من أسباب الانتكاسة

هلال الهاجري
1436/03/02 - 2014/12/24 04:45AM
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُك اللهمَّ ربَّنا ونستعينُك ونستغفرُك ونتوبُ إليكَ، ونُثني عليكَ الخيرَ كلَّه، سبحانَك وبحمدِك، القُلوبُ لك مُفضيةٌ، والسرُّ عندكَ علانيةٌ، الحلالُ ما أحللتَ، والحرامُ ما حرَّمتَ، والدِّينُ ما شرعتَ، والخَلقُ خلقُكَ، والأمرُ أمرُكَ، تُطاعُ فتشكُرُ، وتُعصى فتغفِرُ، أَقربُ شَهيدٍ، وأدنى حَفيظٍ، حُلتَ دونَ النُّفوسِ، وأَخذتَ بالنَّواصي، وكَتبتَ الآثارَ، ونَسختَ الآجالَ، وأنتَ على كلِّ شيءٍ قديرٍ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له اللَّطيفُ الخبيرُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه الهادي البَشيرُ والسِّراجُ المنيرُ، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه أُولي الفهمِ المستنيرِ، وصحبِه ذوي الجدِّ والتَّشميرِ، والتَّابعينَ ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ المصيرِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
أَسْلَمَ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ الْغَسَّانِيُّ مَلِكُ نَصَارَى الْعَرَبِ فِي أَيَّامِ عُمَرَ، فَاسْتَأْذَنَ جَبَلَةُ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَرَكِبَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَتَلَقَّتْهُ هَدَايَا عُمَرَ وَنُزُلُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمَرَاحِلَ، وَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، دَخَلَهَا وَقَدْ أَلْبَسَ خُيُولَهُ قَلَائِدَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَبِسَ هُوَ تَاجًا عَلَى رَأْسِهِ، مُرَصَّعًا بِاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ، وَفِيهِ قُرْطَا مَارِيَةَ جَدَّتِهِ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ رَحَّبَ بِهِ عُمَرُ وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، وَشَهِدَ الْحَجَّ مَعَ عُمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ إِذْ وَطِئَ إِزَارَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ فَانْحَلَّ، فَرَفَعَ جَبَلَةُ يَدَهُ فَهَشَّمَ أَنْفَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ الْفَزَارِيُّ عُمَرَ، وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، فَاسْتَحْضَرَهُ عُمَرُ، فَاعْتَرَفَ جَبَلَةُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَقِدْهُ، فَقَالَ جَبَلَةُ: كَيْفَ وَأَنَا مَلِكٌ وَهُوَ سُوقَةٌ؟، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ جَمَعَكَ وَإِيَّاهُ، فَلَسْتَ تَفْضُلُهُ إِلَّا بِالتَّقْوَى.
فَقَالَ جَبَلَةُ: قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ أَكُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَعَزَّ مِنِّي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ عُمَرُ: دَعْ ذَا عَنْكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُرْضِ الرَّجُلَ أَقَدْتُهُ مِنْكَ، فَقَالَ: إِذَنْ أَتَنَصَّرَ، فَقَالَ: إِنْ تَنَصَّرْتَ ضَرَبْتُ عُنُقَكَ، فَلَمَّا رَأَى الْجِدَّ قَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي هَذِهِ اللَّيْلَةَ.
فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ، فَلَمَّا ادْلَهَمَّ اللَّيْلُ رَكِبَ فِي قَوْمِهِ وَمَنْ أَطَاعَهُ، فَسَارَ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ دَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ، وَدَخَلَ عَلَى هِرَقْلَ فِي مَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَرَحَّبَ بِهِ هِرَقْلُ وَأَقْطَعَهُ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَأَجْرَى عَلَيْهِ أَرْزَاقًا جَزِيلَةً، وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا جَمِيلَةً، وَجَعَلَهُ مِنْ سُمَّارِهِ، فَمَكَثَ عِنْدَهُ دَهْرًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى هِرَقْلَ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: جَثَّامَةُ بْنُ مُسَاحِقٍ الْكِنَانِيُّ، فَلَمَّا بَلَغَ هِرَقْلَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ لَهُ هِرَقْلُ: هَلْ لَقِيتَ ابْنَ عَمِّكَ جَبَلَةَ؟، قَالَ: لَا، قَالَ: فَالْقَهُ، فَذَكَرَ اجْتِمَاعَهُ بِهِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ وَالْحُبُورِ الدُّنْيَوِيِّ، فِي لِبَاسِهِ وَفَرْشِهِ وَمَجْلِسِهِ وَطِيبِهِ، وَجَوَارِيهِ حَوَالَيْهِ الْحِسَانِ مِنَ الْخَدَمِ وَالْقِيَانِ، وَمَطْعَمِهِ وَشَرَابِهِ وَسُرُرِهِ وَدَارِهِ الَّتِي تَعَوَّضَ بِهَا عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ فَقَالَ: أَبْعَدَ مَا كَانَ مِنِّي مِنَ الِارْتِدَادِ؟، فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ ارْتَدَّ وَقَاتَلَهُمْ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى الْحَقِّ قَبِلُوهُ مِنْهُ، وَزَوَّجَهُ الصِّدِّيقُ بِأُخْتِهِ أُمِّ فَرْوَةَ، قَالَ: فَالْتَهَى عَنْهُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْخَمْرَ فَأَبَى عَلَيْهِ، وَشَرِبَ جَبَلَةُ مِنَ الْخَمْرِ شَيْئًا كَثِيرًا حَتَّى سَكِرَ، ثُمَّ أَمَرَ جَوَارِيَهُ الْقِيَانَ، فَغَنَّيْنَهُ بِالْعِيدَانِ مِنْ قَوْلِ حَسَّانَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا شِعْرُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ فِينَا وَفِي مُلْكِنَا، ثُمَّ قَالَ لِي: كَيْفَ حَالُ حَسَّانَ؟، قُلْتُ لَهُ: تَرَكْتُهُ ضَرِيرًا شَيْخًا كَبِيرًا، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ لَهُنَّ: بَكِّينَنِي، فَوَضَعْنَ عِيدَانَهُنَّ وَنَكَّسْنَ رُءُوسَهُنَّ وَقُلْنَ:
تَنَصَّرَتِ الْأَشْرَافُ مِنْ عَارِ لَطْمَةٍ *** وَمَا كَانَ فِيهَا لَوْ صَبَرْتُ لَهَا ضَرَرْ
تَكَنَّفَنِي فِيهَا لَجَاجٌ وَنَخْوَةٌ *** وَبِعْتُ بِهَا الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ بِالْعَوَرْ
فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَيْتَنِي *** رَجَعْتُ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ عُمَرْ
وَيَا لَيْتَنِي أَرْعَى الْمَخَاضَ بِقَفْرَةٍ *** وَكُنْتُ أَسِيرًا فِي رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ
وَيَا لَيْتَ لِي بِالشَّامِ أَدْنَى مَعِيشَةٍ *** أُجَالِسُ قَوْمِي ذَاهِبَ السَّمْعِ وَالْبَصَرْ
قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ بِدُمُوعِهِ، وَبَكَيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ هِرَقْلِيَّةٍ، فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ فَأَوْصِلْهَا إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَجَاءَ بِأُخْرَى فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ لَكَ، فَقُلْتُ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، وَلَا أَقْبَلُ مِنْكَ شَيْئًا وَقَدِ ارْتَدَدْتَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَأَضَافَهَا إِلَى الَّتِي لِحَسَّانَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ هِرَقْلِيَةٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: أَبْلِغْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنِّي السَّلَامَ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ أَخْبَرْتُهُ خَبَرَهُ، فَقَالَ: وَرَأَيْتَهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ، تَعَجَّلَ فَانِيَةً بِبَاقِيَةٍ، فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُ.
عبادَ اللهِ ..
الكِبْرُ هو أحدُ أسبابِ الانتكاسةِ عن الدِّينِ .. وهو مرضٌ خطيرٌ من أمراضِ القلوبِ، عَرَّفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِيفَاً دَقِيقَاً حِينَ قَالَ: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ –أي رَدُّه وَإِنْكَارُهُ-، وَغَمْطُ النَّاسِ - أَي احْتِقَارِهِمْ-) .. فردُّ الحقِّ واحتقارُ النَّاسِ هو من أعظمِ أسبابِ الابتعادِ عن الهدايةِ .. وهذا هو سببُ خروجِ إبليسَ من المقامِ الكريمِ .. حتى أصبحَ لا يُعرفُ إلا بالشَّيطانِ الرَّجيمِ .. فحينما أَمرَه اللهُ تعالى بالسُّجودِ لآدمَ عليه السَّلامُ، تَكبَّرَ، (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)، فصارَ بعدَ القُرْبِ مطروداً مذموماً، وبعدَ الكرامةِ منبوذاً محروماً.
ومن أسبابِ الانتكاسةِ فِتنةُ النِّساءِ .. قَالَ عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ: خَرَجْنَا فِي سَرِيَّةٍ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، فَصَحِبَنَا شَابٌّ لَمْ يَكُنْ فِينَا أَقْرَأُ الْقُرْآنِ مِنْهُ، وَلا أَفْقَهُ مِنْهُ وَلا أَفْرَضُ، صَائِمٌ النَّهَارَ، قَائِمٌ اللَّيْلَ، فَمَرَرْنَا بِحِصْنٍ لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نَقِفَ عَلَى ذَلِكَ الْحِصْنِ، فَمَالَ الرَّجُلُ مِنَّا عَنِ الْعَسْكَرِ، وَنَزَلَ بِقُرْبِ الْحِصْنِ فَظَنَنَّا أَنَّهُ يَبُولُ، فَنَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنَ النَّصَارَى تَنْظُرُ مِنْ وَرَاءِ الْحِصْنِ فَعَشِقَهَا، فَقَالَ لَهَا بِالرُّومِيَّةِ: كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَيْكِ؟، قَالَتْ: حِينَ تَتَنَصَّرُ، وَنَفْتَحُ لَكَ الْبَابَ وَأَنَا لَكَ، قَالَ: فَفَعَلَ، فَأُدْخِلَ الْحِصْنَ، قَالَ: فَقَضَيْنَا غَزَاتَنَا فِي أَشَدِّ مَا يَكُونُ مِنَ الْغَمِّ، كَانَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا يَرَى ذَلِكَ بِوَلَدِهِ مِنْ صُلْبِهِ، ثُمَّ عُدْنَا فِي سَرِيَّةٍ أُخْرَى فَمَرَرْنَا بِهِ يَنْظُرُ مِنْ فَوْقِ الْحِصْنِ مَعَ النَّصَارَى، فَقُلْنَا: يَا فُلانُ، مَا فَعَلَ قِرَاءَتُكَ؟ مَا فَعَلَ عِلْمُكَ؟ مَا فَعَلَ صَلاتُكَ وَصِيَامُكَ؟، قَالَ: اعْلَمُوا أَنِّي نَسِيتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، مَا أَذْكُرُ مِنْهُ إِلا هَذِهِ الآيَةَ: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) .. ولا عجبَ في ذلك فقد كانَ النِّساءُ سبباً لفتنةِ أمَّةٍ من الأممِ كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ).
ومن أسبابِ الانتكاسةِ الانبهارُ والإعجابُ بحضارةِ الغربِ وتقنيةِ الشَّرقِ والتَّقليدُ الأعمى لهم مما قد يُوصلُ إلى ما هم عليه من الشِّركِ والكفرِ باللهِ ربِّ العالمينَ .. عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ -وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ-، ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِالسِّدْرَةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ).
ومن أسبابِ الانتكاسِ هو الرِّياءُ وعدمُ الإخلاصِ حتى وإن كانَ تَظهرُ عليه آثارُ الصَّلاحِ والعلمِ .. فعَنْ سَهْلٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْتَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَاقْتَتَلُوا فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ، فَقَالَ: (إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)، فَقَالُوا: أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: لَأَتَّبِعَنَّهُ فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ، حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ –أيْ طَرَفَهُ- بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟)، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ).
ولكن لا تخافوا يأهلَ الإيمانِ فإن الصَّادقَ في دينِه لا تضُرُّه فتنةٌ ما دامتْ الأرضُ والسمواتُ .. وإنما المصيبةُ على الذي لا يُجاهدُ في دفعِ أمراضِ قلبِه حتى تتمكَّنَ منه فتُهلِكُه .. قَالَ هِرَقْلُ لأَبِي سُفْيَانَ: (وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المؤمنينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ حقَّ حمدِه .. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيماً لمجدِه .. وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلمَ تسليماً لا يُحصى في عَدِّه .. أما بعد:
ومن وسائلِ الانتكاسةِ العظيمةِ اتِّباعُ الهوى والنَّفسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ .. قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) .. فلا إلهَ إلا اللهُ .. هل رأيتُّم الهوى كيفَ أركسَه من وصفِ العلماءِ الرَّاسخينَ إلى وصفِ المُنحرفينَ الغاوينَ؟ .. وكيفَ ضربَ اللهُ تعالى له مثلاً بالكلبِ في أبشعِ أحوالِه .. فهو يلهثُ على الخُصومِ بما بقيَ عندَه من علمٍ سواءً جادلوه أو سكتوا عنه، وإذا دعاه غيرُه إلى الحقِّ وإلى كتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلمَ لايستجيبُ بسببِ الهوى .. يقولُ عزَّ وجلَّ: (فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) .. وبعد أن كانَ الشَّيطانُ لا يحلمُ في إغوائه وفتنتِه .. أصبحَ الشَّيطانُ من أتباعِه وسدنتِه .. حتى كأنَّ لسانَ حالِه يقولُ:
وكنتُ فتىً من جُندِ إبليسَ فارتقى *** بي الأمرُ حتى صارَ إبليسُ من جُندي
لا يُبالي لأجلِ حُطامِ الدُّنيا ببيعِ دينِه بفتاوى شاذَّةٍ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا) .. قد أفسدَ دينَه فساداً عظيماً بحرصِه على المالِ والشُّهرةِ والمنصبِ .. عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ).
يا عبادَ اللهِ .. من يأمنُ على نفسِه أو على غيرِه الفتنةَ في هذا الزَّمانِ؟ .. اسمعْ إلى قولِ ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: (مَن كانَ مُسْتَنًّا، فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ) .. وأما علامةُ الفتنةِ والانحرافِ عن الحقِّ فقد ذكرَها حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في قولِه: (إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَعْلَمَ أَصَابَتْهُ الْفِتْنَةُ أَمْ لَا؟، فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ كَانَ رَأَى حَلَالًا كَانَ يَرَاهُ حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ يَرَى حَرَامًا كَانَ يَرَاهُ حَلَالًا فَقَدْ أَصَابَتْهُ الْفِتْنَةُ).
اللهمَّ يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلوبَنا على دِينك، اللهمَّ يا مصرِّفَ القلوبِ صَرِّفْ قلوبَنا إلى طاعتِك، اللهمَّ رُدَّنا إليكَ رداً جميلاً، ولا تَفتنَّا في دينِنا ولا دنيانا، اللهم إنا نعوذُ بك من الضَّلالِ بعدَ الهدى ومن العَمى بعدَ البَصيرةِ، ربَّنا لا تُزغْ قلوبَنا بعد إذ هديتَنا وهبْ لنا من لدنك رحمةً إنك أنتَ الوَهَّابُ .. اللهم أصلحْ شأنَنا كلَّه ووفِّقْ ولاتَنا وعلماءَنا إلى ما تُحبُ وترضى وخُذْ بنواصيهم للبِرِّ والتَّقوى، اللهم انصرْ كتابَك وسنَّةَ نبيِّك محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ وعبادَك الصَّالحينَ، ربنا اغفر لنا ولإخوانِنا الذين سبقونا بالإيمانِ ولا تجعلْ في قلوبِنا غِلاً للذين آمنوا إنك رؤوفٌ رحيمٌ.
المرفقات

من أسباب الانتكاسة.docx

من أسباب الانتكاسة.docx

المشاهدات 2627 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا