(من روائع المنقول) خطبة اجتماع يوم عرفة بيوم الجمعة 9 / 12 / 1443هـ

عبدالرحمن اللهيبي
1443/12/02 - 2022/07/01 14:23PM

الحمد لله مُبدِع البدائع، وشارِعِ الشرائِع، أحمدُه وقد أسبَغَ علينا الخير الجزيل، وأسبلَ علينا السترَ الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ آمنَ بربِّه، ورجا العفوَ والغُفرانَ لذنبه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وحِزبه، صلاةً وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّين إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أيها المسلمون:

بالتقوى تحصُل البركات، وتندفعُ الهلَكات، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾

أيها المسلمون:

في عرفة بين الجِبال والتِّلال، والأودية والشعاب، هناك المهابة والجلال، هناك البهاء والجمال، حيث تجتمعُ قوافلُ الحجيج، وتكتملُ حُشُودُهم ووفودُهم، يسكُبُون بشوقهم ورجائهم العبَرات، ويذرفون بخوفهم وخشيتهم الدمعات.

أيها المسلمون:

ألا ما أعظمَ هذا اليوم الذي نحن فيه ، اجتمع فيه يوم عرفة بيوم الجمعة، فأما يوم الجمعة فقد قال فيه ﷺ :(خيرُ يومٍ طلعت عليه الشَّمس يومُ الجمعة)

وأما يوم عرفة وما أدراك ما يوم عرفة فهو يومٌ شريفٌ قدره، يومٌ تُعتَقُ فيه الرِّقابُ، ويُسمَعُ فيه الدعاءُ ويُجابُ، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟"رواه مسلم.

واعلموا يا مسلمون أن عتق الرقاب وإجابة الدعاء وغفران الذنوب والأوزار هو عام للواقفين بعرفة وغيرهم من أهل الأمصار، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله تعالى من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين؛ فلذلك صار اليوم الذي يليه يوم عيد لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة.

وإذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة كان له مزية على سائر الأيام من وجوه متعددة: منها أنه اجتماع اليومين اللذين هما أفضل الأيام ..ومنها أن ذلك يوافق حجة النبي -صلى الله عليه وسلم

ومنها أن الجمعة هو اليوم الذي فيه ساعة محققة الإجابة، ويوم عرفة من الأيام التي يستجيب الله فيها الدعاء, وخير الدعاء دعاؤها ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيّون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير".

فاجتمع لكم يا مسلمون في هذا اليوم نسائم الخير والرحمات، ونفائس المنح والبركات، وعظائم الجود والعتق والنفحات، وموجبات المغفرة وإجابة الدعوات، فإذا جمعتم مع كل ذلك دعوةَ الصائم التي لا ترد كان ذلك أدعى للاجتهاد في الدعاء والتضرع لرب البريات

عباد الله: من أحب اليوم أن يكون من النار عتيقاً، ومن أسر الذنوب طليقاً؛ فليضرع إلى ربه بالدعاء، وليسكب دموع الخوف والرجاء، وليستغفر ربه من ذنوب طالما ارتكبها، وليتب من خطايا طالما تساهل بها حتى اجتمعت عليه فكدرت عليه معيشته وحالت بينه وبين ربه.

فأظهِروا يا مسلمون في هذا اليوم التوبةَ والاستغفار، والتذلُّل والانكِسار، والندامةَ والافتقار، والحاجةَ والاضطرار

ولو بقيت اليوم يا عبدالله في المسجد أو محراب البيت عاكفا على الدعاء والتهليل والاستغفار حتى غروب الشمس لم يكن هذا كثيرا

فوالله إن في هذا اليوم من الفضائل والخيرات ما تستحق لأجلها أن تبذل الأوقات ، وإنما هي سويعات قليلة محدودة، ولحظات يسيرة معدودة ، ستمضي وتنقضي فهنيئا لمن أودع فيها حاجاته وأسال فيها دمعاته وأظهر فيها إلى افتقاره وتضرعاته..

فإياك إياك أن تكون في هذا اليوم عن الله منشغلا أو لغير الله راجيا ومؤملا ..

عن سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب أنه رأى سائلاً يسأل الناس يوم عرفة فقال يا عاجزاً في هذا اليوم تسأل غير الله تعالى !

وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة فربكم سميع عليم، غني كريم، ذو فضل واسع عظيم، لا يتبرّم بإلحاح الملحين، ولا يبالي بكثرة السائلين.

نظر الفضيل بن عياض إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجلٍ فسألوه دانقاً -وهو مبلغ ضئيل من المال- فهل كان يردهم؟ قالوا: لا. فقال: واللهِ لَلمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق!.

فيا من يطمع اليوم في العتق من النار، لا تحل بينك وبين رحمة ربك بالإصرار على الآثام والأوزار، تالله ما نصحتَ نفسك، أوبقت نفسك بجليل المعاصي والآثام

وأبيت التوبة والإنابة في مثل هذا اليوم العظيم الجليل, فإذا حُرمْتَ المغفرة قلتَ أنَّى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم.

وانتهزوا يا عباد الله فرصة نزول الله وقربه من عباده عشية عرفة، وعشية عرفة يبدأ من زوال الشمس -أي من هذا الوقت تقريباً- وحتى تغرب الشمس

 فلا يألوَنَّ أحدكم جهده في سبيل فكاك رقبته وغفران ذنوبه وأوزاره، ورجاء رحمة الله ورضوانه

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البينات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا خيرَ إلا منه، ولا فضلَ إلا من لدُنه، ولا اعتمادَ إلا عليه، ولا ملجأَ ولا منجا منه إلا إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سميعٌ لراجِيه، قريبٌ ممن يُناجِيه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله ونبيُّه، وصفيُه ونجِيُّه، ووليُّه ورضِيُّه، وأمينُه على وحيِه، وخِيرتُه من خلقِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، فيا أيها المسلمون:

من السُّنة في هذه الأيام التكبير مطلقًا ومقيدًا، والمقيد هو الذي يكون أدبار الفرائض، ويبدأ التكبير المقيد لغير الحاج من فجر يوم عرفة، وللحاج من ظهر يوم النحر، ويمتد في حقهما التكبير مطلقًا ومقيدًا إلى آخر أيام التشريق.

أيها المسلمون: وإن من شعائر ديننا صلاة عيد الأضحى، وسوف نؤديها غدا في هذا الجامع فاحرصوا على أدائها وحاذروا تفويتها ومروا أولادكم وأهليكم بها فقد كان النبي ﷺ يأمر الناس بالخروج إليها

والأضحية يا مسلمون شعيرة عظيمة ونسيكة جليلة ، وإن من خير ما يُتقرب إلى الله في يوم الأضحى إهراق الدم، ((لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ)) فطيبوا بها نفسا وتخيروا أنفسها وتحروا وقتها ..

ووقتها من بعد صلاة العيد إلى غروب الشمس من آخر أيام التشريق ، ومن ذبح أضحيته قبل صلاة العيد فهي صدقة من الصدقات وعليه إن أراد أن يضحي أن يذبح أخرى بعد الصلاة .

ويحرم صوم يوم العيد وأيام التشريق، وهي ثلاثة بعد العيد؛ لقول النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – ولْنَتَزَوَّدْ مِن خَيرِ الأعمال في أَعظَمِ الأَيَّامِ ، وأكثروا من ذكر الله فيما تبقى من هذه الأيام, ولا يكن حَظُّ أَحَدِنَا مِنَهَا مُجَرَّدَ السَّمَاعِ بِفَضَائِلِهَا في خُطبَةٍ أَو مَوعِظَةٍ ، أَو فِيمَا يُرسَلُ إِلَيهِ مِن رَسَائِلَ ، ثم يَكتَفِي بِإِرسَالِهَا إِلى غَيرِهِ فَحَسبُ

فاختموا ـ رحمكم الله ـ بقية أيامكم النيرات بالمسارعة إلى الخيرات، واغتنامِ الفضائل والقربات ، فنحن اليوم في آخر جمعة في هذه العشر المباركة ، فمن كان قد أحسنَ فعليه بالتمام، ومن فرّط فعليه أن يعجل بالتغيير فيما بقي من هذه الأيام .. فما بقي منها خير مما أدبر .. فقد بقي منها يوم عرفة ويوم النحر .

فيا لحسن الفائرين الذين ختموا هذه الأيام المباركة بأكمل وجه من ذكر وتكبير وصلاة وصيام وقيام وصدقة ونافلة ، ولعل الله قد نظر إليك وأنت تتقرب إليه بألوان الطاعات وجليل القربات فغفر لك واجتباك ، واصطفاك وهداك، وزحزحك عن النار وما فيها من الدركات وكتب لك في الجنة أعالي الدرجات  

ويا لخسارة المفرطين الذين لم يعرفوا قدر هذه الأيام فأمضوا وقتهم فيها بالملهيات، واشغلوا أنفسهم بحظوظ الدنيا وما فيها من الشهوات، ونظر إليهم ربهم في هذه العشر وهم على أسوأ حال .

وَهَكَذَا هِيَ مَوَاسِمُ الفَضِل والبركات وَأزمنةُ الخير والرحمات ، تَمُرُّ كَلَمحِ البَصَرِ أَو هِيَ أَعجَلُ  يَتَزَوَّدُ مِنهَا من وُفق فَيَنَالُ بِفَضلِ رَبِّهِ الأَجرَ المُضَاعَفَ ، وَيَتَقَاعَسُ مُفَرِّطٌ فَيَحرِمُ نَفسَهُ مَا لَو قَدَّمَهُ لَوَجدَهُ عِندَ رَبِّهِ وَافِيًا .

قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ : "مَن يَعمَلْ سُوَءًا يُجزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا . وَمَن يَعمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظلَمُونَ نَقِيرًا "

وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ قَالَ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى ـ : " يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعمَالُكُم أُحصِيهَا لَكُم ثُمَّ أُوَفِّيكُم إِيَّاهَا ، فَمَن وَجَدَ خَيرًا فَلْيَحمَدِ اللهَ ، وَمَن وَجَدَ غَيرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفسَهُ"

ثم اعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون - من جنِّه وإنسِه، فقال قولاً كريمًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾

اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا وسيدنا محمد بشير الرحمة والثواب ونذير السَّطوة والعقاب الشافع المُشفَّع يوم الحساب، اللهم وارضَ عن جميع الآل والأصحاب، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا كريم يا وهَّاب.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم أئمَّتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وأصلِح له بِطانتَه يا رب العالمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وادفع عنا وعن المسلمين شرَّ الكائدين ومكرَ الماكرين وعُدوان المُعتدين وتربُّص المُتربِّصين وكيدَ الحاسدين وحسدَ الفاجِرين وفُجور المنافقين يا رب العالمين.

اللهم احفظ الحُجَّاج والزُّوَّار والمُعتمرين، اللهم تقبَّل مساعِيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم حقِّق لهم من الآمال أعلاها، ومن الخيرات أقصاها، اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا يا رب العالمين.

اللهم اشف مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وارحم موتانا، يا أرحم الراحمين.

المرفقات

1656685394_خطبة عن يوم عرفة في يوم الجمعة.docx

المشاهدات 4522 | التعليقات 0