من ذنوب القلوب

عبد الله بن علي الطريف
1444/04/30 - 2022/11/24 17:19PM

من ذنوب القلوب 1444/5/1هـ

اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَأَشْهَدُ أَلا إله إلا اللهُ وحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الـمُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِ شَيءٍ قَدِيرٌ، وأَشْهَدُ أَنَ مُحَمَّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ البَشِيرُ النَذِيرُ صَلْىَ اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسلِيمَاً كَثِيراً..

أما بعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].

أحبتي: القلب تلكم المضغة العجيبة والتي لا تتجاوز قبضة اليد.. هي صغيرة في حجمها كبيرة في طاعتها وجرمها.. والقلب هو ملك الأعضاء؛ فقد قَالَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ». رواه البخاري ومسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ويقول الله تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ، وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46] وَعَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: "الْقلبُ ملكُ، والأعضاءُ جُنُوده فَإِذا طَابَ الْمَلِكُ طابت جُنُوده وَإِذا خبث خبثت جُنُوده"

وكما أن للجوارح طاعات وذنوب.. فكذلك القلوب لها ذنوب يجب أن نخاف منها.. وطاعات ينبغي أن نهتم بها ونسعى لإتمامها.. ونقتنص أفضلها..

نعم أقول: نقتنص أفضل الأعمال القلبية، التي نغفل عنها، وينسينا الشيطانُ فضلَها وقيمتها، بل إن هذه الأعمال تُبَوئُ المتصف بها أعلى المنازل ليكون أفضل الناس.! فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟! قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ"، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟! قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لا إِثْمَ فِيهِ وَلا بَغْيَ وَلا غِلَّ وَلا حَسَدَ". رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.

أيها الإخوة: ما أعظم السؤال!! وما أدق الجواب!! لقد وصفَ رسول الله ﷺ بجوابه هذا أفضل الناس وصفًا دقيقًا، وصوره بصورةٍ بينة واضحة؛ لمن أراد أن يرتقي إلى هذه المرتبة السامية.

فمرتبةُ أفضلِ الناسِ لا يحوزها أحدٌ لشريفِ نسبه، أو لعظيمِ حسبه، ولا تشترى بالمال، ولا بكثرة الأعمال البدنية والمالية، وإنما يحوزها الإنسان بعد توفيق الله تعالى بالمجاهدة والمصابرة، على تحقيق الصفتين التي ذكرهما النبي ﷺ في هذا الحديث.

وأولهما: أن يكون مخموم القلب: أي سَلِيمُ الْقَلْبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:89] مِنْ خَمَمْتَ الْبَيْتَ إِذَا كَنَسْتَهُ، فَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مَكْنُوسًا نظيفًا صافيًا كالزجاجةِ، يُزيلُ ما عَلِقَ به من الأدرانِ أولاً بأول، مثلما تكنس البيت وتزيل ما به من قِمامةٍ أولاً بأول..

ثم بيّن صلوات ربي وسلامه عليه كيف يكون حالُ القلبِ بعد تنظيفه فقال: يكون تَقِيّاً نَقِيّاً أي: "لا إِثْمَ فِيهِ وَلا بَغْيَ وَلا غِلَّ وَلا حَسَدَ".

فنظيف القلب أو مخمومه يجب أن يكون قلبه تقيًّا، وحقيقة التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره، واجتناب نواهيه..

والقلب النقي: هو الصافي من الأدران وهي الإِثْمُ، وَالبَغْيُ، وَالغِلُّ، وَالحَسَدُ..

وإثمُ القلبِ أعظم وأشد من إثم الجوارح لخفائه وصعوبة التخلص منه..

ثم ذكر أعظم آثام القلوب وهي البَغْيُ:

 قال ابن حجر: البغي بمعناه العامّ: أي تجاوز قدر الاستحقاق أو طلب الاستعلاء بغير حقّ، فهو من الكبائر الباطنة الّتي يجب على المكلّف معرفتها. وقيل وهو مجاوزة الحد في الظلم والتعدي على الناس، وقد نهى الله عنه فقال: (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الأعراف:33]، قال السعدي: "أي: البغي على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فدخل في هذا الذنوبُ المتعلقةُ بحق الله، والمتعلقةُ بحق العباد. وقال: (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل:90]، ونهى عنه ﷺ فقَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ». أخرجه أبو داود والترمذي. عن أبي بكرة وزاد رزين: "وذلك لأن الله تعالى يقول: (إِنَّمَا بغْيُكم على أنفسكم) [يونس:23]" وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلا يَبْغي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ". رواه مسلم وغيره.

ومن صفات القلب المخموم أن يكون خاليًا من الغلُّ: أي الحِقْد الكامن في الصّدر، وقيل الضِّغْنُ: وهو الحقد والعداوة والبغضاء... وعدّه العزّ بن عبد السّلام رحمه الله من المنهيّات الباطنة، مستدلاً بقوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحشر:10]، أي أزل الحقد عن قلوبنا لإخواننا المؤمنين. وحذر منه النَّبِيٌّ ﷺ فقَالَ: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ؟! أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ". رواه الترمذي عن الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه وحسنه الألباني. وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو: ويقول: «..وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وصححه الألباني أي غشه وغله وحقده وحسده ونحوها بما ينشأ من الصدر ويسكن في القلب من مساوئ الأخلاق..

أيها الأحبة: ومن صفات القلب المخموم أن يكون خاليًا من الحسد وهو أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره من علم أو مال أو أهل أو جاه أو غير ذلك ويتمنى زوالها وهو من كبائر الذنوب، ومن سمات اليهود والعياذ بالله، كما قال الله تعالى عنهم: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [البقرة:109] وقال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، أي على ما أعطاهم من فضله: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) [النساء:54]، أي على ما أعطاهم من فضله.

وقد نهى عنه النَّبِيُّ ﷺ بقوله: "لا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا". رواه مسلم عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه. وتقدم قوله: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ".

أيها الأحبة: إن تنقيةَ القلوبِ وتطهيرَها من هذه العلل يفضي إلى الوصولِ إلى مرتبةٍ عظمى هي: مرتبة أفضل الناس.. فلم يصف رسول الله ﷺ أفضل الناس بأنه كثير الصيام، أو الصلاة أو الجهاد أو غيرها من العبادات البدنية أو المالية الظاهرة مع فضلها، ولكنه أطلق أفضل الناس على من تميز بقلبٍ تقيٍّ نقيٍّ صافٍ وضيءٍ رقراق، بريءٍ من الإثمِ والبغيِ والغل والحسد، وهي التي أوصلتهُ إلى الرتبةٍ الشريفةٍ المنيفةٍ، وهي أن يكون أفضلَ الناس، وقلبُه أحبَّ القلوبِ إِلَى اللّهِ وأكثَرَهَا خيرًا، تنبعُ منهُ عيونُ الخيرِ، وتتفجرُ منهُ ينابيعُ البرِّ، ونعم اللّهِ تغشاهُ عَلَى الدَّوَامِ. نسأل الله أن يبلغنا ذلك إنه جواد كريم.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ بِهُدَاهُمْ اقتدى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ أيها الإخوة: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ فهي وصيته للأولين والآخرين فقد قال: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ..) [النساء:131].

أيها الأحبة: حقٌّ على كل مسلم قلبه مريض بهذه الأدواء أنّ يطهر قلبه منها، ومن مات وقلبه مريض بها لم يلق الله -والعياذ بالله- بقلب سليم، ويُذمُّ على هذا أعظمَ ممّا يذمُّ على الزّنا والسّرقةِ وغيرها من كبائر الذنوب البدنية، وذلك لعظيم مفسدتها وسوء أثرها ودوامه، وإذا دامت هذه الكبائر في الإنسان وصارت حالاً وهيئةً راسخةً في القلبِ عرض نفسه للوعيد الوارد بكتاب الله القائل: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، بخلافِ آثار معاصي الجوارح التي تزول بالتّوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفّرة، ومن أراد أن يتبوأ منزلةَ أفضلِ الناس فلابد أن يتعبد لله بتطهيرِ قلبِه وتصفيةِ فؤادِه منها.

أيها الإخوة: ألسنا نرى من أنفسِنا أنا إذا وقعنا في معصية بدنية أو مالية ظاهرة استيقظ في قلوبنا التأنيب للفعل، وأحدثنا لذلك توبة واستغفارًا وندمًا!! لكن متى وقفنا مع أنفسِنا لنتفقدَ فيها خواطرَ العُجب، أو أدواءَ الحسد، أو آفة الغل والبغضاءِ والشحناء والبغي.

من هو الذي وقفَ منا مع نفسِه معنفًا لها لأنَه أحسَ بالبغضاءِ تدبُّ في قلبِه لأحد إخوانه المسلمين؟! بل من هو الذي وقفَ مع نفسِه محذرًا لها لأن الحسدَ تحركَ بين جوانِحه؟! ومن الذي وقفَ منا مع نفسِه مذعورًا لأنه شعر بالبغي على أخيه أو أُشعر به؟!

أحبتي: المشكلة أن الإنسانَ يتآلفُ مع هذه الخطايا والأمراض فلا يتفقدُها في نفسِه، بل ربما تضاعفَت المصيبة إذا برّر الإنسان لنفسه هذه الخطايا وهذه الأمراض، وما أيسرَ ذلك على صاحبِ الهوى أن يصطنعَ المعاذيرَ لنفسِه، ويفتحَ لها سُبلَ التهربِ، ويروج على نفسِه هالةً من الضبابِ تسترُ عن نفسِه خبيئتَه.

والمشكلةُ العظمى أن المصابَ بهذه الأدواء يتآلفُ معها، فتنمو وتتضاعف دون أن يحس بها بل ودون أن يؤنبَ نفسَه عليها.

إن الأمرَ الذي ينبغي أن نعيَه هو أننا بأشد الضرورةِ إلى تفقدِ خطراتِ القلوب وتصفيتِها، وأن يعلمَ كلٌّ منا أنه متى دب إلى قلبِه شيءٌ من هذه العلل فقد اشتعلت النارُ في ثيابِه وتوشكُ أن تُحرقَ بدنَه، ولذا فإن البحثَ عن أسبابِ تزكيةِ القلوبِ وتطهيرِها أمرٌ ينبغي أن نجدَ في طلبه ونسعى إليه.

وبعد أحبتي: فلنفترق، على عهدٍ بيننا وبين أنفسنا بأن نتفقدَ خطايا قلوبنا، ونواصلَ تطهيرَ نفوسِنا منها، ونحرس قلوبنا من هذه الخطايا أن تدبَ إليها، أو تنمو فيها؛ لنفوزَ بمرتبة أفضل الناس. اللهم أعنا على ذلك.

المشاهدات 4127 | التعليقات 0