مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ
مبارك العشوان 1
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيْهِ، وَنَعُوْذُ بِهِ تَعَالَى مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أيُّهَا النَّاسُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عِبَادَ اللهِ: الإِيمَانُ بِالْيومِ الآخِرِ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِيمَانِ السِّتَةِ؛
فَيَجِبُ الإِيْمَانُ بِكُلِّ مَا جَاءَ بَيَانُهُ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ وَصَحَّتْ بِهِ السُّنَّةُ المُطَهَّرَةُ مِنْ أُمُورِ الآخِرَةِ؛ كَنَعِيمِ القَبْرِ وَعَذَابِهِ، وَالبَعْثِ وَالجَزَاءِ وَالحِسَابِ، وَالشَّفَاعَةِ، وَالصِّرَاطِ، وَالمَوَازِينِ؛ وَالجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَرُؤْيَةِ المُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ، وَالنَّارِ وَعَذَابِهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ: الإِيْمَانُ بِحَوضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَدْ تَوَاتَرَتِ الأَحَادِيثُ بِثُبُوتِهِ؛ حَتَّى قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: وَقَدْ رَوَى أَحَادِيثَ الْحَوْضِ أَرْبَعُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا وَأَكْثَرُهَا فِي الصَّحِيحِ.
الحَوضُ - عِبَادَ اللهِ -: هُوَ مُجْتَمَعُ المَاءِ، وحَوْضُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ فِي عَرَصَاتِ القِيَامَةِ مِنَّةٌ مِنَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهِ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؛ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ.
جَاءَتِ الأَحَادِيثُ بِوَصْفِ هَذَا الحَوضِ، وَمَنْ يَرِدُهُ، وَمَنْ يُرَدُّ عَنْهُ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: ( حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا.) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: ( يَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ، عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ، مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ.) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
عِبَادَ اللهِ: إِذَا بُعِثَ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَجُمِعَ أوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ، فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، عَلَى أَرْضٍ بَارِزَةٍ، لَيْسَ فِيهَا مَعْلَم لِأَحَدٍ، وَلَا مَكَانٌ يُوَارِي أَحَدًا؛ حَتَّى الجِبَالَ: { يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } طَه105-107 يَقُولُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: لَا تَرَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ وَادِيًا وَلَا رَابِيَةً، وَلَا مَكَانًا مُنْخَفِضًا وَلَا مُرْتَفِعًا. أهـ الخَلْقُ يَومَئذٍ: { بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ }.
فِي ذَلِكَ اليَومِ { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }الحج 1- 2
أَهَوَالٌ يَشِيبُ لَهَا الوِلْدَانُ، وَتَتَفَطَّرُ مِنْهَا القُلُوبُ.
تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ...فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا.) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي هَذِهِ الكُرُوبِ وَالشَّدَائِدِ يُظِلُّ اللهُ أَقْوَامًا فِي ظِلِّهِ يَومَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، فِي هَذِهِ الكُرُوبِ يَتَفَضَّلُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ فَيَرِدُونَ الحَوْضَ؛ فَيَجِدُونَ نَبِيَّهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَلَيهِ؛ وَيَشْرَبُونَ مِنْهُ فَلَا يَظْمَأُونَ بَعْدَهَا أَبَدًا؛ وَيُذَادُ عَنْهُ أقْوَامٌ وَيُطْرَدُونَ.
عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: إِنِّي عَلَى الحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، وَاللهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، يَقُولُ: اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا، أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا.) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا، أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا.
اللهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا، أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمْ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاُة وَالسَّلَاُم عَلَى رَسُولِ اللهِ؛ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ.أَمَّا بَعْدُ: فَاعْلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ أَنَّ هُنَاكَ أَسْبَابًا لِنَيْلِ رَحْمَةٍ رَبِّ العَالَمِينَ وَفَضْلِهِ، وَالشُّرْبِ مِنْ حَوضِ النَّبِيِّ الكَرِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَابْذُلُوا وُسْعَكُمْ فِي فِعْلِهَا، وَأْسَبَابًا أُخْرَى لِلطَّرْدِ وَالإِبْعَادِ عَنِ الحَوضِ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهَا.
تَمَسَّكُوا رَحِمَكُمُ اللهُ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، عَضُّوا عَلَيْهِمَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ؛ احْذَرُوا اِتِّبَاعَ الأَهْوَاءِ، اِحْذَرُوا الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، الْتَزِمُوا شَرْعَ اللهِ، وَعَظِّمُوا أَوَامِرَهُ فَامْتَثِلُوهَا، وَنَوَاهِيَهُ فَاجْتَنِبُوهَا، وَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِهِ وَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَلُوا اللهَ جَلَّ وَعَلَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ؛ أَنْ يُثَبِّتَ قُلُوبَكُمْ عَلَى دِيْنِهِ، { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } آل عمران 8
يَقُولُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: فَمَنْ بَدَّلَ أَوْ غَيَّرَ أَوِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللهِ مَالَا يَرْضَاهُ اللَّهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، فَهُوَ مِنَ الْمَطْرُودِينَ عَنِ الْحَوْضِ، الْمُبْتَعِدِينَ مِنْهُ الْمُسَوَّدِي الْوُجُوهِ، وَأَشَدُّهُمْ طَرْدًا وَإِبْعَادًا مَنْ خَالَفَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَفَارَقَ سَبِيلَهُمْ، كَالْخَوَارِجِ عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهَا، وَالرَّوَافِضِ عَلَى تَبَايُنِ ضَلَالِهَا، وَالْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَصْنَافِ أَهْوَائِهَا، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مُبَدِّلُونَ وَمُبْتَدِعُونَ، وَكَذَلِكَ الظَّلَمَةُ الْمُسْرِفُونَ فِي الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ وَطَمْسِ الْحَقِّ وَقَتْلِ أَهْلِهِ وَإِذْلَالِهِمْ، وَالْمُعْلِنُونَ بِالْكَبَائِرِ الْمُسْتَخِفُّونَ بِالْمَعَاصِي، وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ،... الخ
عِبَادَ اللهِ: أَخْرَجَ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاَنًا؟ قَالَ: سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ ) وَهَذَ عِبَادَ اللهِ مِنْ جَزَاءِ الصَّبْرِ عَلَى مَا قَدْ يُصِيبُ الإِنْسَانَ مِنَ الوُلَاةِ؛ ثُمَّ إِنَّ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَالصَّبْرَ عَلَى جَوْرِ الوُلَاةِ هُوَ الوَاجِبُ وَهُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الأَحَادِيثُ الكَثِيرَةُ؛ يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً.) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ.) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا...اللهُمَّ صَلِّ مُحَمَّدٍ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ...
اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا... عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ ...