من حِكَم الله في المصائب والبلايا ، وعبر وعظات من مشاهد الزلزال في الشام وتركيا
عبدالرحمن اللهيبي
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى, وأسعد وأشقى، واضحك وأبكى ، ومنع وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُ الأعلى, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى والرسول المجتبى وعلى آله وصحبه ومن اهتدى.
أما بعد فاتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ))
عباد الله: إن العباد حين يتأملون في أسماء الله وصفاته ويتفكرون فيها فإن ذلك مما يملأ قلوبهم إيمانا ويقينا ويورثهم طمأنينة وسكينة وأنسا، ويكسبهم خشوعا وحبا ، ورجاء وخوفا ، كل ذلك جراء ما حصل له من المعرفة بالله من خلال التفكر في أسماء الله, فمن عرف الله أحبه وأجله وعظمه ، وإننا سنقف اليوم متأملين لواحدٍ من هذه الأسماء الجليلة للرب العظيم، نتأمل في معناه وننظر في آثاره، ونربطه بشيء مما جرى من أحداث الزلازل في الأيام الماضية ، ألا وهو اسم الحكيم، وهو اسم ورد في واحد وتسعين موضعًا من كتاب الله
والحكيم يا مسلمون: هو الذي يضع الأمور في مواضعها ويوقعها مواقعها، فلا يبتلي إلا بحكمة، ولا يقدِّر إلا لحكمة ، وإن غاب عن الخلائق إدراكها، ومن ظن أن الله يقضي بلا حكمة ويُقدِّر بلا مصلحة فقد ضل وما هدى، وأساء الظن بربه فغوى, وقد قال المولى جل وعلا (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ* فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ*)
ومن حكمته سبحانه أنه يقدر على عباده المصيبة والبلاء، ويداول عليهم الشدة والرخاء، ليس ذلك عبثاً، بل لحكم عظيمة، وغايات جليلة، ليتبين الصابر من الشاكر ، والمفتقر إلى الله من المستكبر، والتائب من المجاهر ..
قال ابن القيم رحمه : يحب الله سبحانه أن يُشكر، ولولا خَلْقُ الله لأنواع البلايا لما عرف العبد نعمة العافية .. وأعرف الناس بقدر النعمة من ذاق طعم البلاء.
أصيب رجلٌ بحادث فعُرِض على الأطباء فاطلعوا منه على داء، لو تأخر عن كشفه لما أمكن تلافيه، وكان هلاكه فيه.
وآخر يريد السفر، فمنعه الله بحكمة وقدر، فانزعج وتكدر، وما علم أن ملك الموت كان ينتظر المسافرين، كل هذا بتدبير الحكيم العليم
فكم لله في أقداره من حكم باهرة، وحجج قاهرة، وآيات ظاهرة، ونعم سابغة.
وعليه فما يقع من المصائب والشدائد عَلَى المُسلِمِينَ ، وَإِن كَانَ في ظَاهِرِهِ عَذَابًا وَنِقمَةً، إِلاَّ أَنَّهُ في حَقِيقَتِهِ تَمحِيصٌ وَرَحمَةٌ ، فهو من تقدير العليم الحكيم سبحانه فيُخرِجُ لَهُم مِن أَرحَامِ المِحَنِ مِنَحًا وَعَطَايَا ، وَيَمنَعُ عَنهُم بِهَا مَصَائِبَ وَرَزَايَا..
وَهَذِهِ الابتِلاءَاتُ وَإِن كَانَت تَزِيدُ أَهلَ النفاق وَالشَّكِّ شكاً في عقيدتهم، وسوءَ ظن بربهم، وَزُهدًا في التمسك بدينهم، إلا أنها في المقابل تَزِيدُ في أهل الإيمان إِيمَانَهُم وَتُقَوِّي يَقِينَهُم، وَيَشتَدُّ بها صَبرُهُم، ويعظم بذلك أجرهم، ويزداد بها عند الله قربهم
ومن جليل الحِكم في هذه المصائب والبلايا أنها تَقطَعُ عَن المؤمنين كُلَّ اتِّصَالٍ بِالخَلقِ أَوِ اعتِمَادٍ عَلَيهِم، فَيَصرِفُونَ بِذَلِكَ إِلَى الله قُلُوبَهُم ، وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَيهِ مُخلِصِينَ في تُوَكُّلِهِم وَاعتِمَادِهِم ..
ومن حكم الله في المصائب والبلايا أنها اختِبَارٌ لصِدقِ الإِيمَانِ ، وتَمهِيدًا لِلتَّمكِينِ في الأَرضِ، قَالَ -تَعَالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)
وَقَالَ سُبحَانَهُ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ * وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكاذِبِينَ)
وَمِنَ حكم الله في المصائب والبلايا دخول الجنة في الآخرة فمن البلاء مَا يَكُونُ ثمنه الجَنَّةَ ، فعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "قَالَ اللهُ -سُبحَانَهُ وَتَعَالى-: إِذَا ابتَلَيتُ عَبدِي بِحَبِيبَتَيهِ ثُمَّ صَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنهُمَا الجَنَّة" يُرِيدُ عَينَيهِ. (رَوَاهُ البُخَارِيُّ)
ومن حكم الله في المصائب والبلايا أن يدرك العبد أَنَّ الدُّنيَا لَيسَت دَارَ استِقرَارٍ وَبَقَاءٍ ، بَل هِيَ مَرحَلَةُ تَغَيُّرٍ وَفَنَاءٍ ، وَاجتِمَاعٍ وَفُرقَةٍ ، وَغِنًى وَفَقرٍ ، وَقُوَّةٍ وَضَعفٍ ، وَمِن ثَمَّ فَلا يَركَنَ المؤمن إِلَيهَا، ولا يطمئن لها، وَلا يَنخَدِعَ بِمَتَاعِهَا ، فيكون حينئذٍ سعيه ورجاؤه في الآخرة
ومن حكم الله تعالى في المصائب والبلايا أَلاَّ يَأمَنَ المسلمون مِن مَكرِ اللهِ وَخَاصَّةً إِذَا هُم خَالَفُوا أَمرَهُ وَعَصَوهُ ، فقد رأوا من قدرة الله عجبا، فقد رأوا الأعاصير وما تفعله، ورأوا البراكين والفيضانات وما تصنعه، ورأوا الزلازل وما تحدثه، وأيقنوا أنه مَهمَا بَلَغَت قُوَّةُ الإِنسَانِ فِي هذه الأرضِ حضاريا أو عَسكَرِيًّا أَو تِقنِيًّا أَو صِنَاعِيًّا ، فَإِنَّهُ يَبقَى في قَبضَةِ رَبِّهِ ، لا يُعجِزُهُ تَعَالى شَيءٌ مِن أَمرِهِ ، قَالَ تَعَالى : " حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرضُ زُخرُفَهَا وَازَّيَّنَت وَظَنَّ أَهلُهَا أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيهَا أَتَاهَا أَمرُنَا لَيلًا أَو نَهَارًا فَجَعَلنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَم تَغنَ بِالأَمسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ "
وَمِنَ حكم الله في المصائب والبلايا أن يعلم العبد أنه لا فرار من الله إلا إِليه ، فَإِنَّ مَن رَأَى كَيفَ دَخَلَ النَّاسُ في أَيَّامِ وَبَاءِ (كورونا) بُيُوتَهُم خَائِفِينَ ، وَفي الزِّلازلِ خَرَجَ النَّاسُ مِن بُيُوتِهِم خَائِفِينَ ، وَمَعَ هَذَا لم يَسلَمْ كُلُّ الَّذِينَ دَخَلُوا بُيُوتَهُم خَوفًا مِنَ الوَباءِ ، وَلا كُلُّ الَّذِينَ خَرَجَوا مِنهَا فِرَارًا في الزِّلازلِ ، فمَن أَرادَ اللهُ لَهُ الحَياة فَقَد سَلِمَ وَبَقِيَ ، وَمَن قَضَى عَلَيهِ المَوتَ فَقَد ذَهَب وَفَنِيَ ، وَقَد رَأَينَا مَن بَقِيَ تَحتَ الأَنقَاضِ أَيَّامًا بِلا طَعَامٍ وَلا شَرَابٍ ، وَمَعَ هَذَا خَرَجَ سَالِمًا ، فَالأَمرُ بِيَدِ اللهِ ، وَبِيَدِهِ وَحدَهُ التَّدبِيرُ وَالتَّقدِيرُ ، وَلا مَلجَأَ مِنهُ إِلاَّ إِلَيهِ ، وَكُلُّ مَا يُخَافُ منه فَإِنَّهُ يُفَرُّ مِنهُ.. إِلاَّ اللهَ ، فَإِنَّهُ إِذَا خافه العبد فَرَّ إِلَيهِ ، وَبِقَدرِ القُربِ مِنهُ يَكُونُ الأَمنُ وَالأَمَانُ " فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُم مِنهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ " " الَّذِينَ آمَنُوا وَلم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُونَ "
أقول قولي هذا ..
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ هَذِهِ الفِتَنَ الَّتي تُصِيبُ الأُمَّةَ والابتلاءات، وَما تَتَوَالى عَلَيهَا من المصائب والنكبات، وَتِلكُمُ الزَّلازِلَ وَذَلِكُمُ القَتلَ والحصار وَالاستِذلالَ مِنَ الكُفَّارِ، وَالاستِصغَارَ مِنَ الأَعدَاءِ، إِنَّهُ وَإِن كَانَ في ظَاهِرِهِ عَذَابًا وَذِلَّةً، إِلاَّ أَنَّهُ في البَاطِنِ رَحمَةٌ مِنَ اللهِ ومِنَّه، وسيعقبه يُسر بعد عُسرٍ، وفرج بعد شدة، وتمكين واستخلاف بعد ذلة، والله تعالى يقول: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ فَلْيَتَّقِ اللهَ كُلُّ مُسلِمٍ ، وَلْيَعلَمْ أَنَّ عِلاقَتَهُ بالله عِلاقَةُ عَبدٍ بِرَبِّهِ ، فَلا يَجُوزُ أَن يَظُنَّ أَنَّهُ بِإِيَمانِهِ قَد استَحَقَّ أَن لا تُصيِبُهُ المصائب والآلامُ ، وَلا تَنَالُ مِنهُ الأَوجَاعُ وَالأَمرَاضُ ، وَلا يَتَعَرَّضُ لِلكَوَارِثِ وَالفَوَاجِعِ ، لا وَاللهِ ، فَلَيسَتِ العِلاقَةُ بِاللهِ عِلاقَةَ مُقَايَضَةٍ ، وَلا عَمَلٍ بِمُكَافَأَةٍ مُعَجَّلَةٍ وَلَكِنَّهُ إِيمَانٌ بالله ، وَيَقِينٌ بِأَنَّ الله تَعَالى سَيُعَوِّضُ المُؤمِنِينَ في الآخِرَةِ بِمَا يُنسِيهِم كُلَّ أَلَمٍ في الدُّنيَا وَمُعَانَاةٍ ، وفي الحديث الصحيح : (( يؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضرًّا ، وبلاءً ، أي يوم القيامة فيقالُ: اغمِسوهُ غمسةً في الجنَّةِ ، فيُغمَسُ فيها غمسةً ، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ ، أو بلاءٌ ، فيقولُ: ما أصابَني قطُّ ضرٌّ ، ولا بلاءٌ)) رواه ابن ماجه وصصحه الألباني والمؤمن الصادق تكون هذه المعاني والحكم حاضرة في قلبه لتطيب بذلك نفسه ، ويرضى عن ربه، ويصبر على قضائه وقدره ، وَقَد رَأَينَا فِيمَا نَقَلَت إِلَينَا وَسَائِلُ الإعلام والتواصل مشاهد إِيمَانِيَّةً عَظِيمَةً لِمَن وَقَعَ عَلَيهِمُ الزِّلزَالُ ، فتلك امرَأَةٌ رَفَضَتِ الخُرُوجَ مِن تَحتِ الأَنقَاضِ حَتى يُنَاوِلُوهَا حِجَابًا تَستُرُ بِهِ نَفسَهَا ، وَرَجُلٌ تَحتَ الأَنقَاضِ احتَاجَ المُسعِفُونَ وَقتًا لِيُخرِجُوهُ ، فَطَلَبَ منهم مَاءً لِيَتَوَضَّأَ حرصا منه على الصَّلاة ، وَأُنَاسٌ بَعدَ أَيَّامٍ مِنَ الاحتِجَازِ خَرَجُوا من تحت الأنقاض وَهُم يَحمَدُونَ اللهَ وَيَشكُرُونَهُ وَيَبتَسِمُونَ ، وَآخَرُونَ خَرَجُوا يُكَبِّرُونَ وَيَدعُونَ وَيَستَرجِعُونَ ، وآخر يشير إلى والده ووالدته وأسرته وهم أموات فيقول: رضيت بالله ربا .. إِنَّهُ الإِيمَانُ ، يُثَبِّتُ اللهُ بِهِ النُّفُوسَ في الفَوَاجِعِ وَالأَزَمَاتِ.. ولقد عَلِمْنا يقينًا ونحن أمامَ تلك المشاهد، أنّنا نَتَقَلّبُ في نعمٍ اللهِ ، واستشعرتِ القلوبُ عمليًّا قولَه عليه الصّلاةُ والسّلام: مَنْ أَصبحَ منكم آمنًا في سِرْبِهِ، مُعافًى في جَسدِهِ عندَهُ قُوتُ يومِهِ، فَكَأنَّما حِيزَتْ لَهُ الدُّنيا. وأدركنا عظيم أثر الأذكار والأوراد وحقيقةَ ما نَلْهَجُ به من ذِكْرٍ عندما نأوي إلى الفِراش: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لا كَافِيَ له وَلَا مُؤْوِيَ. واستحضَرْنا ما قالَ بعضُ السّلفِ لابنِه: يا بُنَيَّ، إذا مَرَّ بك يومٌ وليلةٌ قد سَلِمَ فيهما دينُك وجسمُك ومالُك وعيالُك، فأَكثِرْ الشّكرَ للَّهِ تعالى، فكمْ مِن مَسلوبٍ دينُه، ومَنزوعٍ مُلكُه، ومَهتوكٍ سِترُه، ومَقصومٍ ظهرُه في ذلك اليوم، وأنت في عافية. لقد أَدركْنا أمامَ تلك المشاهدِ المؤلمة، عظيمَ حاجتِنا لمَا أَرشدَنا إليه رسولُنا الكريم، عليه أفضلُ الصّلاةِ والتّسليم، بأنْ نُردّدَ أذكار الصباح والمساء ومن ذلك الذِّكْر العظيم: اللَّهمَّ إنِّي أسألُك العافيةَ في الدُّنيا والآخرةِ، اللَّهمَّ أسألُك العفوَ والعافيةَ في ديني ودُنيايَ وأَهلي ومالي، اللَّهمَّ استرْ عوراتى وآمِنْ رَوعاتي، اللَّهمَّ احفظْني مِن بينِ يَدىَّ ومِن خَلفي وعن يَميني وعَن شِمالي ومِن فَوقي وأَعوذُ بعظَمتِك أنْ أُغتالَ مِن تَحتي. فاتّقوا اللهَ رحمَكم الله، واشكروه على نِعمِه في السّراءِ والضّراء، كحالِ مَنْ سَبَقَكم مِن الأنبياءِ والأولياء (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).