من أولويات الدعوة - د. أشرف عبدالرحمن
الفريق العلمي
1- أولوية التخفيف والتيسير على التشديد والتعسير:
لقد دلت النُّصوص من الكتاب والسنة على أن التيسير والتخفيف أحب إلى الله سبحانه وتعالى وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال سبحانه وتعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وقال سبحانه وتعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]، وقال سبحانه وتعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 6].
وعن محجن الأسلمي -رضي الله عنه- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي.. فذكر حديثًا، وفيه.. حتى إذا كُنا في المسجد رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا يُصلي ويسجد ويركع، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من هذا"؟ فأخذت أُطريه، فقلت يا رسول الله: هذا فلانٌ، وهذا فلانٌ فقال: "أمسك لا تُسمعه فتهلكه" قال: فانطلق يمشي حتى إذا كان عند حجرة، لكنه نفض يديه ثم قال: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره" ثلاثًا[1].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة"[2].
وعن عائشة -رضي الله عنه-ا- قالت: "ما خُير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه إلا أن يكون تنتهك حرمة الله، فينتقم لله عز وجل"[3].
- ويتأكد ترجيح الرخصة واختيار التيسير، إذا ظهرت الحاجة إليها، لضعف أو مرض أو شيخوخة، أو لشدة مشقة، أو غير ذلك من المرجِّحات التي يحددها أهل العلم الثقات.
فعن مُطرِّف بن عبد الله بن الشخير قال: أتيت عثمان بن العاص -رضي الله عنه- فدعا لي بلبن لقحةً، فقلت: إني صائمٌ، فقال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الصيام جنةٌ من النار كجنة أحدكم من القتال، صيام حسن ثلاثة أيام في الشهر"، قال: وكان من آخر ما عهد إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أمرني على الطائف، فقال: "يا عثمان! تجاوز الصلاة، واقدُر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الضعيف، والسقيم، والبعيد، وذا الحاجة"[4].
ولقد علمنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد دعا إلى تعجيل الفطور وتأخير السحور، تيسيرًا على الصائم[5]، فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال هذه الأمة بخير ما عجلوا الإفطار"[6].
وعن عمرو بن ميمون الأودي قال: "كان أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أسرع الناس إفطارًا وأبطأه سحورًا"[7].
وعن سعيد بن أبي بُردة عن أبيه عن جده -رضي الله عنه-م- قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل -رضي الله عنه-ما- إلى اليمن فقال لهما: "يسرا ولا تُعسرا، وبشرا ولا تُنفرا، وتطاوعا". قال أبو موسى: يا رسول الله، إنا بأرض يُصنع فيها شراب من العسل يُقال له البتع، وشرابٌ من الشعير يُقال له المزر، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل مُسكر حرامٌ"[8].
بل رأيناه -صلى الله عليه وسلم- يشدد النكير على من يشدد على الناس ولا يراعي ظروفهم المختلفة، كما فعل بعض الصحابة الذين كانوا يؤمون الناس ويطيلون في الصلاة طولًا اشتكى منه بعض مأموميهم.
فعن جابر -رضي الله عنه- قال: كان معاذ -رضي الله عنه- يُصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى ليلة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- العشاء، ثم أتى قومه فأمهم، فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجلٌ فسلم، ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلأخبرنه. فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وإن معاذًا صلى معك العشاء، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على معاذ فقال: "يا معاذ أفتانٌ أنت؟! اقرأ بكذا، واقرأ بكذا". قال سفيان: فقلت لعمرو: إن أبا الزبير حدثنا عن جابر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقرأ والشمس وضحاها. والضحى. والليل إذا يغشى. وسبح اسم ربك الأعلى". فقال عمرو نحو هذا[9].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء"[10].
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تمام، كانت صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقاربة، وكانت صلاة أبي بكر -رضي الله عنه- متقاربة، فلما كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مد في صلاة الفجر، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قال: "سمع الله لمن حمده" قام حتى نقول قد أوهم، ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم"[11].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ ما يكون إنكارًا للتشديد إذا تبنت جماعة رأيًا أو منهجًا مخالفًا للسنة، حتى وإن كان مقصدهم حسنًا، ولم يكن مجرد نزعة فردية عارضة، وهذا ما نلاحظه في إنكاره على الثلاثة الذين اتخذوا طريقة في التعبد غير طريقته، وإن كانوا لا يريدون إلا الخير ومزيد التقرب إلى الله -سبحانه وتعالى-.
فعن حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-، قد غُفرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أُصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "أنتم الذين قُلتم كذا وكذا؟ وأما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنتي فليس مني"[12].
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هلك المتنطعون". قالها ثلاثًا[13].
2- الاعتراف بالضرورات الطارئة في حياة الناس سواء أكانت فردية أم جماعية:
وهذا من التيسير المطلوب فقد جعلت الشريعة لهذه الضرورات أحكامها الخاصة، وأباحت بها ما كان محظورًا في حالة الاختيار من الأطعمة والأشربة والملبوسات والعقود والمعاملات، وأكثر من ذلك أنها نزَّلت الحاجة في بعض الأحيان - خاصة كانت أو عامة - منزلة الضرورة أيضًا، تيسيرًا على الأمة ودفعًا للحرج عنها.
والأصل في ذلك:
ما جاء في القرآن الكريم عقب ذكر الأطعمة المحرمة في أربعة مواضع من القرآن الكريم رُفع فيها الإثم عن متناولها مضطرًا غير باغ ولا عاد..: منها:
- قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 173].
- وقوله سبحانه وتعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 3].
- وقوله سبحانه وتعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام: 145].
- وقوله سبحانه وتعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل: 115].
أي: إنما حرَّم الله عليكم ما يضركم كالميتة التي لم تذبح بطريقة شرعية، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، والذبائح التي ذبحت لغير الله. ومن فضل الله عليكم وتيسيره أنه أباح لكم أكل هذه المحرمات عند الضرورة، فمن ألجأته الضرورة إلى أكل شيء منها، غير ظالم في أكله فوق حاجته، ولا متجاوز حدود الله فيما أُبيح له، فلا ذنب عليه في ذلك، إن الله غفور لعباده، رحيم بهم.
وما جاء في السنة بعد تحريم لبس الحرير على الرجال: أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكيا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من حكَّة بهما، فأذن لهما بلبسه تقديرًا لهذه الحاجة.
فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "رخَّص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف في لُبس الحرير لحكةٍ كانت بهما"[14].
3- تغيُّر الفتوى بتغيُّر الزمان والمكان:
ومن التيسير المطلوب: ضرورة الاعتراف بالتغير الذي يطرأ على الناس سواء أكان سببه فساد الزمان كما يعبر الفقهاء، أو تطور المجتمع، أو نزول ضرورات به، ومن ثم أجاز فقهاء الشريعة تغيير الفتوى بتغير الأزمان والأمكنة والأعراف والأحوال، مستدلين في ذلك بهدي الصحابة وعمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نهتدي بسنتهم ونعض عليها بالنواجذ.
قال خالد بن معدان: حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وحُجر بن حُجر الكلاعي، قالا: أتينا العرباض بن سارية، وهو ممن نزل فيه: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) [التوبة: 92]، فسلمنا وقُلنا: أتيناك زائرين ومقتبسين، فقال العرباض: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائلٌ: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مُودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: "أُوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدًا حبشيًا مجدعًا، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعةٌ، وكل بدعة ضلالة"[15].
هذا الأمر يوجب علينا في هذا العصر أن نعيد النظر في أقوال قيلت وآراء اتُّخذت في عصور سابقة، ربما كانت ملائمة لتلك الأزمنة وتلك الأوضاع، ولكنها لم تعد ملائمة لهذا العصر بما فيه من مستجدات هائلة، لم تكن لتخطر للسابقين على بال، والقول بها اليوم يسيء إلى الإسلام وإلى أمته، ويشوه وجه دعوته. وهذه الآراء وتلك الأقوال كانت تستند إلى "المصلحة المرسلة" أو "الأعراف السائدة""، فتغيرت هذه أو تلك، أما التي تستند لنص من القرآن والسنة أو الإجماع أو القياس فلا تتغير ولا تتبدل، لأنها محكمة ثابتة.
______
[1] أخرجه البخاري في الأدب المفرد برقم "341"، وحسَّن إسناده الألباني.
[2] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم "918"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم "881".
[3] أخرجه البخاري، ح "3560"، ومسلم، ح "6190".
[4] أخرجه أحمد في المسند، ح "17939"، وصحح الألباني إسناده في صحيح ابن ماجه، ح "806".
[5] الفتاوى الكبرى، لابن تيمية "3/132".
[6] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ح "5830"، وابن أبي شيبة في مصنفه ح "9046"، وصحح الألباني إسناده في صحيح الجامع برقم "7284".
[7] مُصنف عبد الرزاق الصنعاني "7343" صحيح.
[8] أخرجه البخاري، ح "4344"، ومسلم، ح "4623".
[9] أخرجه البخاري، ح "705"، ومسلم، ح "1068".
[10] أخرجه البخاري، ح "703"، ومسلم، ح "1076".
[11] أخرجه مسلم، ح "1089".
[12] أخرجه البخاري، ح "5063".
[13] أخرجه مسلم، ح "6955" - التنطع في الكلام: التعمق فيه والتفاصح. والمتنطعون: هم المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
[14] أخرجه مسلم، ح "5552".
[15] أخرجه ابن حبان ح "5"، وصححه الألباني ح "937، 3007".
قال ابن حبان في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فعليكم بسُنتي" عند ذكره الاختلاف الذي يكون في أمته: بيان واضح أن من واظب على السنن، قال بها، ولم يعرج على غيرها من الآراء من الفرق الناجية في القيامة. جعلنا الله منهم بمنه.
المصدر: الألوكة