمد لله مدبر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، المنفرد بالكمال والتمام، الملكِ القدوسِ السلامِ، قدَّر الأمور فأحسن إحكام الأحكام، وبقدرته هبوب الريح وتسيير الغمام، {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ}.
أحمده حمدًا يبقى على الدوام، وأصلي وأسلمُ على رسوله محمد شفيعِ الأنام، وعلى آله وأصحابه الكرام الأعلام، ومن تبعهم وعلى طريقهم استقام، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه ولا تعصوه، وتوبوا إليه واستغفروه، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
عباد الله:
من أعظمِ ما حلَّ بالمسلمين، وفاةُ خاتمِ الأنبياء والمرسلين، فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي، وماتت النبوة، وكان أولَ ظهورِ الشرِّ بارتداد العرب، وأولَ انقطاع الخيرِ، وأولَ نقصانِه.
قال عليه الصلاة والسلام: "إذا أصيبَ أحدُكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب". [رواه الدارميُّ وصححه الألباني].
وما فقدَ الماضون مثلَ محمدٍ
ولا مثلَه حتَّى القيامةِ يُفقدُ
عن أنس رضي الله عنه قال: "لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا أَيْدِيَنَا مِنَ التُّرَابِ، وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا". [رواه الترمذيُّ وصححه الألبانيُّ].
ومع هول الموقف، وصعوبة الأمر، فقد قام أبو بكر رضي الله عنه خطيبًا في المسجد يقول: "أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ، ومَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حيٌّ لَا يَمُوتُ". [رواه ابن حبانَ وصححه الألبانيُّ].
عباد الله:
هذا الموقف للصديق رضي الله عنه، يبين حجم الإيمان في قلبه، ويوضح عمق فهمه وعلمه، ويؤكد أن أعلم الناس بدين الله، بعد نبيه صلى الله عليه وسلم، أصحابُه الكرام رضوان الله عليهم، ومن سار على نهجهم من التابعين وعلماء المسلمين.
فكلُّ حادثةِ في زماننا إن وقعت في عهد الصحابة رضي الله عنهم، أو تابعيهم أو القرون المفضلة، فالحق فيما قالوه، وإن اختلفوا فالصواب لا يكون في غير ما اختلفوا عليه، ولا يمكن أن تحيد جميع الأمة عن الحق، كما أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال: "لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ". [رواه البخاريُّ ومسلم].
أيها المسلمون:
ما فتئت البدع تنتشر، بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فبدأ الخوارج بتكفير المسلمين بالذنوب، ولم يسلم منهم حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي سنة سبع وثلاثين من الهجرة أقبل نفر من خوارج البصرة إِلى إخوانهم من أَهل الكوفة، فلقوا عبدَ اللّه بن خباب رضي الله عنه ومعه امرأَته، فقالوا له: من أَنت؟ قال: أَنا عبدُ اللّه بن خبَّاب صاحبُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فسأَلوه عن أَبي بكرٍ وعمَر وعثمان وعلي، فأَثنى عليهم خيرًا، فذبحوه فسال دمه في الماء، وقتلوا المرأَة وهي حامل مُتِمّ، فقالت: أَنا امرأَة، أَلا تتقون الله؟! فبقروا بطنها. [أسد الغابة 3/119].
ثم ظهر بعد الخوارج قوم قالوا أن الإيمان ثابت لا يزيد ولا ينقص، وقال بعضهم أنه قول بلا عمل، فمن نطق الشهادتين فهو كامل الإيمان، لا يضره ما صنع من ذنوب وآثام.
ويا عجبًا لهؤلاء ألا يعلمون أنهم بقولهم هذا يجعلون إيمان أفسق الفاسقين كإيمان أتقى المتقين؟
ثم ظهرت فئة لسان حالها يقول: لا نقبل وصف الله تعالى بما وصف به نفسه في القرآن، أو وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثابتة، وخالفوا بذلك منهج الصحابة والتابعين الذين كانوا يصفونَ الله بِمَا وصف بِهِ نَفسه، وَبِمَا وَصفه بِهِ رَسُوله من غير تَحْرِيف، وَلَا تَعْطِيل، وَمن غير تكييف وَلَا تَمْثِيل.
جاء رجل إلى الإمام مالكٍ رحمه الله فسأله عن كيفية استواء الله تعالى على عرشه، فقال له الإمام: الاستواء معلوم؛ لأن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، والكيف مجهول، لأنه لم يرد في كتاب ولا سنة، والإيمان به واجب؛ لأنه خبر من عند الله تعالى، والسؤال عنه بدعة، لأن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ما سألوا عنه.
لماذا يفترض البعض أن اتحاد الأسماء يلزم منه اتحاد الحقائق؟
أليس للمخلوقين صفات تتحد أسماؤها وتختلف حقائقها؟
هل أقدام الإنسان مثلُ أقدام الحيوان؟
هل الماء النازل من السحاب كالماء الذي في المحيط؟
وكذلك اتحاد الأسماء بين صفات الله تعالى، وصفات بعض خلقه، ولله المثل الأعلى، لا يلزم منه التشبيه أو التمثيل أو التكييف، بل صفات الله تعالى تليق بجلاله وعظمته، وليست كصفات أحد مخلوقاته، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
عباد الله:
النجاة يوم الدين، لا تكون إلا باتباع سَنَنِ الصالحين، قال عليه الصلاة والسلام: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بني إسرائيل حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بني إسرائيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً»، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي». [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
وقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي، وسنةِ الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنواجذِ، وإيَّاكم ومحدَثاتِ الأمور، فإن كلَّ بدعة ضلالةٌ". [رواه الترمذي وصححه الألباني].
ومقاومة أهل البدع سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم، ولا يقعد، ولا يستظلَّ، ولا يتكلمَّ، ويصومَ، قال: "مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه".[رواه أبو داود وصححه الألباني].
ومن أحيا سنة أمات بدعة، ومن أحيا بدعة أمات سنة.
فمرحى للمؤمنين بالله تعالى وأسمائه وصفاته الثابتة في الكتاب والسنة، الرافضين عبادة الله سبحانه بما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، أو الخلفاء الراشدون المهديون من بعده، فتلك هي الأمة الناجية، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروا إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فإن للبدعة أنواعًا، منها إنشاء عبادة لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، ومنها تخصيص بعض العبادات بأيام أو أزمنة لم يثبت تخصيصها بها.
وقد قارب عامنا الهجري على الانتهاء، ومن البدع التي تصاحب هذه الأيام، ما يتناقله البعض من الحث على ختم صحيفة العام بعمل صالح، وطلبه الصفح والتحلل من إخوانه، وذكرِه ما لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم من طي صحائف الأعمال في نهاية العام، ورفعها إلى الله تعالى، وبعضهم يتجاوز ذلك كلَّه فيحيي هذه الأيام باحتفالات تشبه احتفالات النصارى، وكل ذلك من البدع، التي ينبغي لمن وقع فيها المبادرة للتوبة، فليس لآخر العام عبادة خاصة به، ومن أخطأ على مسلم فعليه المبادرة بطلب العفو والمسامحة، وليس لذلك ارتباط بآخر العام، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن من تشبه بقوم فهو منهم، وعلى المسلم الحذر من ترويج البدع، والابتعاد عن إشهارها ونشرها، والتأكد من مضمون رسائله وأخباره قبل دلالة الناس عليه.
والمبادرة بالتوبة من جميع الذنوب، فإنها أكثر تسلطًا على القلوب، ألا ترون كيف أثَّرت على الحجر الصلد؟ فتأثيرها على القلب اللين أكبر وأشد.
ثم اعلموا أن ثمرةَ الاستماع الاتباع، وثمرة العلم العمل، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا رحمكم الله من طاعته، وصلُّوا وسلِّموا على خير الورى طُرًّا، فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الآلِ والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا لتعظيم شعائرك، واجعلنا ممن خافك واتقاك واتبع رضاك.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين المصلحين، واغفر لنا خطايانا في يوم الدين.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًا، سخاءً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد يعز فيه أولياؤك، ويذل فيه أعداؤك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم كن لإخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم كن لجنودنا المرابطين على الحدود مؤيدًا ونصيرًا، ومعاونًا وظهيرًا، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب رأيهم ورميهم، واجمع على الحق كلمتهم، واجعل الدائرة على عدوك وعدوهم.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وتولَّ جميع أمرهم، اللهم ارحم موتاهم، واشف مرضاهم، وداو جرحاهم، وفك أسراهم، وأمن روعاتهم، واستر عوراتهم يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك بكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن دينك، ويحاربون أولياءك، اللهم عليك بهم وبمن عاونهم على المسلمين، يا قوي يا عزيز.
[/align]