من ثمرات صيام التطوع

أ.د عبدالله الطيار
1439/01/10 - 2017/09/30 08:29AM

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشْهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشْهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آله وصحبِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً، أما بعدُ:

فأوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى اللهِ جلَّ وعلا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:102].

عباد الله: إن محبةَ اللهِ جلَّ وعلا وطاعته ودخولَ جنتهِ والتلذذَ برؤيتهِ هي المنزلةُ العظمى، والغايةُ الكُبرىَ التي يسعى إليها المؤمنونَ الصادقون، ويتنافسُ عليها المتنافسُون، وإليها تشخصُ عيونُ العاملين، ومن أجلها يتفانى المحبون، وبِرَوحِ نسيمها يتروَّح العابدون، فهي قوتُ القلوبِ، وغذاءُ الأرواحِ، وقرةُ العيونِ، وهي النورُ الذي من فقده غَرِقَ في بحارِ الظلماتِ، وهي الشفاءُ من أمراضِ الغفلةِ والشهواتِ والشبهاتِ، واللذةُ التي من لم يظفرْ بها فعيشتهُ كلُّها آلامٌ وهمومٌ، وهي روحُ الإيمانِ والأعمالِ، وهي الحياةُ السعيدةُ التي من حُرِمها فهو من جملةِ الأمواتِ.

ومن رحمةِ اللهِ جل وعلا بعبادهِ أن شرَع لهم من الأعمالِ ما يعينُهم بها على الوصولِ لتلك المحبةِ، فعن أبي هريرة  رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ:‏ ‏مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ‏‏ آذَنْتُهُ ‏‏بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا

وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ}(رواه البخاري).

فمن أدَّى الفرائضَ، وأكثرَ من نوافلِ العباداتِ أحبَّه اللهُ، وقرَّبه إليه، ووفَّقه لطاعتِه، وأجابَ دعاءَه، وحفظه في حواسِه، وأعانَه على أمرِ دينِه ودنياهُ وآخرتِه.

عباد الله: لقد جعل اللهُ مع كلَِّ فريضةٍ افترضَها على عبادِه نافلةً من جِنسِها لتكونَ جابرةً لما يحصلُ فيها من النقصِ والخللِ، وهذه من رحمةِ اللهِ بعباده لعلمهِ بضعفهِم، وما يعتريهِم من النقصِ، وإنَّ من أفضلِ نوافلِ العباداتِ وأحبِّها إلى الله عبادةَ الصيامِ، قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا)(رواه البخاري ومسلم).

وصيامُ التطوُّعِ من أعظمِ شُعبِ الإيمانِ، وأجلِّ خصالِ التعبُّدِ، وقد تضافرتْ النصوصُ الشرعيةُ في الحثِّ عليه، ومدحِ أهلِه، ووَعَدَهم بالأجرِ العظيمِ والثوابِ الجزيلِ، قال الله تعالى:{..وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الأحزاب:35].

وقال جلَّ وعلا في كتابِه مذِّكراً عبادَه بما ينالُهم من العيشةِ الهنيةِ عند دخولهِم الجنةِ:{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة}[الحاقة:24]، قال مجاهدُ رحمه الله: "نزلت هذه الآيةُ في الصائمين".

وهذا الصيامُ ينقسمُ إلى: تطوُّعٍ مطلقٍ: وهو أن يتطوعَ المسلمُ بصيامِ أيِّ يومٍ أرادَ من أيامِ السنةِ، إلا ما ورد النهيُ عنه كيومي العيدين، وأيامِ التشريقِ، وصيامِ يومِ الجمعةِ لمن قصد صومَه وحده.  ومن صورِ التطوعِ المطلقِ صيامُ يومٍ و فطرُ يومٍ، قال صلى الله عليه وسلم:(..أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا)(رواه البخاري، ومسلم).

وثانيهما التطوُّع المقيدُ: وهو ينقسمُ إلى قسمين:

الأولُ: المقيّدُ بحالِ الشخصِ، كالشابِ الذي لم يستطعْ الزواجَ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:(يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)(رواه البخاري، ومسلم)، فإنَّ هذا الصيامَ يتأكّدُ في حقهِ ما دام كان أعزباً.

وأما الثاني: فهو المقيدُ بوقتٍ معينٍ، ومن ذلك: صيامُ الاثنينِ والخميسِ، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:(إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَرَّى صِيَامَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس)(رواه النسائيِ، وصححه الألباني). وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الاثنين ويوم الخميس فقال:(ذَانِكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)(رواه النسائي، وابن ماجه، وأحمد، وصححه الألباني).

ومن ذلك أيضاً: استحبابُ صيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كل شهرٍ: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ صَوْمِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَلاةِ الضُّحَى وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ )(رواه البخاري، ومسلم). والمستحبُ فيها صيامُ أيامِ البيضِ فعن أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَال (َ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صُمْتَ شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ فَصُمْ ثَلاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ )(رواه النسائي، وابن ماجه، وأحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير).

ومن ذلك أيضاً: صيامُ أيامٍ معينةٍ مخصوصةٍ، ومنها:

1 ـ يومُ عاشوراء: وهو اليومُ العاشرُ من شهرِ محرمِ، فقد قال صلى الله عليه وسلم (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)(رواه مسلم). ويسن أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده لمخالفة اليهود.

2 ـ يومُ عرفةَ: وهو اليومُ التاسعُ من ذي الحجة، وهو مستحبٌ لمنْ لم يكن واقفاً بعرفة،  قال صلى الله عليه وسلم:(صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ..)(رواه مسلم).

أما ما يسن صومه في بعض شهور العام، فمنها:

1 ـ  صيامُ ستةِ أيامٍ من شوال: قال صلى الله عليه وسلم:(مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)(رواه مسلم).

2 ـ  صيامُ أيامٍ من شهرِ اللهِ المحرمِ: لقوله صلى الله عليه وسلم:(أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ..)(رواه مسلم).

3 ـ صيامُ أغلبِ أيامِ شهرِ شعبان: لما ثبتَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:(.. مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إَِلا قَلِيلاً)(رواه البخاري، ومسلم).

فاحرصوا باركَ اللهُ فيكُم على هذا الخيرِ العظيمِ، وما يترتبُ عليهِ من الأجرِ الجزيلِ، فما ينفعُ العبدَ عند لقاءِ ربه إلا ما قدمَّهُ من عملٍ صالحٍ ينفعُه يومَ العرضِ عليِه.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون * وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون}[المؤمنون:60ـ 62].

بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكم إنه هو الغفورُ الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على فضلِه وإحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيماً لشأنِه، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه الداعي إلى جنتهِ ورضوانِه، صلى الله عليه وآله وصحبِه ومن سارَ على نهجِه إلى يومِ الدينِ وسلَّم تسليماً كثيراً، أما بعد: 

فاتقوا الله جل وعلا، واعلموا أنَّ الدُّنيَا دارُ عملٍ، والآخرةَ دارُ جزاءٍ، فقدِّمُوا لأنفسِكُم ما ينفعكُم حتى تنالوا جزاءَكم عند ربٍّ كريمٍ رحيمٍ.

عباد الله: في شهرِكم هذا يومٌ فضيلُ يُستحبُّ صيامُه، ألا وهو اليومُ العاشرُ من محرم، لما ورد عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما (أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَدِمَ المدينةَ فوجَدَ اليهودَ صيامًا يومَ عاشُوراءَ، فقال لهم رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما هذا اليومُ الذي تصومُونَه؟ فقالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنجى اللهُ فيه موسى وقَومَه، وغَرَّقَ فِرعَونَ وقَومَه، فصامَه موسى شُكرًا؛ فنَحن نصومُه، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فنَحنُ أحَقُّ وأَوْلى بمُوسى منكم، فصامَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَرَ بِصيامِه)(رواه البخاري ومسلم)، و عن أبي قَتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:(صيامُ يومِ عاشُوراءَ، أحتسِبُ على اللهِ أن يكَفِّرَ السَّنةَ التي قَبْلَه) (رواه مسلم). ويسنُّ صيامُ التاسعِ والعاشرِ، أو العاشرِ والحادي عشرَ، أو التاسعِ والعاشرِ والحادي عشر، والآكدُ صيامُ العاشرِ لورود الفضلِ فيه.

عباد الله: وما زالَ أعداءُ الإسلامِ يحيكُون لهذه البلادِ المباركةِ المكائدَ والمؤامراتِ من أجلِ إضعافِها وتفريقِ اجتماعِها ووحدةِ صفِّهَا، ولكن بتوفيقِ اللهِ جل وعلا ثم بيقظةِ رجالِ أمننا تم الكشفُ عن بعضِ الخلايا المرتبطةِ بتنظيماتٍ دوليةٍ كانت تحيكُ لبلادنَا كثيراً من المؤامراتِ والمخططاتِ التي لو طالتْ بلادنَا لأصابتنا فتنٌ عظيمةٌ، لكنَّ اللهَ رد كيدهم إلى نحورهم وفضح أمرهم.

فلله الحمدُ والمنَّة على ما منَّ به علينا، ونسأله سبحانه أن يديمَ علينا نعمةَ الأمنِ والأمانِ، واجتماعِ الكلمةِ ووحدةِ الصفِ، ورغدِ العيشِ، وأن يكفينَا شرَّ الأشرارِ ومكرَ الفجارِ.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جلَّ من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).

المشاهدات 728 | التعليقات 0