من رحاب جامع البواردي - الشيخ عبدالله العتيق
الفريق العلمي
الحمدُ للهِ الذي مَنَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسَقَانا، وأسبغَ علينا من النعمِ وأعطانا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو حسُبنا ومولانا، وأشهد أن نبيَّنا محمداً عبدُالله ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فاتقوا اللهَ أيها المؤمنون حقَّ التقوى.
رجلٌ خَرَجَ من أرضِه خائفاً يَترَقَّب. لا يُبْصِرُ لِـمَسِيْرِهِ وِجهةً، ولا يهتدي إلى سبيل {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} في ظهيرةِ يومٍ حارٍّ. وَرَدَ ماءَ مدين. وقَد أظناهُ التعبُ وأرْهَقَهُ السفَر، وأرَّقَهُ التَّرَقُّبُ وأجْهَدَهُ الجوعُ.
فلما دَنا. رأى مشهداً لا يَرْتَضِيْه! لؤْماً يلوحُ أمامَ ناظِرَيْهِ بأظهرِ معانِيْه. امرأتين عفيفتينِ. ألجأتْهُما الحاجةُ إلى الخروجِ مِنْ بَيْتِهِما في شِدَّةِ الحَرِّ. تستسقيانِ لِغنَمِهِما. وقفتا في منأى عن الرجال، تذودانِ غنَمَهُما عن غنمِ القومِ.
ورأى رجالاً أقوياءَ أشداء. في زحامٍ حولَ البئرِ. لم يلتفتْ أحدٌ منهم لحاجةِ هاتين الضعيفتين، ولم يرأفْ أحدٌ منهم بِحَالِهِمَا. في أَثَرَةٍ لا إيثارَ فيها، وقسوةٍ لا رأفةَ معها.
فأقبلَ موسى عليه السلامُ على المرأتين متسائلاً: ما خَطْبُكُما؟ قالتا: {لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ليسَ مِن أخلاقِنا أنْ نُزاحِمَ الرجالَ. ولم يُخرِجنا إلى ما ترى إلا الحاجةُ. إذْ لَيْسَ لَنَا مَنْ يَصْلُحُ لِـهذهِ المُهِمَّةِ إلا أبونا، وأَبُوْنَا شَيْخٌ كَبِيْرٌ.
فَشَمَّرَ موسى عليه السلامُ عن ساعديه وأقبل نحو البئرِ، فانتزعَ منها الماءَ فَسَقَى للمرأتينِ. ثم تولى سَرِيْعاً إلى الظِّل. ولم ينتَظَر منهما على صَنِيْعِه جزاءً ولا شكوراً {فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} توجه موسى -عليه السلامُ- بِبَدَنِهِ إلى الظِلّ لِيَتّقيَ شِدّةَ الحَر، ولكنّ تَوَجُّهَهُ الأكبرَ كانَ فِي قَلبِهِ ورُوحِه، حينَ تَوجَّهَ إلى ظِلَالِ رحمةِ الوهاب، تَوَجَّهَ إلى اللهِ يُنَادِيهِ، وَيَعْرِضُ حَالَهُ عليه ويُنَاجِيه: (رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)
قال ابنُ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ: سَارَ موسى من مِصرَ إلى مَدْينَ، ليس له طعامٌ إلا البَقْلُ ووَرَقُ الشَّجَر، وكان حافياً فما وَصَلَ مَدينَ حتى سَقَطَتْ نَعْلُ قَدَمِهِ. وجَلَسَ فِي الظِّلِّ وهُوَ صَفْوَةُ اللهِ مِنْ خَلْقِه، وإنَّ بَطْنَهُ لاصِقٌ بِظَهْرِهِ مِن الجُوع، وإنَّ خُضْرَةَ البَقْلِ لَتُرَى مِنْ دَاخِلِ جَوْفِهِ وإنَّهُ لَمُحْتَاجٌ إلى شِقِّ تَمْرَة.
إنه المعروفُ حِينَ يُسدى بِلا مَنِّ. وإنه الإحسانُ حينَ يُبذَلُ بلا أذى.
فماذا حَصَلَ لِمُوسى بعدَ ذلك؟ أَمْنٌ بعدَ خَوْف (قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وَعَمَلٌ بَعْدَ فَقْر (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ) وَزَواجٌ بعدَ تَشَرُّد (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ) وَخِتَامُهَا الرِّسَالةُ الإلهية (يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ).
أيها المسلمون: مواقفُ البِرِّ، ومشاهدُ الإحسان. مواقِفُ رُقِيٍّ ومشاهدُ كرامةٍ، تَعْشَقُها النفوسُ، وتَهْتَزُّ لها المشاعِرُ، وتُسَرُّ لسماعِها الآذان. يَصْنَعُهَا رجالٌ أتقياء، لهم بالمروءَةِ قَدَمٌ، ولهم بالفضلِ يدٌ، ولهم بالإحسانِ مَقَام. أنْفُسٌ زكيةٌ. تَبذُلُ المعروفَ بسخاء، وتُقدّمُ الخيرَ بصفاء، وتنشرُ النَّفْعَ رَضِيَّة.
في أبوابٍ من المعروفِ لا تُحصى، وفي طُرُقٍ من الإحسانِ لا تُحَدّ.. نَفْعٌ بالمالِ إن كانَ له في المالِ مَدَدْ، ونَفْعٌ بالجاهِ إنْ كَانَ لَهُ فِيهِ مُرْتَكَزٌ وسَنَدْ، ونَفْعٌ بالعِلْمِ إن كانَ لَهُ في العِلمِ أركانٌ وَعَمَد.
تَيْسِيْرٌ لمطالِبِ العبادِ، وقضاءٌ لحوائجهم، وتفريجٌ لكُرُباتِهم. نَفْعٌ للقريب والبعيد. مُحْسِنٌ لا يرى في طريقِ النَّفِعِ باباً إلا وَلَجَه. قال ﷺ: «كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عليه صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فيه الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، ويُعِينُ الرَّجُلَ علَى دابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عليها، أوْ يَرْفَعُ عليها مَتاعَهُ صَدَقَةٌ، والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، ويُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ».
مَنْ كانَ مُوَفَّقاً لَمْ يَـحْتَقِرْ في سبيل النفعِ معروفاً وإن صَغُر، ولم يترُك في مجالِ البذلِ خيراً وإن حُقِرْ (لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طليقٍ)
يَبذِلُ المعروفَ صافٍ كالزُّلال. ليس بالمنانِ ولا يؤذيْ مَنْ وَصَل، نَفْعُهُ نفعٌ عريضٌ، قد كساه بالجلال. ليس الكريمُ إذا أعطى بمنانِ، بل مُتَهَلِّلٌ مستبشرٌ بعطائه. {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} لم يَلْتَفِت يَوْمَاً إلى معروفٍ أسداه، ولم يتحدَّثْ يوماً عن مناقبَ له، ولا عن جَمِيلٍ صَنَعَتْهُ يداهُ {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} صِفَةٌ التَزَمُوْها، أثنى اللهُ عليهم بها. لم تَتَحَدَّثْ بها ألسِنَتُهُم، وإنما تَحَدَّثَتْ بها أحوالُهم. اطَّلَعَ اللهُ عليها في سرائِرِهُم. {وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًاً} بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إن ربي غفور رحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه النبيُّ الأمين، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعين، وسلَّمَ تسليماً. أيها المسلمون: إن نفسَ الكريمِ أعظمُ ما تُسَرُّ، حينَ تسعى في نفعِ مسلمٍ، أو دَفعِ ضُرٍّ عنه. تَسعى في النَّفعِ بطيبِ نَفْسٍ، وكريمِ خُلُق. لا يُقْعِدُها عن المعروف إِن قُوبِلَ من لئيمٍ بالإساءة. مُحتسبةً الأجرَ على رَبِّها. قال: يا رسولَ الله: إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ؟! فَقَالَ رسولُ الله ﷺ: "لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ"
عباد الله: إن خيرَ الناسِ أنفَعُهُم للناسِ. وخيرُ النَّفعِ ما لَمْ تَقُدْهُ المصالحُ. إنْ كَانَ لَهُ عِندَ أحدٍ مِنَ الناسِ مصلحةٌ تُرجى غَمَرَهُ بنفعٍ يَرْتَجيْ منه ردَّ الجَمَائلِ. وإِنْ يأتِهِ مُستَضْعَفٌ مَغْمُوْرٌ مَدْفُوْعٌ بالأبوابِ. لم يُمْضِ له حاجةً ولَمْ يقضِ له مطلباً.
اللهم أصلح لنا سرائرَنا، وأخلص لنا أعمالَنا، وأعنا على ذِكرِك وشُكرِك وحُسْنِ عِبادتِك.. اللهم آمنا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعلْ وِلايتَنا فيمنْ خافَك واتقاكَ واتبعَ رِضَاك يا ربَّ العالمين، اللهم وفِّقْ وليَّ أمرِنا لِهُدَاك، اللهم وفِّقْهُ لما تُحِبُّه وتَرْضَاهُ مِن سَدِيدِ الأقوالِ وصالحِ الأعمال. اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.