من سيرة أبي بكر الصديق
أنشر تؤجر
الخُطْبَةُ الأُولَى :
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ ، وَنَسْتَعِينُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَلَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَتَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ : أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102].
عباد الله : سيرُ العظماءِ معالمُ تنطقُ بالحياة وإن عفى عليها الزمانُ ، وفي أمتنا نجومٌ أشرق نورها ، ومصابيحُ دجى لاح ضوؤها ، فسيرتهمتستنهضُ الهممَ ، وتدعو للعلمِ والعملِ ؛ وحديثنا اليوم عن سِيرَةِ رَجُلٍ عَظِيمِ القَدْرِ ، رَفِيعِ الْمَنْزِلَةِ وَالأَجْرِ ، اشتهر رضي الله عنه بكنيته وقد غلبتعلى اسمه حتى عرف بها ، اسمه عبدُ الله بن عثمان بن عامر القرشي التيمي وكنية : أبو بكر ، إنَّهُ صِدِّيقُ الأُمَّةِ ، أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُوَأَرْضَاهُ , هُوَ أَوَّلُ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، وَأَوَّلُ العَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ .
وفِي يَومٍ سَألَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «عَائِشَةُ» قَالَ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ «أَبُوهَا» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «عُمَرُ» فَعَدَّ رِجَالًا.
وأَعْظَمُ مِيزَةٍ في أبِي بَكْرٍ أنَّهُ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَتِلْكَ وَاللهِ مَنْزِلَةٌ عَلَيَّةٌ! فَلَمَّا دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى الإسْلامِ لَمْ يَتَرَدَّدلَحْظَةً فِي تَصْدِيقِهِ وَالإيمَانِ بِهِ! وكَانَ رضي الله عنه نَبِيلاً شَرِيفًا تَاجِراً نَسَّابًا , وَذَا رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ ، ولَمْ يَكُنْ قَبْلَ إسْلامِهِ يَشْرَبُ خَمْرًا وَلا يَأْكُلُرِبًا ، ولا يَأتِي مُنْكَرَاً مِن القَولِ وَزُورًا , وَذَلِكَ لِمَا فُطِرَ عَليهِ مِنْ الخَيرِ وَالكَمَالِ! لِأَجْلِ ذَلِكَ اتَّخَذَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صَدِيقًا وَصَاحِبًاوَقَالَ عَنْهُ :« إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍخَلِيلًا ، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ ».
أَيُّهَا الْمُؤمِنُونَ: لَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَجْهَرُ بِإيمَانِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ , وَكَانَ بَكَّاءً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ، فَهُوَ لا يَمْلِكُ عَينَيهِ إذَا قَرَأَ القُرَآنَ الكَرِيمَ، فَأَفزَعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ وَصَارَ يُصَلِّي بِفِنَاءِ دَارِهِ وَيَجْتَمِعُ عَلَيهِ نِسَاءُ الْمُشرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ ، وَيَعْجَبُونَ مِنْ ذَلِكَ , حتى صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا في إسلامِالْكَثِيرِ مِنْهُمْ!
وقد كان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يحمل هِمَّةَ الدَّاعِيَةَ لدينه ، فَقَدْ أَثَّرَ بِطِيبِ أَخْلاقِهِ ، وَحُسْنِ مَنْطِقِهِ وَدَعْوَتِهِ , بِكُلِّ مَنْ جَالَسَهُ وَرآهُ ، حَتَّى أَسْلَمَ عَلَى يَدَيهِفُضَلاءُ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَالزُّبَيرٌ وَسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةٌ .
وَلَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِنَا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِبِيتِ الْمَقْدِسِ سَخِرَتْ مِنْهُ قُرَيْشٌ وَكَذَّبَتْهُ وَذَهَبُوا لأبِي بَكْرٍ شَامِتِينَ مُسْتَهْزِئِينَ فَمَا كَانَ مِنْهُ إلَّا أَنْقَالَ كَلِمَتَهُ الْمَشْهُورَةُ :( إنْ كَانَ قد قَالَه فَقَدْ صَدَقَ ). لِذَا لُقِّبَ بِالصِّدِّيقِ!
نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَومًا إِلَى أَبِي بَكْرٍ نَظْرَةَ إعْجَابٍ وَإجْلالٍ ، فَقَالَ :« هَذَا عَتِيقُ اللَّهِ مِنَ النَّارِ ». فَلُقِّبَ بِالعَتِيقِ! يَكْفِيهِ رَضِيَاللهُ عَنْهُ شَرَفًا أَنْ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ قُرْآنًا يُتْلى إلى يَومِ القِيامَةِ! مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِلالٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ يُعذَّبُ وَيَقُولُ : أَحَدٌ أَحَدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ لِأَبِي بَكْرٍ :( إنَّ بِلالاً يُعذَّبُ في اللهِ ). فَانْصَرَفَ أبُو بَكْرٍ لِمَنْزِلِهِ وَأَخَذَ رِطْلاً مِنْ ذَهَبٍ ، وَمَضَى بِهِ إلى أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ ، فَاشْتَرَاهُفَأَعْتَقَهُ لِلهِ تَعَالَى ، فَأنْزَلَ اللهُ فِيهِ قَولَهُ تَعَالَى: ( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى*الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى*وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى*إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِالْأَعْلَى*وَلَسَوْفَ يَرْضَى ).
فَرَضِي اللهُ عَن صِدِّيقِ الأُمَّةِ وَأَرْضَاهُ , وَجَمَعَنَا بِهِ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في جَنَّات النعيم.
أَقُولُ مَا سَمَعْتُمْ وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍّ فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية :
الحمدُ لله رب العالمين ، وأَشْهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شَريكَ لَهُ ، وَأَشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، الَّلهم صَلِّ وَسلِّمْ وَبَاركْ عليه وعلىآلهِ وأَصحَابِهِ ومَنْ اهتدى بِهداهُ.
أَمَّا بَعْدُ : فيا عباد الله : لقد أثنى الله على أبي بكرٍ في كتابه حين اختاره الله رفيقاً لرسوله صلى الله عليه وسلم في هجرته ، ويَكْفِيهِ شَرَفًاوَفَضْلا أنْ حَازَ على مَعِيَّةِ اللهِ الخَاصَّةِ فَكُلُّنَا نُرَدِّدُ قَولَ اللهِ تَعَالى :( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِيالغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) فَهُوَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في غَارِ ثَورٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَعَهُمَا اللهُ تَعَالىبِحِفْظِهِ وَنَصْرِهِ وَتَأْيِدِهِ .
أيُّهَا المُؤمِنُونَ : لَقَد كَانَتْ نَفْسُ أَبِي بَكْرٍ تَوَّاقَةً لِكُلِ خَيرٍ وَبِرٍّ ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ :" مَنْأَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ : يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِالجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ "، فَقَالَ أَبُوبَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا ، قَالَ:« نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ».
اللهُ أَكْبَرُ ، إنَّهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على كِبَرِ سِنِّهِ مَا تَرَكَ غَزْوَةً غَزَاهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إلَّا خَرَجَ فِيهَا بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ .
ولقد ثَبَّتَ اللهُ بِهِ قُلُوبَ الصَّحَابَةِ حِينَ وَفَاةِ نِبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَهُوَ الذي قَاتَلَ الْمُرْتَدِّينَ , وَمَنْ فَرَّقَ بَينَ الصَّلاةِ والزَّكَاةِ , وهُوَ خَلِيفَةُ نِبِيِّنَا، فَقدْ أطْبَقَتِ الأُمَّةُ وَأَجْمَعَتْ عليهِ! فَيا اللهُ مَا أَرْوَعَ سِيرَتَهُ , وَأَعْظَمَ مَسِيرَتَهُ!
فسِيرَةُ أَبِي بَكْرِ رضي الله عنه إيمَانٌ رَاسِخٌ ، وَبَذْلٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَاسِعٌ , ودُرُوسٌ فِي التَّقْوَى وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَالحِلْمِ والعَقْلِ وَالأَنَاةِ ، وفِيالاهْتِمَامِ بِأَمْرِ الْمُسلِمِينَ وَخِدْمَةِ الدِّينِ! فَرَضِيَ اللهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَأَرْضَاهُ ، وَطَابَ ذِكْرُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا وَرَضِي اللهُ عَن الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ. وَصَلِّ اللهُمَّوَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ أَجْمَعِينَ. الَّلهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ وَالْمُسلِمِينَ, وَاحْمِ حَوزَةَ الدِّينِ، وَاجْعَل هَذا البَلَدَ آمِنَاً مُطْمَئِنًا، وَسَائِرَ بِلادِالْمُسْلِمِينَ. اللهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أُمُورِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى وَأعِنْهُمْ على الْبِرِّ والتَّقْوى. انصُرْ جُنُودَنَا وَاحفَظْ حُدُودَنَا والْمُسْلِمِينَ أَجمَعِينَ. الَّلهم عَليكَبِالرَّافِضَةِ الظَّالِمينَ الذين يُبْغِضُونَ وَيَسُبُّونَ صَحَابَةَ رَسُولِكَ .
الَّلهُمَّ ثبِّتْنَا بِالقَولِ الثَّابتِ في الحياةِ الدُّنيا ويومَ يَقومُ الأشهادُ , اللهم اعصمنا من الفتنِ ما ظهر منها وما بطَنَ , اللهم اغفر لنا ولوالديناولجميع المسلمينَ .
اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا طَبَقَاً سَحَّاً مُجَلِّلاً، عَامَّاً نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ ، عَاجَلاً غَيْرَ آجِلٍ ، تُحْيِيبِهِ الْبِلَادَ ، وَتُغِيثُ بِهِ الْعِبَادُ ، وتَجْعَلُهُ بَلَاغًا لِلْحَاضِرِ وَالْبَادِ .
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً ، وفي الآخرة حسنةً ، وقنا عذاب النار .
الحمدُ لله رب العالمين ، وأَشْهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شَريكَ لَهُ ، وَأَشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَمُصْطَفَاهُ ، الَّلهم صَلِّ وَسلِّمْ وَبَاركْعلى نبينا محمد وعلى آلهِ وأَصحَابِهِ أجمعين .
أنشر تؤجر
مستفادة بتصرف ، نفع الله بها الجميع .
تعديل التعليق