مِنْ أَغْرَبِ الْجَنَائِز .. الجمعة 1442/4/26هـ
يوسف العوض
1442/04/23 - 2020/12/08 09:00AM
الخطبة الأولى:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : فِي يومٍ عَاصِفٍ ، وجوٍّ شَدِيدِ الرِّياحِ، تقدّمت جِنازةٌ مَهيبةٌ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَكْتَافِ ، وَاَلَّذِي بَاشَرَ حَمْلَهَا وَسَارَ عَلَى أَثَرِهَا هُم ذريّةُ الميّتِ وَأَوْلَادُه ، وَقَد أَلْقَى الْحُزْنُ بظلالِه عَلَى الْجَمِيعِ ، وَكَانَ مِنْ المُتوقّعِ مَع الْمَشَاعِر الصَّادِقَةِ والأحاسيسِ المُخلصةِ الَّتِي أَبْدَاهَا الْحُضُورُ ، أَن يتمَّ دَفنَ الميِّتِ وَإِكْرَامَه فِي مَثْوَاه ، لكِنَّ المفاجاةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يتوجّهون بِالْجِنَازَةِ إلَى أتونٍ مُشتعلٍ فَيَقْذِفُونَهَا فِيه ، لِتلتَهمَها النِّيرَانُ وتحيلَها إلَى جُثّةٍ متفحّمةٍ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ قَامُوا بِأَخْذِ مَا بَقِيَ مِنْ الرّفاتِ وسحقِه حَتَّى صَارَ رماداً ، ثُمَّ أَخَذُوا هَذَا الرَّمَادَ فَرَمَوْا نِصْفَهُ فِي البرِّ ، وَالنِّصْفَ الْآخَرَ فِي الْبَحْرِ ، والمفارقةُ الَّتِي تُثِيرُ الْعُجْبَ هُنَا ، أَنَّ الْحَاضِرِينَ الَّذِين بَاشَرُوا هَذَا الْعَمَلَ الْقَاسِي فِي ظَاهِرِهِ ، كَانُوا يَرَوْنَهُ قمّةَ البرِّ وَالْوَفَاءِ لِصَاحِبِه ، وَلَم تخالج نُفُوسَهُم قطُّ مَشَاعِرُ النَّدَمِ وتأنيبُ الضَّمِير ، وَهُنَا يَحقُّ لَنَا أَنْ نتساءلَ : مَا الَّذِي دَفْعهم إلَى فِعْلِ ذَلِكَ ؟ وَكَيْف برَّروا لِأَنْفُسِهِمْ إنْ يَقدموا عَلَى فعلتِهم الشَّنِيعَةِ ؟ وَلِمَاذَا اخْتَارُوا هَذِه الكيفيّةَ الْعَجِيبَةَ فِي التَّعَامُلِ مَعَ تِلْكَ الْجِنَازَةِ ؟ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ وأسرارٌ عَجِيبَةٌ ، لَن نَعْلَمَ جَوَابَهَا أَوْ نَكْشِفَ ملابساتِها إلَّا بِالرُّجُوعِ إلَى أَصْلِ الْحَادِثَةِ المرويّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صحّ عَنْه ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يُحَدّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا فِيمَن سَلَفَ - أوْ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ، قالَ: كَلِمَةً: يَعْنِي - أعْطاهُ اللَّهُ مالًا ووَلَدًا، فَلَمَّا حَضَرَتِ الوَفاةُ، قالَ لِبَنِيهِ: أيَّ أبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قالوا: خَيْرَ أبٍ قالَ: فإنَّه لَمْ يَبْتَئِرْ - أوْ لَمْ يَبْتَئِزْ - عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، وإنْ يَقْدِرِ اللَّهُ عليه يُعَذِّبْهُ، فانْظُرُوا إذا مُتُّ فأحْرِقُونِي حتَّى إذا صِرْتُ فَحْمًا فاسْحَقُونِي - أوْ قالَ: فاسْحَكُونِي -فإذا كانَ يَوْمُ رِيحٍ عاصِفٍ فأذْرُونِي فيها، فقالَ: نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فأخَذَ مَواثِيقَهُمْ علَى ذلكَ ورَبِّي، فَفَعَلُوا ثُمَّ أذْرَوْهُ في يَومٍ عاصِفٍ، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: كُنْ، فإذا هو رَجُلٌ قائِمٌ، قالَ اللَّهُ: أيْ عَبْدِي ما حَمَلَكَ علَى أنْ فَعَلْتَ ما فَعَلْتَ؟ قالَ: مَخافَتُكَ - أوْ فَرَقٌ مِنْكَ - قالَ: فَما تَلافاهُ أنْ رَحِمَهُ عِنْدَها " رواهُ البُخاريُّ .
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : ففي هذا الحديثِ يَروي أبو سعيدٍ الْخُدْريُّ رضِي اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذكرَ رَجُلًا مِن بني إسرائيلَ أعطاه اللهُ مالًا وولدًا، فلمَّا حضَرَتْه الوفاةُ قال لِبَنِيه: أيَّ أبٍ كنتُ لكم؟ فَأثْنَوا عليه وقالوا: نِعمَ الأبُ فقال لهم: فإنَّه لم يَبْتَئِرْ، أو لم يَبْتَئِرْ عندَ الله خيرًا، أي: لم يدَّخِرْ عملًا صالحًا يُدخلُه اللهُ به الجنَّةَ، وأنَّه إذا رجعَ إلى اللهِ فإنَّه يُعذِّبُه بما فعلَ- وليس المرادُ نَفْيَ كلِّ خيرٍ على العمومِ، بلْ نَفْيَ ما عَدا التَّوحيدِ؛ ولذلك غُفِرَ له- ثُمَّ طَلبَ منهم أنْ يُحرِّقُوه بعْدَ موتِه ثُمَّ يَسحَقُوه بعد أنْ يصيرَ فحْمًا فَيَجعلوه كَالرَّمادِ، ثُمَّ يَنتظِروا يومًا تكونُ فيه الرِّيحُ شديدةً فَيُلقُوه فيها، فَيصيرَ رمادُه مع الرِّيحِ، أو قال لهم: أنْ يَضعوا هذا الرَّمادَ في البحرِ، وأَخذَ مِن بَنيه العهدَ على فِعلِ ذلك، وقدْ جعلَ الخوفُ هذا الرَّجلَ يفقِدُ رُشدَه ويظنُّ أنَّه تعالى غيرُ قادرٍ على جَمْعِه مرَّةً أُخرَى ولذلك لَمَّا جَمَعَه اللهُ تعالى وقال له: كُن، فإذا هو رجلٌ قائمٌ مرَّةً أُخرى بقُدرتِه سبحانه وتعالى، فَسألَه عَنِ الَّذي حمَلَه على فِعلِ ذلك فقال الرَّجلُ: مَخافةً منكَ أو فَرَقًا منك، وهو الخوفُ، فما تَلافَاهُ أنْ رحِمَه عِندَها، أي: فَتدارَكَتْه رحمةُ ربِّه عند قولِه ذلك.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق