من مشاعر الأبوة

سامي بن محمد العمر
1441/12/16 - 2020/08/06 12:02PM

من مشاعر الأبوة

أما بعد:
حين قضى الله أمره، وأنفذ حكمه، فُتحت من السماء أبوابها، وفُجرت من الأرض عيونها، والتقى المتفجر والمنهمر على أمر قد قدر، وتكونت منهما جبال لا كالجبال لتغرق أهل الكفر والضلال..
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 9 - 14]
وحُق لنوح عليه السلام أن يفرح بنصر الله له بعد أن نادى نداء المغلوب، ودعا دعاء الغاضب..
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26، 27]
لكن الفرحة لم تتم في الجسد النبوي الكريم؛ إذ يبصر عليه السلام ابناً له لم يركب السفينة، وهو يحاول الهرب في معزل من تلك الأمواج القاتلة؛ فتستيقظ فيه الأبوة الملهوفة، الحنونة العطوفة، التي طالما صارعت من الأبناء فتوتهم، وعالجت منهم عنادهم وقوتهم.
«يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ» ..
الأبوة الرحومة... تسري في جسد كل أب، وتملأ منهم كل قلب {فطرة الله التي فطر الناس عليها}
الأبوة الرؤوفة... تتمنى الخير لفلذات أكبادها، وترجو الفلاح لأبنائها، وإن فرطت أو أفرطت.
الأبوة... رابطة صنعها الله؛ من الصعب تخيل انفصامها، ومن البعيد انفطارها وانقسامها.
الأبوة... التي تدفع الأب لتكرار النصيحة، وترديد الموعظة، والغضب عند التقصير، والفرح باليسير.
الأبوة... التي يتجلد بها الأب في النوائب، ويتدثر بها في المصائب، ويتقوى بها كل يوم لطلب الرزق وتوفير المعاش.
تلك الأبوة معاشر الأبناء... هي التي تُقابل - إلا من رحم الله - بالعناد، وتُعالج بالصدود والبعاد.
تلك الأبوة معاشر الأبناء... هي التي تجد - إلا من رحم الله - قسوة في التعامل، وشدة في الخطاب،
تلك الأبوة معاشر الأبناء... كأسٌ ستشربون كدره وصفوته، وطعمٌ ستجدون حلوه ومرارته.. فهلا اعتبرتم من مشهد نوح عليه السلام وابنه الكافر العاق دروسًا تفتحون بها ما استغلق من الأذهان، وتجددون بها ما بلي من الإيمان، وتكتشفون بها عاقبة العناد، ونهاية الغفلة والرقاد.
«يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ» ..
وكالعادة.. لم تكن البنوة المغرورة، والفتوة المتهورة، والعقول قليلة الخبرة؛ لتحفل بالأبوة الملهوفة والعقول المجربة.
وكالعادة.. تفزع البنوة إلى التفكير بعقولها السالمةِ من طَرْق الحوادث، الغضةِ من خبرات السنين، لتأتي بالحلول السريعة على المصائب العظيمة،
بالحلول التي تفكر في اللحظة الحاصلة دون اللحظات القادمة.
تلك العقول التي طالما فتحت أبوابها لدعاة تحرير العقول - زعموا - فجعلوها تتمرد على كل أب وأم وسنة وكتاب ورسول ورب!
ليقودها ذاك التحرر المزعوم والتمرد المذموم إلى حلول كحل ابن نوح عليه السلام:
«قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء» ..
أين يريد الفرار؟ وهو يرى الأمواج من حوله أعلى من الجبال التي يريد الاحتماء بها؟
أين الفرار؟ وهو يرى مصير الناس الذين سبقوه في ميادين الكفر والضلال تتهاوى صريعة غريقة أمام بطش الله وسطوته.
أما كانت هناك بقية من عقل تردع عن مقولة التحدي والتكبر والعناد التي تفوه بها هذا الابن الكافر العاق؟
وكالعادة... ستظل الأبوة تكرر وتكرر نداءات النجاة، ومواعظ الفلاح... مهما حاولت البنوة أن تبتعد أو تستقل أو تتعالى أو تتجبر؛ فها هي الأبوة هي الأبوة المدركة لحقيقة الهول وصعوبة الأمر ترسل النداء الأخير:
«قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ».
هل فهمتم معاشر الأبناء أم نزيد في الشرح؟ هل وعيتم الحقيقة أم نتوسع في الطرح؟
مرد الأمور إلى الله الذي تتجبرون على أحكامه، وتتكبرون على أوامره.
وإذا أنزل الله بأسه فلن تنفعكم جبالكم التي تتسترون بها، ولا أفكارهم التي تحاربون بها، ولا رموزكم التي تفاخرون بها؛ فحينئذٍ لا جبال ولا مخابئ ولا حام ولا واق؛ إلا من رحم اللّه.
وتبقى الحسرة والأسى في قلوب الآباء وهم يبعثون النداء تلو النداء، والبنوة المغرورة تأبى إجابة الدعاء ليتكرر المشهد الدنيوي الأخير بأوضاع مختلفة؛ مصيرها واحد:
«وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ» ..
ولكن..
هل تظنون الأبوة تقف عند هذا الحد؟ كلا... إنها من أجل البنوة تتعلق بكل أمل، وتعرض نفسها للبلاء والعلل، وتقدم على أمر ستعاتب عليه، وفعل ليس لها أن تصبو إليه.
فها هي أبوة نوح عليه السلام؛ وبعد كل هذا التمرد والعناد؛ تنادي ربها نداءً دعاه إليه داعي الشفقة، فأراد به نفع ابنه في الآخرة بعد اليأس من نجاته في الدنيا،
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) } [هود: 40 - 45]
"فـ {قَالَ} الله له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين وعدتك بإنجائهم {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} أي: هذا الدعاء الذي دعوت به، لنجاة كافر، لا يؤمن بالله ولا رسوله.
{فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: ما لا تعلم عاقبته، ومآله، وهل يكون خيرا، أو غير خير.
{إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي: أني أعظك وعظا تكون به من الكاملين، وتنجو به من صفات الجاهلين".

بارك الله لي ولكم ...

الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا معاشر الأبناء... وإن طافت بكم الحياة، وتشعبت بكم الطرق؛ وتاهت بكم الدروب فإن روح الأبوة المسددة الحازمة، الرؤوفة الرحيمة ستظل الصديقَ الذي يحامى عن صديقه إذا تعادت عليه الدنيا بأسرها، والأستاذَ الذي تؤخذ منه روائع الحكمة بأنواعها، والمكمنَ الحصين الذي تُلقى فيه كل الأفكار المعقدة في هذه الحياة، تلمساً لحلولها، وتجنبا لعواقبها وشرورها. 
وفي الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يجزي ولد والده، إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه) مسلم 1510
وإن الأبوة لا تجدد بمحبتكم عهدا، ولا تخطب من عطفكم ودا، لأنها ستظل تحتفظ بمكانتكم في نفسها مهما كانت الظروف أو تغيرت الأحوال؛ غير أنها كلما اقتربت من بوابة القبور، وأقبلت على مشهدها الأخير من هذه الحياة؛ زاد رجاؤها فيكم، وخوفها عليكم...
ونادتكم نداء الأبوة للبنوة، ونداء الشيخوخة للفتوة، ونداء الضعف للقوة...
استجيبوا قبل فوات الأوان واعتبروا بحوادث الزمان:
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [الأحقاف: 17، 18]

المشاهدات 1358 | التعليقات 0