من حصار الشِّعْب إلى حصار مضايا
إبراهيم بن صالح العجلان
1437/04/04 - 2016/01/14 22:46PM
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ:
جَفَّتِ الْأَكْبَادُ وَذَبُلَتِ الْأَجْسَادُ، قَرْقَرَتِ الْبُطُونُ وَظَمِئَتِ الْأَجْوَافُ.
أَطْفَالٌ يَصْرُخُونَ، وَشُيُوخٌ يَئِنُّونَ، مَرْضَى يَتَوَجَّعُونَ، وَرِجَالٌ حَائِرُونَ، إِنَّهُ مَشْهَدٌ مِنْ مَشَاهِدِ الْحِصَارِ، وصُورَةٌ مِنْ أَثَرِهِ وآلامِه، فما أشدَّ ألم الحصار، وما أقسى رُعْبَ الجُوْعِ، الذي يتطامنُ دونهَ كثيرٌ من صُورِ البلاء.
إنَّ وجَعَ الحصارِ والجوعِ قد مسَّ أفْضلَ القرونِ، وذاقَه خيرُ من عاش في الدنيا، فدَعُونا نقْطَعُ حُجُبَ الزَّمانِ، ونطْوي صفحاتِ التاريخِ، لِنَقْتَرِبَ مِنْ صَفْحَةٍ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُنْسَى، ذاق فيها المُرَّ والضرَّاء لِنَعْلمَ بعْدها أنَّ سبيلَ البلاءِ سار فيه الأنبياءُ والصُّلحاءِ.
هَا هِيَ ذِي دَعْوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَامِهَا السَّابِعِ تَتَعَاظَمُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَيَعْلُو شَأْنُهَا، وَيَتَعَالَى شَأْوُهَا، وَانْتَقَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ حَيَاةِ الْكِتْمَانِ وَالِاسْتِخْفَاءِ، إِلَى مَرْحَلَةِ الْجَهْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، فَطَاشَ مِنْ قُرَيْشٍ صَوَابُهَا، وَاضْطَرَبَتْ حِبَالُهَا، وَاشْتَعَلَتْ أَفْرَانُ الْحُمَمِ فِي صُدُورِهَا، وَبِالْأَخَصِّ بَعْدَ إِسْلَامِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا اللَّذَيْنِ قَلَبَا مَوَازِينَ الْقُوَّةِ، وَأَصْبَحَ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَهَا يَضَعُونَ لِلْفِئَةِ الْمُسْتَضْعَفَةِ حِسَابَاتٍ أُخْرَى.
أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ أَمْرَهَا عَلَى قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا طَالِبٍ عَمَّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَمَعَ أَبُو طَالِبٍ بَنِي هَاشِمٍ مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَكِيدَةِ قُرَيْشً، فَتَحَرَّكَتْ فِيهِمْ حَمِيَّةُ الدَّمِ وَالنَّسَبِ، فَقَرَّرُوا أَنْ يَنْحَازُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِعْبٍ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ: شِعْبُ أَبِي طَالِبٍ، وَانْحَازَ مَعَهُمْ حَمِيَّةً أَيْضًا بَنُو الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
رَأَتْ قُرَيْشٌ هَذِهِ الْحَمِيَّةَ وَالْمَنَعَةَ، فَعَرَفَتْ أَنَّ دُونَ ذَلِكَ نُفُوسًا ودِمَاءً، وَرُءُوسًا وَأَشْلَاءً.
فَقَرَّرَتْ قُرَيْشٌ مُعَاقَبَةَ هَذِهِ الْفِئَةِ الْمُسْلِمَةِ الْمَارِقَةِ وَمَنْ تَعَاطَفَ مَعَهَا، فسعَّروا حمْلَةً إعلاميَّة ضدَّ هذه الفئةَ المؤمنةَ، اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ قريش فِي خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، (وَيُسَمَّى الْيَوْمَ بِالْمَعَابِدَةِ) اِجْتَمَعُوا عَلَى مُقَاطَعَةِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ اقْتِصَادِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا، وَكَتَبُوا فِي ذَلِكَ كِتَابًا: "أَلَّا يُزَوِّجُوا إِلَيْهِمْ، وَلَا يَتَزَوَّجُوا مِنْهُمْ، وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيْئًا، وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ شَيْئًا، وَلَا يُكَلِّمُوهُمْ، وَلَا يُجَالِسُوهُمْ". حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعُلِّقَتْ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ الظَّالِمَةُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ تَأْكِيدًا عَلَى الْتِزَامِ مَا فِيهَا.
وَكَانَ الَّذِي كَتَبَ هَذِهِ الصَّحِيفَةَ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ الْعَبْدَرِيَّ، فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشُلَّتْ أَصَابِعُهُ.
سَارَعَ الْمُشْرِكُونَ فِي تَطْبِيقِ هَذَا الْحِصَارِ عَمَلِيًّا، فَلَمْ يَتْرُكُوا طَعَامًا يَدْخُلُ مَكَّةَ، وَلَا بَيْعًا إِلَّا بَادَرُوا فَاشْتَرَوْهُ بِأَضْعَافِ ثَمَنِهِ حَتَّى لَا يَشْتَرِيَهُ بَنُو هَاشِمٍ وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيْئًا
مِمَّا عِنْدَهُمْ أَبَدًا.
وَهَكَذَا قَلَّ الطَّعَامُ، وَنَقَصَ الزَّادُ، وَجَهِدَ الْمُسْلِمُونَ وَأَقَارِبُهُمْ وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ هَذَا الْحِصَارِ، وَالتَّضْيِيقِ الِاقْتِصَادِيِّ.
مَضَتِ الْأَيَّامُ وَالْأَشْهُرُ وَحَالُ الْمُسْلِمِينَ الْمُحَاصَرِينَ يَزْدَادُ مِنْ سُوءٍ إِلَى أَسْوَأَ، وَعَمَّ الْجُوعُ بَيْنَ أَهْلِ الشِّعْبِ، وَنَدَرَ الْكَلَامُ، وَقَلَّتِ الْحَرَكَةُ، وَكَانَ يُسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ أَصْوَاتُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الْجُوعِ، وَبَلَغَ بِالنَّاسِ مِنَ الْخَمَاصَةِ شَيْءٌ لَا يَكَادُ يُصَدَّقُ حَتَّى أَكَلُوا مَا يُمْكِنُ أَكْلُهُ.
وَلَعَلَّ مَوْقِفًا وَاحِدًا يُصَوِّرُ لَنَا شَيْئًا مِنْ حَالَةِ الْجُوعِ الَّتِي عَانَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَحْصُورِينَ؛ فَهَا هُوَ ذَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَذْكُرُ لَنَا مَوْقِفًا لَا يَنْسَاهُ فِي الشِّعْبِ؛ فَيَقُولُ: "خَرَجْتُ ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ فِي الشِّعْبِ لِأَقْضِيَ حَاجَتِي، فَسَمِعْتُ قَعْقَعَةً تَحْتَ الْبَوْلِ، فَإِذَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدِ بَعِيرٍ يَابِسَةٍ، فَأَخَذْتُهَا فَغَسَلْتُهَا، ثُمَّ أَحْرَقْتُهَا، ثُمَّ رَضَضْتُهَا، وَسَفَّفْتُهَا بِالْمَاءِ، فَتَقَوَّيْتُ بِهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ".
يَحْدُثُ هَذَا فِي الشِّعْبِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ مُقِيمُونَ فِي دِيَارِهِمْ مُطْمَئِنُّونَ مُنَعَّمُونَ.
وَمِنَ الْمَوَاقِفِ الْمَذْكُورَةِ أَيَّامَ الْحِصَارِ: أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يَتَعَاطَفُ مَعَ أَرْحَامِهِ الْمَحْصُورِينَ هُنَاكَ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَيْهِمْ حَمَلَاتٍ إِغَاثِيَّةً لَيْلًا، يَسْتَخْفُونَ بِهَا عَنْ أَعْيُنِ قُرَيْشٍ، فَكَانَ أَحَدُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو الْعَامِرِيُّ يُحَمِّلُ الْبَعِيرَ بِالطَّعَامِ وَالثِّيَابِ، وَيَأْخُذُ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ حَتَّى يَقِفَ عَلَى رَأْسِ الشِّعْبِ، ثُمَّ يَخْلَعُ خِطَامَ الْبَعِيرِ وَيُطْلِقُهُ فِي الشِّعْبِ.
وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يُرْسِلُ الطَّعَامَ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدَ سِرًّا، فَرَآهُ أَبُو جَهْلٍ يَوْمًا، فَجَعَلَ يُمَانِعُهُ عَنْ إِيصَالِ الطَّعَامِ، وَيُهَدِّدُ بِفَضْحِهِ وَالتَّشْهِيرِ بِهِ، فَجَاءَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، فَوَقَفَ مَعَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَحَصَلَتْ مُشَادَّةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ انْتَهَتْ بِرَضِّ رَأْسِ أَبِي جَهْلٍ بِحَجَرٍ حَتَّى أَدْمَاهُ، وَانْطَلَقَ حَكِيمُ إِلَى عَمَّتِهِ بِالطَّعَامِ.
الشَّاهِدُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ أَنَّ الْمَعُونَاتِ الْغِذَائِيَّةَ كَانَتْ تَدْخُلُ إِلَى الشِّعْبِ سِرًّا، وَكَانَتْ قَلِيلَةً جِدًّا.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: مَعَ مَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجُهْدِ وَالْبَلَاءِ فِي الشِّعْبِ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْبَلَاءَ لَمْ يَكُنْ شَرًّا مَحْضًا، بَلْ كَانَ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ مِنَ الْخَيْرِيَّةِ لِلدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْبَشَرُ بِعُقُولِهِمْ.
فَمَعَ مَا فِي هَذَا الْبَلَاءِ مِنْ رِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمُقَاطَعَةَ وَالتَّجْوِيعَ الْقَهْرِيَّ كَانَتْ حَدَثًا إِعْلَامِيًّا تَسَامَعَ لَهُ الْعَرَبُ، وَتَسَاءَلُوا عَنْ سَبَبِ هَذِهِ الْمُحَاصَرَةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ وَالَّتِي أَخْرَجَتْ قُرَيْشًا عَنْ رُشْدِهَا وَوَقَارِهَا، فَجَعَلَ الْعَرَبُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ يَتَلَقَّطُونَ أَخْبَارَ هَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَتَلَهَّفُونَ لِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ دَعْوَتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْحِصَارِ سَبَبًا فِي أَنْ تَخْرُجَ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ مِنْ إِقْلِيمِيَّةِ مَكَّةَ، إِلَى عَالَمِيَّةِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ آنَذَاكَ.
عِبَادَ اللهِ: وَمَضَتْ ثَلَاثَةُ أَعْوَامٍ مِنْ عُمْرِ ذَلِكَ الْحِصَارِ الْآثِمِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَسْتَعِينُونَ عَلَى مُدَافَعَةِ ذَلِكَ الْقَدَرِ الْإِلَهِيِّ بِالصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ وَانْتِظَارِ الْفَرَجِ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
انْشقَّت السَّماء، وَنَزَلَ الْوَحْيُ مِنَ ربِّ العالمينَ عَلَى قَلْبِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ؛ لِيُخْبِرَهُ بِأَنَّ تِلْكَ الصَّحِيفَةَ قَدْ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهَا دُوَيْبَةً ضَعِيفَةً، فَأَكَلَتْ وَرَقَتَهَا إِلَّا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أَخْبَرَ الْمُصْطَفَى عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ بِخَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْطَلَقَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى قُرَيْشٍ لِيُخْبِرَهُمْ بِأَمْرِ الصَّحِيفَةِ، وَأَنَّ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا إِلَّا اسْمَ اللهِ، ثُمَّ سَاوَمَهُمْ أَبُو طَالِبٍ عَلَى هَذِهِ الْمَعْلُومَةِ الْغَائِبَةِ عَنْهُمْ فَقَالَ: "إِنْ كَانَ كَلَامُ ابْنِ أَخِي حَقًّا فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا دَفَعْتُهُ إِلَيْكُمْ"، فَقَالُوا: "قَدْ أَنْصَفْتَنَا".
وَمَشَى الْجَمِيعُ إِلَى جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَوَجَدُوا الصَّحِيفَةَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَكِنْ أَبَى الْعِنَادُ وَالِاسْتِكْبَارُ إِلَّا أَنْ يَرْكَبَ رُءُوسَ رُؤَسَائِهِمْ، فَأبَوْا إِلَّا الْمُضِيَّ فِي الْمُقَاطَعَةِ وَالْمُحَاصَرَةِ.
بَعْدَ هَذَا الْمَوْقِفِ وَطُولِ الْمَقَامِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ فِي الشِّعْبِ تَحَرَّكَتْ مُرُوءَةُ رِجَالٍ مِنْ
قُرَيْشٍ، فَاجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْهُمْ لَيْلًا، وَتَلَاوَمُوا عَلَى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ الظَّالِمَةِ وَالرَّحِمِ الْمُقَطَّعَةِ، وَتَحَرَّكَتْ فِيهِمْ وَشَائِجُ النَّخْوَةِ وَالشَّهَامَةِ، فَقَرَّرُوا نَقْضَ الصَّحِيفَةِ وَإِنْهَاءَ حَيَاةِ الضُّرِّ الَّتِي قَاسَاهَا بَنُو هَاشِمٍ طَوَالَ أَعْوَامٍ ثَلَاثَةٍ، فَلَمْ يُصْبِحُوا مِنْ لَيْلَتِهِمْ تِلْكَ إِلَّا وَيَمَّمُوا شَطْرَ تِلْكَ الصَّحِيفَةِ وَمَزَّقُوهَا؛ لِيُعْلِنُوا بَعْدَهَا إِنْهَاءَ أَزْمَةِ الْحِصَارِ، وَإِخْرَاجَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ هَذَا الشِّعْبِ.
فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يَخْرُجُ سَيِّدُ الْبَشَرِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الشِّعْبِ وَمِحْنَةِ الْحِصَارِ، وَهُمْ أَصْلَبُ إِيمَانًا وَأَشَدُّ ثَبَاتًا عَلَى الدِّينِ، وَهَكَذَا الْأَحْدَاثُ وَالِابْتِلَاءَاتُ تَصْنَعُ لِلْأُمَّةِ الرِّجَالَ، وَتُخْرِجُ لِلْمُسْتَقْبَلِ الْأَبْطَالَ.
وَبَقِيَتْ مَعَالْمُ الشِّعْبِ فِي ذِكْرَيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ دَخَلَ مَكَّةَ فَاتِحًا، فَحِينَمَا كَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَأَزَالَ الْوَثَنِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَدَانَتْ لَهُ مَكَّةُ؛ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ تُضْرَبَ لَهُ خَيْمَةٌ فِي شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى تَرَى الْبَشَرِيَّةُ صِدْقَ وَعْدِ اللهِ لِنَبِيِّهِ، فَهَذِهِ الْبُقْعَةُ الَّتِي شَهِدَتْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ تَأَوُّهَاتِ الْجَائِعِينَ، وَصَبْرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، هَا هِيَ الْيَوْمَ تَشْهَدُ مَقَامَ نَبِيِّ اللهِ عَزِيزًا شَامِخًا، وَلَا أَثَرَ لِلشِّرْكِ وَلَا آثَارَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَصَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ...
جَفَّتِ الْأَكْبَادُ وَذَبُلَتِ الْأَجْسَادُ، قَرْقَرَتِ الْبُطُونُ وَظَمِئَتِ الْأَجْوَافُ.
أَطْفَالٌ يَصْرُخُونَ، وَشُيُوخٌ يَئِنُّونَ، مَرْضَى يَتَوَجَّعُونَ، وَرِجَالٌ حَائِرُونَ، إِنَّهُ مَشْهَدٌ مِنْ مَشَاهِدِ الْحِصَارِ، وصُورَةٌ مِنْ أَثَرِهِ وآلامِه، فما أشدَّ ألم الحصار، وما أقسى رُعْبَ الجُوْعِ، الذي يتطامنُ دونهَ كثيرٌ من صُورِ البلاء.
إنَّ وجَعَ الحصارِ والجوعِ قد مسَّ أفْضلَ القرونِ، وذاقَه خيرُ من عاش في الدنيا، فدَعُونا نقْطَعُ حُجُبَ الزَّمانِ، ونطْوي صفحاتِ التاريخِ، لِنَقْتَرِبَ مِنْ صَفْحَةٍ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُنْسَى، ذاق فيها المُرَّ والضرَّاء لِنَعْلمَ بعْدها أنَّ سبيلَ البلاءِ سار فيه الأنبياءُ والصُّلحاءِ.
هَا هِيَ ذِي دَعْوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَامِهَا السَّابِعِ تَتَعَاظَمُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَيَعْلُو شَأْنُهَا، وَيَتَعَالَى شَأْوُهَا، وَانْتَقَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ حَيَاةِ الْكِتْمَانِ وَالِاسْتِخْفَاءِ، إِلَى مَرْحَلَةِ الْجَهْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، فَطَاشَ مِنْ قُرَيْشٍ صَوَابُهَا، وَاضْطَرَبَتْ حِبَالُهَا، وَاشْتَعَلَتْ أَفْرَانُ الْحُمَمِ فِي صُدُورِهَا، وَبِالْأَخَصِّ بَعْدَ إِسْلَامِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا اللَّذَيْنِ قَلَبَا مَوَازِينَ الْقُوَّةِ، وَأَصْبَحَ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَهَا يَضَعُونَ لِلْفِئَةِ الْمُسْتَضْعَفَةِ حِسَابَاتٍ أُخْرَى.
أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ أَمْرَهَا عَلَى قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا طَالِبٍ عَمَّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَمَعَ أَبُو طَالِبٍ بَنِي هَاشِمٍ مُؤْمِنَهُمْ وَكَافِرَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَكِيدَةِ قُرَيْشً، فَتَحَرَّكَتْ فِيهِمْ حَمِيَّةُ الدَّمِ وَالنَّسَبِ، فَقَرَّرُوا أَنْ يَنْحَازُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِعْبٍ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ: شِعْبُ أَبِي طَالِبٍ، وَانْحَازَ مَعَهُمْ حَمِيَّةً أَيْضًا بَنُو الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
رَأَتْ قُرَيْشٌ هَذِهِ الْحَمِيَّةَ وَالْمَنَعَةَ، فَعَرَفَتْ أَنَّ دُونَ ذَلِكَ نُفُوسًا ودِمَاءً، وَرُءُوسًا وَأَشْلَاءً.
فَقَرَّرَتْ قُرَيْشٌ مُعَاقَبَةَ هَذِهِ الْفِئَةِ الْمُسْلِمَةِ الْمَارِقَةِ وَمَنْ تَعَاطَفَ مَعَهَا، فسعَّروا حمْلَةً إعلاميَّة ضدَّ هذه الفئةَ المؤمنةَ، اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ قريش فِي خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، (وَيُسَمَّى الْيَوْمَ بِالْمَعَابِدَةِ) اِجْتَمَعُوا عَلَى مُقَاطَعَةِ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ اقْتِصَادِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا، وَكَتَبُوا فِي ذَلِكَ كِتَابًا: "أَلَّا يُزَوِّجُوا إِلَيْهِمْ، وَلَا يَتَزَوَّجُوا مِنْهُمْ، وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيْئًا، وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ شَيْئًا، وَلَا يُكَلِّمُوهُمْ، وَلَا يُجَالِسُوهُمْ". حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعُلِّقَتْ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ الظَّالِمَةُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ تَأْكِيدًا عَلَى الْتِزَامِ مَا فِيهَا.
وَكَانَ الَّذِي كَتَبَ هَذِهِ الصَّحِيفَةَ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ الْعَبْدَرِيَّ، فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشُلَّتْ أَصَابِعُهُ.
سَارَعَ الْمُشْرِكُونَ فِي تَطْبِيقِ هَذَا الْحِصَارِ عَمَلِيًّا، فَلَمْ يَتْرُكُوا طَعَامًا يَدْخُلُ مَكَّةَ، وَلَا بَيْعًا إِلَّا بَادَرُوا فَاشْتَرَوْهُ بِأَضْعَافِ ثَمَنِهِ حَتَّى لَا يَشْتَرِيَهُ بَنُو هَاشِمٍ وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيْئًا
مِمَّا عِنْدَهُمْ أَبَدًا.
وَهَكَذَا قَلَّ الطَّعَامُ، وَنَقَصَ الزَّادُ، وَجَهِدَ الْمُسْلِمُونَ وَأَقَارِبُهُمْ وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ هَذَا الْحِصَارِ، وَالتَّضْيِيقِ الِاقْتِصَادِيِّ.
مَضَتِ الْأَيَّامُ وَالْأَشْهُرُ وَحَالُ الْمُسْلِمِينَ الْمُحَاصَرِينَ يَزْدَادُ مِنْ سُوءٍ إِلَى أَسْوَأَ، وَعَمَّ الْجُوعُ بَيْنَ أَهْلِ الشِّعْبِ، وَنَدَرَ الْكَلَامُ، وَقَلَّتِ الْحَرَكَةُ، وَكَانَ يُسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ أَصْوَاتُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الْجُوعِ، وَبَلَغَ بِالنَّاسِ مِنَ الْخَمَاصَةِ شَيْءٌ لَا يَكَادُ يُصَدَّقُ حَتَّى أَكَلُوا مَا يُمْكِنُ أَكْلُهُ.
وَلَعَلَّ مَوْقِفًا وَاحِدًا يُصَوِّرُ لَنَا شَيْئًا مِنْ حَالَةِ الْجُوعِ الَّتِي عَانَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَحْصُورِينَ؛ فَهَا هُوَ ذَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَذْكُرُ لَنَا مَوْقِفًا لَا يَنْسَاهُ فِي الشِّعْبِ؛ فَيَقُولُ: "خَرَجْتُ ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ فِي الشِّعْبِ لِأَقْضِيَ حَاجَتِي، فَسَمِعْتُ قَعْقَعَةً تَحْتَ الْبَوْلِ، فَإِذَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدِ بَعِيرٍ يَابِسَةٍ، فَأَخَذْتُهَا فَغَسَلْتُهَا، ثُمَّ أَحْرَقْتُهَا، ثُمَّ رَضَضْتُهَا، وَسَفَّفْتُهَا بِالْمَاءِ، فَتَقَوَّيْتُ بِهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ".
يَحْدُثُ هَذَا فِي الشِّعْبِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ مُقِيمُونَ فِي دِيَارِهِمْ مُطْمَئِنُّونَ مُنَعَّمُونَ.
وَمِنَ الْمَوَاقِفِ الْمَذْكُورَةِ أَيَّامَ الْحِصَارِ: أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يَتَعَاطَفُ مَعَ أَرْحَامِهِ الْمَحْصُورِينَ هُنَاكَ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَيْهِمْ حَمَلَاتٍ إِغَاثِيَّةً لَيْلًا، يَسْتَخْفُونَ بِهَا عَنْ أَعْيُنِ قُرَيْشٍ، فَكَانَ أَحَدُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو الْعَامِرِيُّ يُحَمِّلُ الْبَعِيرَ بِالطَّعَامِ وَالثِّيَابِ، وَيَأْخُذُ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ حَتَّى يَقِفَ عَلَى رَأْسِ الشِّعْبِ، ثُمَّ يَخْلَعُ خِطَامَ الْبَعِيرِ وَيُطْلِقُهُ فِي الشِّعْبِ.
وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يُرْسِلُ الطَّعَامَ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدَ سِرًّا، فَرَآهُ أَبُو جَهْلٍ يَوْمًا، فَجَعَلَ يُمَانِعُهُ عَنْ إِيصَالِ الطَّعَامِ، وَيُهَدِّدُ بِفَضْحِهِ وَالتَّشْهِيرِ بِهِ، فَجَاءَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، فَوَقَفَ مَعَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَحَصَلَتْ مُشَادَّةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ انْتَهَتْ بِرَضِّ رَأْسِ أَبِي جَهْلٍ بِحَجَرٍ حَتَّى أَدْمَاهُ، وَانْطَلَقَ حَكِيمُ إِلَى عَمَّتِهِ بِالطَّعَامِ.
الشَّاهِدُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ أَنَّ الْمَعُونَاتِ الْغِذَائِيَّةَ كَانَتْ تَدْخُلُ إِلَى الشِّعْبِ سِرًّا، وَكَانَتْ قَلِيلَةً جِدًّا.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: مَعَ مَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجُهْدِ وَالْبَلَاءِ فِي الشِّعْبِ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْبَلَاءَ لَمْ يَكُنْ شَرًّا مَحْضًا، بَلْ كَانَ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ مِنَ الْخَيْرِيَّةِ لِلدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مَا لَا يُدْرِكُهُ الْبَشَرُ بِعُقُولِهِمْ.
فَمَعَ مَا فِي هَذَا الْبَلَاءِ مِنْ رِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْمُقَاطَعَةَ وَالتَّجْوِيعَ الْقَهْرِيَّ كَانَتْ حَدَثًا إِعْلَامِيًّا تَسَامَعَ لَهُ الْعَرَبُ، وَتَسَاءَلُوا عَنْ سَبَبِ هَذِهِ الْمُحَاصَرَةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ وَالَّتِي أَخْرَجَتْ قُرَيْشًا عَنْ رُشْدِهَا وَوَقَارِهَا، فَجَعَلَ الْعَرَبُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ يَتَلَقَّطُونَ أَخْبَارَ هَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَتَلَهَّفُونَ لِمَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ دَعْوَتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْحِصَارِ سَبَبًا فِي أَنْ تَخْرُجَ الدَّعْوَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ مِنْ إِقْلِيمِيَّةِ مَكَّةَ، إِلَى عَالَمِيَّةِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ آنَذَاكَ.
عِبَادَ اللهِ: وَمَضَتْ ثَلَاثَةُ أَعْوَامٍ مِنْ عُمْرِ ذَلِكَ الْحِصَارِ الْآثِمِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَسْتَعِينُونَ عَلَى مُدَافَعَةِ ذَلِكَ الْقَدَرِ الْإِلَهِيِّ بِالصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ وَانْتِظَارِ الْفَرَجِ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
انْشقَّت السَّماء، وَنَزَلَ الْوَحْيُ مِنَ ربِّ العالمينَ عَلَى قَلْبِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ؛ لِيُخْبِرَهُ بِأَنَّ تِلْكَ الصَّحِيفَةَ قَدْ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهَا دُوَيْبَةً ضَعِيفَةً، فَأَكَلَتْ وَرَقَتَهَا إِلَّا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أَخْبَرَ الْمُصْطَفَى عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ بِخَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْطَلَقَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى قُرَيْشٍ لِيُخْبِرَهُمْ بِأَمْرِ الصَّحِيفَةِ، وَأَنَّ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا إِلَّا اسْمَ اللهِ، ثُمَّ سَاوَمَهُمْ أَبُو طَالِبٍ عَلَى هَذِهِ الْمَعْلُومَةِ الْغَائِبَةِ عَنْهُمْ فَقَالَ: "إِنْ كَانَ كَلَامُ ابْنِ أَخِي حَقًّا فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا دَفَعْتُهُ إِلَيْكُمْ"، فَقَالُوا: "قَدْ أَنْصَفْتَنَا".
وَمَشَى الْجَمِيعُ إِلَى جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَوَجَدُوا الصَّحِيفَةَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَكِنْ أَبَى الْعِنَادُ وَالِاسْتِكْبَارُ إِلَّا أَنْ يَرْكَبَ رُءُوسَ رُؤَسَائِهِمْ، فَأبَوْا إِلَّا الْمُضِيَّ فِي الْمُقَاطَعَةِ وَالْمُحَاصَرَةِ.
بَعْدَ هَذَا الْمَوْقِفِ وَطُولِ الْمَقَامِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ فِي الشِّعْبِ تَحَرَّكَتْ مُرُوءَةُ رِجَالٍ مِنْ
قُرَيْشٍ، فَاجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْهُمْ لَيْلًا، وَتَلَاوَمُوا عَلَى هَذِهِ الصَّحِيفَةِ الظَّالِمَةِ وَالرَّحِمِ الْمُقَطَّعَةِ، وَتَحَرَّكَتْ فِيهِمْ وَشَائِجُ النَّخْوَةِ وَالشَّهَامَةِ، فَقَرَّرُوا نَقْضَ الصَّحِيفَةِ وَإِنْهَاءَ حَيَاةِ الضُّرِّ الَّتِي قَاسَاهَا بَنُو هَاشِمٍ طَوَالَ أَعْوَامٍ ثَلَاثَةٍ، فَلَمْ يُصْبِحُوا مِنْ لَيْلَتِهِمْ تِلْكَ إِلَّا وَيَمَّمُوا شَطْرَ تِلْكَ الصَّحِيفَةِ وَمَزَّقُوهَا؛ لِيُعْلِنُوا بَعْدَهَا إِنْهَاءَ أَزْمَةِ الْحِصَارِ، وَإِخْرَاجَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنْ هَذَا الشِّعْبِ.
فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يَخْرُجُ سَيِّدُ الْبَشَرِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الشِّعْبِ وَمِحْنَةِ الْحِصَارِ، وَهُمْ أَصْلَبُ إِيمَانًا وَأَشَدُّ ثَبَاتًا عَلَى الدِّينِ، وَهَكَذَا الْأَحْدَاثُ وَالِابْتِلَاءَاتُ تَصْنَعُ لِلْأُمَّةِ الرِّجَالَ، وَتُخْرِجُ لِلْمُسْتَقْبَلِ الْأَبْطَالَ.
وَبَقِيَتْ مَعَالْمُ الشِّعْبِ فِي ذِكْرَيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ دَخَلَ مَكَّةَ فَاتِحًا، فَحِينَمَا كَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَأَزَالَ الْوَثَنِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَدَانَتْ لَهُ مَكَّةُ؛ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ تُضْرَبَ لَهُ خَيْمَةٌ فِي شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى تَرَى الْبَشَرِيَّةُ صِدْقَ وَعْدِ اللهِ لِنَبِيِّهِ، فَهَذِهِ الْبُقْعَةُ الَّتِي شَهِدَتْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ تَأَوُّهَاتِ الْجَائِعِينَ، وَصَبْرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، هَا هِيَ الْيَوْمَ تَشْهَدُ مَقَامَ نَبِيِّ اللهِ عَزِيزًا شَامِخًا، وَلَا أَثَرَ لِلشِّرْكِ وَلَا آثَارَ لِلْمُشْرِكِينَ، وَصَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى، أَمَّا بَعْدُ فيا إخوةَ الإيمان، ومِنْ حديثِ الأَمْسِ إلى حديثِ اليومِ، مِنْ حِصَارِ الشِّعْبِ إلى حِصَار مَضَايا...
يَقِفُ اللسانُ، ويَعْجَمُ البيانُ عن تَصْويرِ حالةِ البُؤْسِ والمسْغَبةِ والضَّرَّاء، فالصُّورةُ أَبْلغُ مِنْ ألفِ قولٍ ومقال.
مناظرُ تَفُتُّ الفؤادَ فتّاً، وتُقَطِّعُ القلوب كمداً، هَياكِلُ عَظْمية لم يبقَ منها إلا الجلدُ والعَظْم، حالاتٌ من الإغماءِ بسببِ الجوعِ الشديد، عَزَّت اللُّقْمة، وتقاسمَ النَّاسُ الأكلة، أكثرُ مِنْ أربعينَ ألف يُحاصرون في بقعةٍ محدودة، لا يَصِلُ إليهم غذاءٌ ولا دواءٌ ولا كساء، أَكَلَ الناسُ ورقَ الأشجار, بل حتى الجيفَ ولحومَ القطط والكلاب، قد بحَّتْ أصواتٌ الجوعي تستغيثُ بدول الجوارِ وأهلِ الإسلام، وتستنجدُ المنظماتِ العالميةِ من هذا الموت البطيء.
مضايا شاهدٌ عَصْري على عَوَرِ مبادئِ القيمِ الغَرْبية، التي تَهُبُّ للحيوان والتمثال والاثار، وتَتَغَنَّى بالحقوقِ والعدلِ والحريات، ثم تتعامى عن أَبْجدياتِ حقِّ الإنسانِ حين يكونُ هذا الإنسانُ من أهلِ الإسلام.
صورُ مضايا رسائلُ صامتةٌ للأمةِ الإسلاميةِ من خطر الغول الرافضي الباطني، فحجم حقدهم وعدائهم قد بدا وتكشَّف وتنفَّس، فها هي الأفاعي الصفوية تقتل وتشرد وتجوع بأهل السنة الأبرياء العزل ما لم تفعله يهود في فلسطين.
صور مضايا كشفت النفاقَ الرافضيَ وخداعَه، وأنَّ مشروعَه وجهادَه وممانعتَه هو قتال أهل السنة، وهدم عقائد المسلمين، فتاريخهم يقطر دماً، وواقعهم يصدق هذا التاريخ الإجرامي.
صور مضايا أثبتت صدق ما قاله العلماء الأكابر عن حقيقة المذاهب الرافضية، وعداوتهم للشعوب السنية، فلقد ظن بعضنا أن رواياتهم وعقيدتهم في استحلال الدم السني قد طواها الزمان، فإذا أحداث العراق، وسوريا ولبنان واليمن، وفي كل قِطْر يتمكنون فيه تصدق هذه العقيدة المخفية، وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال قبل سبعة قرون : (ضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين).
صور مضايا واعظ صامت لشعوب والمسلمين بأنَّ أُممَ الغرب لن تلتفت لدمائكم، ولن تتحرك لقضاياكم، وأن على دول الإسلام أن تتقوى بنفسها، وتحمي ذاتها، وتستدفع كل خطر عنها في بداياته قبل أن يستفحل.
صور مضايا رسالة واضحة في حفظ النعمة وشكرها، والقيام بحقها، فليس بيننا وبين لباس الجوع والخوف إلا كفران النعم ونسيانها .
مضايا جرح جديد نازف يستنجد بقية الجسد، يطلب النخوة، ويتحيَّن النصرة،
ولئن حاصرت عصابات النصيرية وحزب الشيطان مضايا ومنعوا وصول الدواء والغذاء فلن يحاصروا مدد السماء، فارفعوا أيها المسلمون أكفَّ الضراعة في أوقات الإجابة، وتحسسوا الجميعات الخيرية التي توصل المعونات إلى الجوعى والمرضى، وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ.
يا أهل الإيمان ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار، فاتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرة.
اللهم يا ناصر المظلومين، يا ملجأ المستضعفين كن لإخواننا المسلمين في مضايا وفي سوريا وفي غزة وفي كل مكان ...
يَقِفُ اللسانُ، ويَعْجَمُ البيانُ عن تَصْويرِ حالةِ البُؤْسِ والمسْغَبةِ والضَّرَّاء، فالصُّورةُ أَبْلغُ مِنْ ألفِ قولٍ ومقال.
مناظرُ تَفُتُّ الفؤادَ فتّاً، وتُقَطِّعُ القلوب كمداً، هَياكِلُ عَظْمية لم يبقَ منها إلا الجلدُ والعَظْم، حالاتٌ من الإغماءِ بسببِ الجوعِ الشديد، عَزَّت اللُّقْمة، وتقاسمَ النَّاسُ الأكلة، أكثرُ مِنْ أربعينَ ألف يُحاصرون في بقعةٍ محدودة، لا يَصِلُ إليهم غذاءٌ ولا دواءٌ ولا كساء، أَكَلَ الناسُ ورقَ الأشجار, بل حتى الجيفَ ولحومَ القطط والكلاب، قد بحَّتْ أصواتٌ الجوعي تستغيثُ بدول الجوارِ وأهلِ الإسلام، وتستنجدُ المنظماتِ العالميةِ من هذا الموت البطيء.
مضايا شاهدٌ عَصْري على عَوَرِ مبادئِ القيمِ الغَرْبية، التي تَهُبُّ للحيوان والتمثال والاثار، وتَتَغَنَّى بالحقوقِ والعدلِ والحريات، ثم تتعامى عن أَبْجدياتِ حقِّ الإنسانِ حين يكونُ هذا الإنسانُ من أهلِ الإسلام.
صورُ مضايا رسائلُ صامتةٌ للأمةِ الإسلاميةِ من خطر الغول الرافضي الباطني، فحجم حقدهم وعدائهم قد بدا وتكشَّف وتنفَّس، فها هي الأفاعي الصفوية تقتل وتشرد وتجوع بأهل السنة الأبرياء العزل ما لم تفعله يهود في فلسطين.
صور مضايا كشفت النفاقَ الرافضيَ وخداعَه، وأنَّ مشروعَه وجهادَه وممانعتَه هو قتال أهل السنة، وهدم عقائد المسلمين، فتاريخهم يقطر دماً، وواقعهم يصدق هذا التاريخ الإجرامي.
صور مضايا أثبتت صدق ما قاله العلماء الأكابر عن حقيقة المذاهب الرافضية، وعداوتهم للشعوب السنية، فلقد ظن بعضنا أن رواياتهم وعقيدتهم في استحلال الدم السني قد طواها الزمان، فإذا أحداث العراق، وسوريا ولبنان واليمن، وفي كل قِطْر يتمكنون فيه تصدق هذه العقيدة المخفية، وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال قبل سبعة قرون : (ضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين).
صور مضايا واعظ صامت لشعوب والمسلمين بأنَّ أُممَ الغرب لن تلتفت لدمائكم، ولن تتحرك لقضاياكم، وأن على دول الإسلام أن تتقوى بنفسها، وتحمي ذاتها، وتستدفع كل خطر عنها في بداياته قبل أن يستفحل.
صور مضايا رسالة واضحة في حفظ النعمة وشكرها، والقيام بحقها، فليس بيننا وبين لباس الجوع والخوف إلا كفران النعم ونسيانها .
مضايا جرح جديد نازف يستنجد بقية الجسد، يطلب النخوة، ويتحيَّن النصرة،
ولئن حاصرت عصابات النصيرية وحزب الشيطان مضايا ومنعوا وصول الدواء والغذاء فلن يحاصروا مدد السماء، فارفعوا أيها المسلمون أكفَّ الضراعة في أوقات الإجابة، وتحسسوا الجميعات الخيرية التي توصل المعونات إلى الجوعى والمرضى، وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ.
يا أهل الإيمان ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار، فاتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرة.
اللهم يا ناصر المظلومين، يا ملجأ المستضعفين كن لإخواننا المسلمين في مضايا وفي سوريا وفي غزة وفي كل مكان ...
المرفقات
من حصار الشِّعب إلى حصار مضايا.docx
من حصار الشِّعب إلى حصار مضايا.docx
المشاهدات 2085 | التعليقات 3
في الصميم
نفع الله بك
عبدالله الطوالة;30087 wrote:
أجدت وأفدت شيخ إبراهيم ..
جزاك الله خيراُ وبارك الله في علمك وقلمك ..
دمت موفقاً مسددا ..
جزاك الله خيراُ وبارك الله في علمك وقلمك ..
دمت موفقاً مسددا ..
أنشهد...
آمين
عبدالله محمد الطوالة
أجدت وأفدت شيخ إبراهيم ..
جزاك الله خيراُ وبارك الله في علمك وقلمك ..
دمت موفقاً مسددا ..
تعديل التعليق