من جميل المنقول في: الأمانة والنزاهة ، ومكافحة الفساد والخيانة
عبدالرحمن اللهيبي
الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ؛ أَثْنَى عَلَى الأمناءِ المُصْلِحِينَ، وَذَمَّ الخائنين وَالمُفْسِدِينَ، {وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ ونعمائه، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ حَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنَ اسْتِحْلاَلِ الأَمْوَالِ وَسلب الحُقُوقِ، نُصْحًا لِأُمَّتِهِ، وَخَوْفًا عَلَيْهَا، وَرَحْمَةً بِهَا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوهُ فِي الوظائف والمناصبِ وَالأَعْمَالِ، وفي الأمانات والحقوق والأموال وَفِي جميع الشُّئُونِ وَالأَحْوَالِ؛ فَإِنَّكُمْ مُحَاسَبُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ ووظائفكم وأماناتكم وتجاراتكم بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
أَيُّهَا المسلمون: يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ ، وَقَلْبُهُ لا يزال شَابٌّ عَلَى حُبِّ المَالِ ، فإن كثيرا من الناس عند المال تَضْعُفُ دِيَانَتُهم، وَتَضْمَحِلُّ أَمَانَتُهُمْ، فَيَتَخَوَّضُونُ فِي مَالِ اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَسْتَحِلُّونَ منه ما لا يحل، ويرتكبون في سبيل ذلك أَنْوَاعَ المكر والحِيَلِ .. وَالله تعالى يقول : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ"
وقال ﷺ: ((ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يبالي المرءُ بما أخَذَ المال، أمِن حلال أو مِن حرام)) أخرجه البخاري.
فيا مَن باع دينَه بحفنةٍ منَ المال، ويا مَن أكل أموالَ الدولة أو الناس بالباطلِ والاحتيال، ويا من أكل حقوق الأجراء والعمال، تذكَّر يوم العرضِ والأهوال، تذكَّر يوم الوقوفِ بين يدي الكبير المتعالِ ، تذكَّر يوم تصفَّد بالسلاسلِ والأغلال، ولكلِّ غادرٍ يومَ القيامة لواءٌ يقال: هذه غدرةُ فلانِ ابن فلان.
فيا حسرةَ على من اشترَى النارَ وغضَبَ الجبارِ ، بمتاعٍ رخيص وثمن زهيد سيضمحلّ ويزول ، قال ﷺ: ((لا يربو لحمٌ نبَت من سحتٍ إلا كانت النارُ أولى به))
فأين من رَبا لحمُه بمكاسِب الربا والرشاوى، وجحدِ الحقوق وكِتمان العيوبِ ، والتلاعبِ بأثمان السّلَع والاحتكار ، والغشِّ والنّجش ، والتّعدِّي على أموال اليتامى ، وأموالِ الإرث والأوقافِ والوصايا ، وما يُدفَع في ضُروبِ الرشاوى
فالرشوة يا مسلمون مِنْ كَبَائِرِ المحرمات، ومن عظائم الأوزار والخطيئات ؛ فَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي»
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
ومن صور ذلك التخوض أن يَخْتَلِسَ المرءُ مما تحت يده من المال العام بأنواع كثيرة من المكر والحيل..
قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن رجل مات وقد جُعل حارسا على متاع "هُوَ فِي النَّارِ"، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءَةً قَدْ غَلَّهَا. رواه البخاري
وروى مسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمَرُّوا عَلَى رَجُلٍ، فَقَالُوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كَلا؛ إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا ". رواه مسلم
عباد الله : إن كل وِلاَيَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ يَتَقَلَّدُهَا المرء فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا أَمِينًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا خَائِنًا، فَإِنْ رَاقَبَ اللهَ تَعَالَى فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ، وقام بما يجب عليه من الحقوق والواجبات ، وأدى ما يلزمه تجاه الناس من أعمال وخدمات.. وَلَمْ يَأْخُذْ مَا لَا يحل له من المال والممتلكات، فَهَذَا أَمِينٌ يُؤْجَرُ عَلَى أَمَانَتِهِ ؛ وإن كان قد قلَّ في هذا الزمان أَهْلُ الأَمَانَةِ ، وَهَذَا مِصْدَاقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "...فَيُصْبِحُ النَّاس يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ.. فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلًا أَمِينًا "؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ : " أَوَّلُ مَا تَفقِدُونَ مِن دِينِكُمُ الأَمَانَةُ "
فَالحَذَرَ الحَذَرَ -عِبَادَ اللهِ- من الخيانة وضعف الأمانة واستحلال المال الحرام، وَلَنَا عِبْرَةٌ وَعِظَةٌ فِي أَغْنِيَاءَ جَمَعُوا مَالاً عَظِيمًا، ثم دُفِنُوا حِينَ دُفِنُوا بِأَكْفَانِهِمْ كَمَا يُدْفَنُ الفُقَرَاءُ، وَلَمْ يَأْخُذُوا مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا ، وَبَقِيَ عَلَيْهِمْ حِسَابُ مَا جَمَعُوا؛ وتبعة ما أَخذوا..
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ ..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إن للفساد وضعفِ الأمانة صورا عديدة وأحوالا كثيرة لا يكاد يسلم منها إلا من سلمه الله.. فمن صور الإثم والفساد وعدم النزاهة هَدرُ الوَقتِ العَامِّ ، وَضَعفُ الالتِزَامِ بِسَاعَاتِ الدَّوَامِ ، وَكَثرَةُ التَغَيُّبِ وَالتَّأَخُّرِ عَنِ العَمَلِ من غير عذر ..
وَمِن صور الفَسَادِ احتِجَابُ بَعضِ المسئولين أَوِ المُوَظَّفِينَ عَنِ المُرَاجِعِينَ لسَاعَاتٍ طَوِيلَةً ، أو الخروج أثناء العمل دون ضرورة ملحة ، حتى يَطُولَ على الناس انتِظَارُهم..
ومن صور الفساد والخيانة، ضعف الإنتاج ، والتقصير في الإنجاز .. مما يتسبب في تأخير معاملات الناس
وَمِن صور الإثم والفَسَادِ وعدم النزاهة استِخدَامُ ممتلكات الإدارة أو المنشأة من سيارات وأدوات ونحوها لإِنجَازِ مَصَالِحِهِ الشَّخصِيَّةِ ..
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ فَمَا منا اليَومَ أَحَدٌ إِلاَّ وَهُوَ عَلَى ثَغرٍ وَبِيَدِهِ عَمَلٌ أو وظيفة، فَلْيَتَّقِ اللهَ فِيمَا هُوَ مُؤتَمَنٌ عَلَيهِ ، وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ ، وليقم بواجبه ومَسؤُولِيَّتِهِ وَليَجْتَهِدَ فِي نَفْعِ النَّاسِ وخدمتهم.. لينال بذلك أجره وراتبه من مال طيب حلال ، وحتى يبارك له في ماله وصحته ، وفي أهله وولده ..
ومن أخذ مالا من غير حله أو نال شيئا لا يحل من راتبه وأجره .. فليتب إلى الله تعالى ، وليعيد ما أخذ من غير حله ، لتبرء بذلك ذمتُه ، وحتى لا يقدم على ربه بما أخذ وهو يحمله فوق ظهره.. { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
قال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ وَاللهِ لا يَأخُذُ أَحَدٌ مِنكُم شَيئًا بِغَيرِ حَقِّهِ إِلاَّ لَقِيَ اللهَ يَحمِلُهُ يَومَ القِيَامَةِ "
ثم رَفَعَ يَدَيهِ حَتى رُئِيَ بَيَاضُ إِبِطِيهِ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ هَل بَلَّغتُ ؟ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا