مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة؟! (مَشْكُوْلٌ+الْمُقَدِّمَةِ وَالدُّعَاءِ)
راشد بن عبد الرحمن البداح
6 /6 /1441هـ. الحمدُ للهِ على نعمهِ في شرعِ الشرائعِ وتبيينِ الطرائق، يَقذفُ {بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له ربُ المغاربِ والمشارقِ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه المؤيُد بالمعجزاتِ الخوارقِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وسلمَ صلاةً وتسليمًا باقيَين ما بقيتِ الخلائقُ.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ تعالى، واعلمُوا أن اللهَ هو المألوُهُ أي المعبودُ بالمحبةِ والتعظيمِ، وهو المُعِزُ المُذلُ؛ فبينَما قومٌ مرتفعونَ عَزيزونَ، إذْ أذَلهم بعدلهِ. وآخرونَ ذليلونَ، إذ أَعزَهم بفضلهِ.
وهو القويُ القهارُ، فما من مخلوقٍ إلا وتحتَ قدرتهِ وقهرهِ، فلا يتحركُ متحركٌ إلا بعلمهِ وإرادتهِ. وكلُ ظالمٍ قويٌ مهما عظمتْ قوتُه فهي ضعيفةٌ أمامَ قوةِ الخالقِ العظيمِ.
خذْ مثالاً من كتابِ ربِك: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ} {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}.
كانتْ أمةً مشهورةً بطولِ الأجسامِ وبَسطتِها وقوَّتِها، طولُ الرجلِ منهم اثنا عشرَ ذراعًا. يَحْمِلُ الواحدُ مِنْهُمْ صَخْرَةً [واحِدَةً فيَرمِيها] عَلَى الْحَيِّ فَيُهْلِكُهُمْ: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً}([1])
ومِن تَرَفِهم أنهم يَبنونَ على الطُرقِ المشهورةِ بُنيانًا مُحكمًا هائلاً باهرًا، يَبنون ما لَا يحتاجون إِلَيْهِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ، والعبثِ، وَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ([2]).
فأقبلَ هودٌ يَهدِيْهِم، ويُنادِيْهِم في ناديْهِم (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)
ولكنَّ القومَ طغاةٌ متكبرونَ، فقالوا مستهزئينَ: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) . ولكنَّ الأنبياءَ لا يَنتصرونَ لأنفسهِم، فلم يَقُلْ هودٌ: بل أنتمُ السفهاءُ، ولكنه قَالَ: (يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ). ثم إنهم يُعارضونَ هودًا ويُكذبونهُ قائلينَ: (يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ).
فغضبَ هودٌ للهِ غَضبةً عظيمة، وبيَّن بيِّنَتَهُ من اللهِ، وتحدَّاهمْ بمعجزتهِ، فقد تحدَى هذهِ الجموعَ الغفيرةَ وهو واحدٌ، تحداهمْ أن يُصيبوهُ بسوءٍ:(فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ). ولكنهمْ مُتغطرسونَ، فبلغَ بهم الغرورُ أن قالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)؟! فقال اللهُ تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً).
فسَحَبَ سحابُ العذابِ إلى قِبالتهِم، فظنوهُ لما اعترضَ عارضَ مطرٍ، فتَهادَوا بتَهادِي بشارةِ (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) فكانَ الردُ عليهم بكلمةٍ مخيفةٍ كالقذيفةِ: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) فراحتْ ريحُ الدَّبورِ تَكفَأُ عليهم الرمالَ، فتَكفِي تَكفينَهم، فصارُوا (صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) وجَعَلَتِ الرِّيحُ تَضْرِبُ بأحدِهم الْأَرْضَ، فَيَنْشَدِخُ رَأْسُهُ، وَتَبْقَى جُثَّتُهُ هَامِدَةً كَالنَّخْلَةِ إِذَا خَرَّتْ بِلَا سَعَفٍ. فما أقلعَتْ حتى قَلَعَتْ قِلاعَهم: (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)، ولو كانتْ لحظةً لأهلَكَتهُم، ولكنِ استمرَّتْ: (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) ([3]).
ومن عجائبِ آياتِ اللهِ أنه –تعالى- عَذبَ قومَ عادٍ لما هَانوا فأُهِينوا بأهونِ شيء، وهو الهواءُ، فأصابتهُم ريحٌ عاتيةٌ بمقدارِ استدارةِ خاتمِ اليدِ، فدمرتْ كلَّ شيء بأمرِ ربِها. (فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ) لا واللهِ ربَّنا، لا نرى لهم مِن باقيةٍ!
أينَ استهزاؤُهم؟! (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ}؟!إي ربَّنا رأينا. ونسألُك أن نكونَ اعتَبَرنا.
فما العبرةُ من قصةِ عادٍ قومِ هودٍ؟ إليكم خمسَ عِبَرٍ:
- أن الذي أعطاهُم تلكَ القوةَ قادرٌ على أن ينزِعَها، بل ويأتيَهم بعذابٍ بقوةٍ أشدَ من قوتِهم التي يفتخرونَ بها. وهذه مَساكنُهم لم تُسكنْ من بعدهمْ إلا قليلاً. أبقاها اللهُ في الأرضِ آياتٍ للمُعتبرينَ.
- أن مَن استكبرَ على اللهِ وسفَكَ دماءَ عبادِه فسيَلقَى عذابًا وهوانًا.
- أن نُوقنَ بأنَ اللهَ ما كانَ {لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} كم أحداثٍ حَدثتْ مع استبعادِ الناسِ حدوثَها، وكم من أمورٍ عُدمتْ مع استبعادِ الناسِ عُدْمَها: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}.
- لا نكُنْ كنفوسٍ قَسَتْ قلوبُها، فلا تَعتبرُ ولا تَدّكِرُ، بل جاءتهُم آياتُ ربِهم فكانوا منها يَضحكونَ، وتأتيهم آيةٌ أكبرُ من أختِها، وهم عنها مُعرضونَ.
- قد يُنعِمُ اللهُ على الكافرِ نِعَمَ نَفَعٍ، أو نِعَمَ دَفْعٍ،أو نِعَمَ رَفْعٍ، ولكن ما هيَ إلا استدراجٌ وإملاءٌ، {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ()مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.
اللهم يا خيرَ من دُعيَ، وخيرَ من سئلَ، يا أهلَ التقوى، ويا أهلَ المغفرةِ. يا من يَكفي من كل أحدٍ، ولا يَكفي عنه أحد.
(اللهم نسألكَ الدرجاتِ العلى من الجنة.ونسألكَ فواتحَ الخيرَ،وخواتمَه،وجوامعَه،وأوله، وظاهرَه، وباطنَه، والدرجاتِ العلى من الجنة..ونسألك أن تُصلحَ أمرَنا، وتطهرَ قلوبَنا، وتحصنَ فروجَنا، وتنور قلوبَنا، وتغفر لنا ذنوبَنا)([4]).
(نعوذ بكلماتِ اللهِ التاماتِ التي لا يجاوزهن بَر، ولا فاجرٌ من شرِ ما خَلقَ، وذرأَ وبرأَ، ومن شر ما ينزل من السماءِ، ومن شر ما يَعرجُ فيها، ومن شرِ ما ذرأ في الأرضِ، ومن شرِ ما يَخرجُ منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شرِ كلِ طارقٍ إلا طارقا يَطرقُ بخير يا رحمن)([5]).
اللهم اجعلنا أغنى خلقِك بك، وأفقرَ عبادِك إليكَ. وبارك في أرزاقِنا واقضْ ديونَنا. اللهم احفظ علينا دينَنا وأعراضَنا ومقدساتِنا، وارزق نساءَنا مزيدَ الحشمة، ومزيدَ التبصر بكيدِ متبعي الشهواتِ، الذين يريدون أن نميلَ ميلاً عظيمًا. اللهم احفظْ ولاةَ أمرِنا مليكنا وولي عهده وارزقهم بطانةَ الصلاحِ، واكفنا وإياهم وبلادَنا شرَّ الأشرارِ وكيدَ الفجار. اللهم احفظ مجاهدينا ومرابطينا.
اللهم لك الحمدُ على التدفئةِ برغم البردِ. اللهم لك الحمد على أن رزقتَنا عامَنا المنصرمِ بالغيثِ المِدرارِ، وبالربيعِ والنوارِ. اللهم إنه لا غنى لنا عن فضلكَ وبركتكَ. اللهم أغثنا، اللهم اسقنا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين.
([1])تفسير الطبري ت شاكر(24/ 407) وتفسير ابن كثير ت. سلامة (8/ 395)
([2])تفسير ابن كثير ط العلمية (6/ 137)
([3])المدهش لابن الجوزي (ص: 82)
([5])رواه أحمد (15460) وجوَّده المنذري في الترغيب (2 / 303) والعراقي في المغني (1 / 303)، وصححه الألباني في الصحيحة ( 840 ).
المرفقات
من-أشد-منا-قوة
من-أشد-منا-قوة
من-أشد-منا-قوة-2
من-أشد-منا-قوة-2