من لطائف المفسرين في تفسير سورة الفاتحة

عبدالرحمن اللهيبي
1443/04/07 - 2021/11/12 00:15AM

أما بعد: عباد الله: إنَّ القرآن الكريم هو حَبْلُ الله المتين، ونوره المبين، وصراطه المستقيم، وإن في القرآن لسورة هي أعظمُ سورةٍ في القرآن الكريم ، روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد رضي الله عنه: (لأعلمنك سورةً هي أعظم السور في القرآن)، ثم قال ﷺ : (الحمد لله رب العالمين هي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم).

فهي أم الكتاب وهي أم القرآن العظيم ، وهي فاتحته ، فهي كخطبة المؤلف بين يدي الكتاب ..ولعظمها وجليل قدرها فرض الله علينا تلاوتها كل يوم سبع عشرة مرة في كل ركعة من ركعات الفريضة من غير النافلة، لا تصح الصلاة بدونها .. لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ"  هي سورة لم تنزل كباقي السور فقد فُتح لها بابٌ من السماء لم يُفتح قط إلا ذلك اليوم الذي نزلت فيه ، ونزل بها ملك لم ينزل قط إلا ذلك اليوم ليُبَشَّرَه ﷺ بنورها .. كما جاء ذلك فيما رواه مسلم

فلقد جاء في هذه السورة كليات الدين وأصوله العظمى ومحكماته الكبرى التي جاء تفصيلها وبيانها فيما بعدها من سور القرآن
وإن في هذه السورة لمناجاة علية كريمة بين العبد وربه لما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم:(قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد:{الحمد لله رب العالمين}، قال الله: حمدني عبدي. فإذا قال:{الرحمن الرحيم}، قال: أثنى علي عبدي. فإذا قال:{مالك يوم الدين}، قال مجدني عبدي. وإذا قال:{إياك نعبد وإياك نستعين}، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال:{اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ، قال: هذا لعبدي. ولعبدي ما سأل).

وإن من أعظم ما يعين على الخشوع في الصلاة هو معرفة معاني آيات هذه السورة العظيمة، ومن فُتح له في تدبرها وحضور القلب عند تلاوتها فقد نال بركة دعوتها ألا وهي طلب الهداية على الصراط المستقيم ..
وإنه والله لمن المعيب أن يقرأ المسلم هذه السورة ويكررها سبعَ عشرة مرة ثم لا يفقه معناها ، فأرعي سمعك يا عبد الله لتفسيرها

قال تعالى: "ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ"
إن كلمة ﴿الحمد لله﴾ لا عِدْل لها ولا مثيل ولا مرادف لها في اللغة… فهي تعني الثناءَ الكامل على الله بما هو أهله من العظمة والجلال..
فحين تقرأ ( الحمد لله ) تستحضر أنك تحمد الله وتثني عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا ، وتحمده على أفضاله ونعمته ، وتحمده على وحيه وهدايته ، وتحمده على قضائه وقدره
فيا لها من كلمة جمعت ما تضيق عنه المجلدات، وتقف دون مَداه عقولُ الكائنات، فلا غرابة أن هذه الكلمة تملأ الميزان ثوابا وأجرًا ، كما ثبت ذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم ( والحمدُ للهِ تملأُ الميزانَ ) ، وعليه فحين يتلو المؤمنُ قوله تعالى: ( الحمد لله ) بتدبر وخشوع فإن قلبه يفيض بالشعور بحمد الله والثناء عليه ، وهو يستشعر عندها مناجاته لربه وكأنه ينتظر جوابه عليه قائلا: (حمدني عبدي)
وإنه والله لمن الحرمان أن لا يُوفق العبد لتدبر هذه الآية واسشعار معنى الحمدِ فيها .. مع عظيم نعم الله وأفضاله عليه .. رغم أنه يكررها في اليوم أكثر من سبعِ عشرة مرة ، ثم لا يكاد يُحضِر قلبه خاشعا في واحدة منها
أما شطرُ الآيةِ الأخير: {ربِ العالمين} فاسم الرب يعني الربوبية المطلقة والسيادة الشاملة على العوالم كلها
فالرب: هو المالك السيد المربي الذي يأمر وينهى ، ويثيب ويعاقب ، ويحكم لا معقب لحكمه..
ومن عرف معنى اسم: (الرب) أيقن أن الخلق كلَّهم عبيدُه، وتحت ملكه وقهره وتصريفه، وعلم أنَّ من عصاه في ملكه فقد نازعه في سيادته؛ ولأجل ذلك كان ممَّا يُحفظ به الدِّين ترسيخ سيادة الله في قلوب المؤمنين.
وأما قوله تعالى: (الرحمنِ الرحيم)
فهذان الاسمان يشتملان في صفتيهما على كل معاني الرحمة العامة والخاصة…

وقد جاءت هذه الآية (الرحمن الرحيم) بعد قوله تعالى : (رب العالمين) وقد جاءت لتؤكد أن الرحمة هي الصفةُ البارزة في تلك الربوبية الشاملة ، جاءت لتثبت أن الرحمة هي السمةُ الواضحة في الصلة بين الرب ومربوبيه ، وبين الخالق ومخلوقاته..
إنها صلة الرحمة والإنعام، والتربية والإكرام ، والإيجاد والإحسان التي تستجيش الحمد والثناء.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: إن ربوبية الله عز وجل مبنية على الرحمة الواسعة ؛ لأنه تعالى لما قال: {الحمد لله ربِ العالمين} كأنّ سائلا يسأل : ما نوع هذه الربوبية ؟
هل هي ربوبية أخذ وانتقام أو ربوبية رحمة وإنعام ؟
فقال تعالى بعدها : {الرحمن الرحيم}
وقال أبو حيانَ في تفسيره: لما جاء وصف الله سبحانه لنفسه بالربوبية في قوله : ( رب العالمين ) والتي قد يُفهم من هذه الربوبية معنى القهر والجبروت ؛ جاء وصفه بالرحمة بعدها ؛ لينبسط للعبد أملُه في العفو إن ضل وهفا ، ويقوى رجاؤه في الله إن زل وكبا
فإذا تلا المؤمن قوله تعالى: (الرحمن الرحيم) في صلاته متدبرا اسشعر تلك المناجاة العلية في إجابة الله له بقوله: أثنى علي عبدي .
وأما قوله تعالى: (مالكِ يوم الدين(
فهذه الآية تمثل أصلا آخر من أصول العقيدة وركنا من أركان الإيمان وهي عميقة التأثير فيمن آمن بها، إنه اليوم الآخر ..فيوم الدين هو اليوم الذي يدان الناس فيه بأعمالهم
ومالك ذلك اليوم ومَلِكُه هو الله جل في علاه
وأضاف الله مُلْكَه ليوم الدين، لأنه تنقطع في ذلك اليوم أملاك الخلائق كلِها ، حتى يستوي في ذلك اليوم الملوك والرعايا ، والأحرار والعبيد.. كلهم مذعنون لعظمته، خاضعون لعزته، راجون لثوابه، خائفون من عقابه، فلذلك خص الملك بيوم الدين ، وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.
وإنَّ تدبرَ هذه الآية ( مالك يوم الدين ) ليدفع المؤمنين للاستعلاء على شهوات هذه الدنيا ، فلا تستبد بهم رغباتهم ، ولا تأسرهم أهواؤهم ، ولا يركنون لدنياهم، ولا يغفلون عن أخراهم
كما لا يأخذهم القلق والحزن على ما يجري عليهم من ابتلاءات ومصائب … فما الدنيا إلا صبر الساعة
وبتدبر المؤمنين لهذه الآية ( مالك يوم الدين ) يجدون الدافعية المحفزةَ للعمل لوجه الله والخوف من الوقوع في كل بغي وظلم ومن مقارفة كلِ معصية وإثم ..
كما أن هذه الآية تُكسب المؤمنين الطمأنينة لموعود لله، وتمنحهم الصبر والثبات على دين الله..
وحينها تطمئن قلوبهم إلى أن هناك حياة أخرى أبدية تستحق منهم أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم وأوقاتهم لنصرة الحق في سبيل الله

وقوله تعالى: )إياك نعبد وإياك نستعين)
فالله وحده هو الذي يُقصد ويُعبد ، والله وحده هو الذي يُستعان ويُطلب ، وهنا في هذه الآية يعلن المسلمُ موقفَه بكل وضوح من جميع قوى الطغيان التي تفرض على الناس عبوديتَها واتباعَ ملتها والخضوعَ والانقيادَ لها ..

وفي قوله تعالى: (وإياك نستعين(
توقن بأنه لا غنى لك عن الله في إعانته لك على طاعته ..
فما طاعتك إلا بتوفيق الله ، وما صبرك إلا بالله
ثم يستحضر العبد هنا مناجاته لله عند تلاوته لهذه الآية في الصلاة بأن الله يجيبه بقوله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
وقوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)
أي: اهدنا هداية دلالة وإرشاد.. واهدنا هداية توفيق وعمل
واهدنا هداية عزم وثبات..
والهداية إلى الصراط المستقيم هي لزوم دينِ الإسلام، والاستقامة عليه، والعمل بأحكامه وتشريعاته .
قال ابن القيم رحمه الله:
وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي هو الإسلام بتشريعاته، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم.

وعليه فالدعاء بالهداية في هذه الآية من أجمع الأدعية وأنفعِها للعبد
وذلك لشدة ضرورته إلى الهداية وعظيم حاجته لها، فحاجة أحدنا للهداية أشد من حاجته للطعام والشراب بل أهي أشد من حاجته لتنفس الهواء، فياله والله من حرمان وخذلان أن يدعوا العبد بهذه الدعوة في كل ركعة من صلاته وهو عنها ساهٍ لاهٍ لا يتدبرها ولا يتضرع فيها ولا ينتابه شعور الافتقار إليها
واعلموا يا عباد الله أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ كما في الحديث الذي رواه الترمذي وهو حديث صحيح.

أقول قولي هذا..

 

أما بعد: عباد الله وأما قوله تعالى: ﴿صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ﴾
ففي هذه الآية إشعار بأن لا يستوحش المُهتدِي من غربته في سيره على صراط الهداية، فإن رفقاءه على هذا الطريق هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون وحسن أولئك رفيقا
فلا تكترث بكثرة المخالفين وقلة السالكين وجموع الساخرين
وقد انقسم الخلق أمام هذه الهداية الربانية إلى ثلاثة أقسام:
الأول: مُنعَم عليهم بحصول الهداية لهم ...
ويا له من اصطفاء لك واجتباء وتكريم أن تكون منهم
والقسم الثاني: وهم المغضوب عليهم = وهم الذين اهتدوا لمعرفة الحق ولكنهم لم يهتدوا للعمل به.. كما هو حال اليهود ومن شابههم
والقسم الثالث: وهم "الضالين" = حيث لم يعرفوا الحق من أصله ولم يهتدوا إليه، وضلوا عنه كما هو حال النصارى ومن شابههم

ولهذا فقد شُرع للعبد التأمينُ في آخر السورة في الصلاة وخارجها طلبا لإجابة تلك الدعوة العظيمة وهي تحصيل الهداية ، ولهذا اشتد حسدُ اليهود للمسلمين حين سمعوهم يجهرون بالتأمين في صلاتهم.
لما جاء في صحيح ابن ماجه من حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين].

فاللهم اجعلنا في الصلاة من الخاشعين

وعند تلاوة كتابك من المتدبرين

واجعلنا ممن هديتهم لصراطك المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( اللهم آمين )

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 

 

المشاهدات 2237 | التعليقات 0