مِن الأُصولِ مَعرفةُ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ( الجمعة 1442/3/13هـ )

يوسف العوض
1442/03/10 - 2020/10/27 07:53AM
الخطبة الأولى
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : إنَّ الدِّينَ أَغْلَى مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ فِي كُلِّ زمانٍ وَمَكَانٍ ، إنَّه الرُّوحُ لِلْجَسَدِ وَالْغِذَاءُ لِلرُّوحِ وَقَدْ قَالَ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَدَأَ الْإِسْلَامُ ُغريبا ً ثُمَّ يَعُودُ غريباً كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ، قِيل : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْغُرَبَاءُ ؟ قَال : الَّذِين يُصلِحون إذَا فَسَدَ النَّاسُ ) رَواه أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الألبَانيُّ . وَهُنا كَلَامٌ ٌ نَفِيسٌ لِابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِه مَدَارجِ السَالكينَ حَوْلَ غُرْبَةِ الدِّينِ يَصِفُ بِهَا حَالَ الْغَرِيبِ كلٌ بِحَسَبِ مُعَانَاتِه فَيَقُول رَحِمَهُ اللَّهُ : ( هو غريبٌ فِي دِينِهِ لِفَسَادِ أَدْيَانِهِم ، وغريبٌ فِي تَمَسُّكَهِ بِالسُّنَّةِ لتمسكِهم بِالْبِدَعِ ، غريبٌ فِي اعْتِقَادِهِ لِسُوءِ عَقَائِدِهِم غريبٌ فِي صَلَاتِهِ لِسُوءِ صَلَاتِهِم ، غريبٌ فِي طَرِيقِهِ لضلالِ وَفَسَادِ طُرُقِهِم ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ غريبٌ فِي أُمُورٍ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ . . لَا يَجِدُ مَنْ الْعَامَّةِ مساعداً وَلَا معيناً فَهُو عالمٌ بَيْن جُهال ، وَصَاحِبُ سُنَّةٍ بَيْنَ أَهْلِ بِدَعٍ ، دَاعٍ إلَى رَسُولِهِ بَيْن دعاةٍ إلَى الأهْوَاءِ وَالْبِدَعِ ، آمرٌ بِالْمَعْرُوف ناهٍ عَنْ الْمُنْكَرِ بَيْنَ قومٍ الْمَعْرُوفُ لَدَيْهِم مُنْكَرٌ وَالْمُنْكَرُ معروفٌ ) .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : نَحْنُ فِي حَاجَةٍ مَاسَةٍ للعَودةِ لِأُصُولِ الدِّينِ وَالْعَيْشِ مَعَهَا والتربِّي عَلَيْهَا وَالْعِلْمِ بها وَالْعَمَلِ لَها ومَا أجَملَ مَا سَطَّرهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْمُجَدَّدُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدالوَهّاب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رَوَائِع مَا ألَّفَ ، ذَاكَ هُوَ الْمُخْتَصَرُ النَّافِعُ وَالْمُفِيدُ المَاتِعُ ( الثَّلَاثَةُ الْأُصُولُ ) ؛ فالْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ عُنْوَانُ مُؤلَّفٍ للشّيخِ محمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوهاب رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَرَادَ بِالْأُصُولِ الثلّاثةِ : مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ نبيِّه ، وَمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ بالأدلِّةِ ، وَلَا رَيْبَ أنّ هَذِهِ أُصُولٌ عَظِيمَةٌ ، عَلَيْهَا مَدَارُ الْمَعْرِفَةِ الشّرعيّةِ وَهِيَ مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ ربَّه ، الَّذِي أرسَلَ الرُّسُلَ وأنزَلَ الْكُتُبَ ، وأرسلَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ محمدًا صلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم ، أرسلَ الرُّسُلَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ ، فإنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ دينُ الرُّسلِ جَميعاً ، بَيدَ أنَّ الشّريعةَ الَّتِي جَاءَ بِهَا محمَّدٌ صلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم هِيَ أَكْمَلُ الشّرائعِ وأشملُها وَأَيْسَرُهَا ، وَهوَ رَسُولُ اللَّهِ إلَى النّاس جَميعاً .
وَهَذِه الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي يُسألُ عَنْهَا الْإِنْسَانُ فِي قَبْرِهِ ، فيُقالُ لِلْمَيِّتِ إذَا وُضَعَ فِي قَبْرِهِ : مَن ربُّك ؟ وَمَا دِينُكَ ؟ ومَن نَبِيُّكَ ؟ فَالْمُؤْمِنُ الْمُوقِنُ يَقُولُ (ربّي اللَّهُ وَدِينِي الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّ محمَّدٌ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ، وأمّا الْمُنَافِقُ الشّاكُ فإنّه يتحيَّرُ وَيَقُولُ : ( هاه هَاه ، لَا أَدْرِي ، سمعتُ النّاسَ يَقُولُون شَيئاً فقلتُه) فَالْمُؤْمِنُ يَكُونُ قَبْرُهُ رَوْضَةً مِن رِيَاضِ الْجَنَّةِ ويُنَعَّمُ فِيهِ ، وَالْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ يَصِيرُ قَبْرُه حُفْرَةً مِن حُفَرِ النَّارِ  ويُعذَّبُ فِيهِ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : بِهَذِه الْمَعْرِفَةِ يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ ( الرّسولَ ) وهو مُحمَّدٌ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم ، (والمُرسِلَ ) وهُوَ اللَّهُ (والرّسالةَ) وهِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ محمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمه اللهُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ : (فإذا قِيلَ لَك مَا الْأُصُولُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ مَعْرِفَتُهَا ؟ فَقُل : مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ ربَّه وَدِينَه وَنَبِيَّه محمَّدًا صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم ، ثُمَّ قَالَ : ( إذا قِيلَ لَك: مَن ربُّك ، فَقُل : ربّي اللَّهُ ، الَّذِي ربَّاني وربَّ جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِه ، وَهُو مَعبودي ، لَيْسَ لِي مَعْبُودٌ سِواه ) ثُمّ بيَّنَ الْمُرَادَ ( بالإسلام ) وأنّه : ( الاستسلامُ لِلَّهِ بالتّوحيدِ وَالِانْقِيَادُ لَهُ بالطّاعةِ وَالْبَرَاءَةُ مِن الشّرك وأهلهِ ) ثُمَّ ذَكَرَ الْأَصْلَ الثَّالِثَ : ( وَهُوَ مَعْرِفَةُ محمَّدٍ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأنّه محمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَهَاشِمٌ مِن قُرَيْشٍ ، وَقُرَيْشٌ مِن الْعَرَب ، وَالْعَرَبُ مِن ذريِّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عليهما وَعَلَى نبيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وأنّه صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّمَ وُلِدَ بِمَكَّةَ ، وأنّه نزَّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وأوّلُ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ سُورَةُ ( اقرأ ) وَسُورَةُ (المدَّثر) ، ثُمّ هَاجَرَ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم بَعْدَمَا أَنْذَرَ وبلَّغَ رِسَالَةَ ربِّه بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ فَأَظْهَرَ اللَّهُ بِهِ دَيْنَ الْإِسْلَامِ ، تحقيقاً لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ، والمُلاحظُ أنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ تتضمَّنُ ذَكَرَ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ فَقَوْلُه (هوَ الَّذِي أَرْسَلَ ) : هَذَا هُوَ ربُّنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَوْلُه (رَسُولَهُ) : هَذَا مُحمَّدٌ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم ، وَقَوْلُه (بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ) : هَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ فَقَد اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَأَمْثَالُهَا فِي القُرآنِ كَثِير ٌ.
 
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدالوَهَّاب رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ يَشْمَلُ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةَ ، وَهِي : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وأنَّ محمّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإقَامُ الصلّاةِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ ، وَحَجُّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، وَأنَّ الْإِيمَانَ يَشْمَلُ الْأُمُورَ الِستَّةَ وَهِي : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ ، وَمَلَائِكَتِه ، وَكُتُبِه وَرُسُلِه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، وَيَشْمَلُ كَذَلِك "الإحسانَ" ، وَهُو : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنّه يَرَاك ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ دلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ، عَنْ عُمَرَ رضي اللَّه عنه كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أيضاً مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : فمَن عَرَفَ ربَّه بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ، وأنّه الْآلَةُ الحَقُّ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاه ، وَعَرَفَ محمّدًا صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم وأنَّه رَسُولُ اللَّهِ إلَى النَّاسِ كَافَّةً ، وَعَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ ، وَآمَنَ بِذَلِك كلِّه ، وَاسْتَقَامَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كانَ مِن السُّعَدَاء الْمُفْلِحِين ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبحَانه وتَعالى وأَنْ يَمنَّ عَلَيْنَا بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِ ، إنّه تَعَالَى عَلَى كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
 
الخطبة الثانية
 
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : قَالَ اللَّهُ تَعالى: (قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) وقال سُبْحَانَه : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) لا بدَّ مِنْ الدَّعوةِ إلَى هذه الأُصولِ الثَّلاثةِ لأنَّ الدَّعوةَ إلى اللَّهِ الْأَصْلُ فيها أنّها فَرْضُ كِفَايَةٍ ، فإذَا قَامَ بِهَا مَن يَكْفِي سَقَطَ الْإِثْمُ عَنْ الْبَاقِينَ ، لَكِنَّ فَرضَ الْكِفَايَةِ قَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ إِذا قَامَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلدَّعْوَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَن يَقُومُ  بِذَلِكَ الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ عَلَى مَن قَدَرَ عَلَى الدَّعْوَةِ فَرْضَ عَيْنٍ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ بِحَسَبِ حَالِهِ ، وَكُلَّمَا سَنَحَتْ لَهُ الفُرْصَةُ يَقُومَ بِهَذَا العَمَلِ الصَّالِحِ لِيَكُون مِن اتِّبَاعِ الرّّسولِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم ، يقول الله جَلَّ وعَلا : ( وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ۝ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) .
المشاهدات 979 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا