من أخبار الشباب (8) أبو زُرْعَةَ الرازي رحمه الله تعالى
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1439/05/06 - 2018/01/23 14:39PM
من أخبار الشباب (8)
أبو زُرْعَةَ الرازي رحمه الله تعالى
9 / 5 / 1439هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ، الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ؛ مَنَّ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ، وَوَهَبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمُ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ، فَعَبَدُوا اللَّهَ تَعَالَى وَدَعَوْا إِلَيْهِ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ؛ فَكَانُوا مُهْتَدِينَ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ، وَهُدَاةً لِمَنْ ضَلَّ مِنَ الْبَشَرِيَّةِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ مَا تَقَرَّبَ إِلَيْهِ مُتَقَرِّبٌ بِأَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَذِكْرِهِ، وَلَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ إِلَّا بِمَزِيدٍ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، فَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ سُبْحَانَهُ أَعْلَى الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَأَجَلَّهَا، وَأَنْفَعَهَا لِصَاحِبِهَا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ حَضَّ عَلَى الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالْحِفْظِ وَالتَّحْفِيظِ، وَبَيَّنَ أَنَّ «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَدَعَا لِمَنْ حَمَلَ الْعِلْمَ وَبَلَّغَهُ فَقَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ؛ فَإِنَّهُ لَا كَبِيرَ عَلَى الْعِلْمِ وَلَا صَغِيرَ، وَلَا شَرِيفَ عَلَى الْجَهْلِ وَلَا وَضِيعَ؛ فَمَنْ تَعَلَّمَ سَادَ وَارْتَفَعَ، وَمَنْ جَهِلَ ذَلَّ وَانْخَفَضَ «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَقُولُ: «أَنَا أَطْلُبُ الْعِلْمَ إِلَى أَنْ أَدْخُلَ الْقَبْرَ»، وَمِنْ أَسْلَافِنَا مَنْ كَانَ يُلَقِّنُ الْمَوَالِيدَ وَالرُّضَّعَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: 282].
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي الشَّبَابِ قُوَّةٌ وَفَرَاغٌ، وَحِدَّةُ عَقْلٍ وَذَكَاءٌ، وَالْعِلْمُ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ، وَفِي سِيَرِ الْأَسْلَافِ شَبَابٌ نَشَئُوا فِي الْعِلْمِ حَتَّى هَرِمُوا عَلَيْهِ، فَنَفَعُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَنَفَعُوا أُمَّتَهُمْ بِنَشْرِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ فِيهَا، فَبَقِيَتْ فِي الْأُمَّةِ آثَارُهُمْ، وَمُلِئَتِ الْكُتُبُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَلَهِجَتْ الْأَلْسُنُ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
وَمِمَّنْ قَضَى شَبَابَهُ وَحَيَاتَهُ كُلَّهَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ بَدَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ النَّجَابَةِ وَالذَّكَاءِ مُنْذُ طُفُولَتِهِ، وَأَحْضَرَهُ وَالِدُهُ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ إِلَى حَلْقَةِ الْمُقْرِئِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّشْتَكِيِّ، فَأَدْنَاهُ مِنْهُ، وَتَفَرَّسَ فِيهِ، وَقَالَ لِأَبِيهِ: «إِنَّ ابْنَكَ هَذَا سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ وَيَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ».
كَبِرَ الطِّفْلُ فَبَدَأَ طَلَبَ الْعِلْمِ فِي صِبَاهُ، وَكَانَ عَالِيَ الْهِمَّةِ، حَرِيصًا عَلَى الطَّلَبِ، وَحَدَّثَ عَنْ تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ مِنْ حَيَاتِهِ فَقَالَ: «كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْأَسْحَارِ إِلَى مَجْلِسِ الْحَدِيثِ، نَسْمَعُ مِنَ الشُّيُوخِ، فَبَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ قَدْ بَكَّرْتُ -وَكُنْتُ حَدَثًا- إِذْ لَقِيَنِي فِي بَعْضِ طُرُقِ الرَّيِّ شَيْخٌ مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ فَرَدَدْتُ السَّلَامَ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا زُرْعَةَ سَيَكُونُ لَكَ شَأْنٌ وَذِكْرٌ...».
وَلَمْ يَبْلُغْ أَبُو زُرْعَةَ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ إِلَّا وَقَدْ جَمَعَ عِلْمَ شُيُوخِ بَلْدَتِهِ الرَّيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَتَبَ الْحَدِيثَ عَنْ ثَلَاثِينَ شَيْخًا مِنْهُمْ، فَرَحَلَ إِلَى الْكُوفَةِ يَطْلُبُ الْعِلْمَ وَالْحَدِيثَ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ فِي هَذِهِ السِّنِّ الْمُبَكِّرَةِ، لَمْ يُجَاوِزْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَكَثَ فِي رِحْلَتِهِ تِلْكَ عَشَرَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَقَدْ جَمَعَ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ الرِّوَايَةَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَخَذَ الْعِلْمَ عَنِ الْعُلَمَاءِ. وَتَكَرَّرَتْ رِحْلَاتُهُ فِي الطَّلَبِ؛ فَرَحَلَ مَرَّةً أُخْرَى وَمَكَثَ فِي رِحْلَتِهِ تِلْكَ خَمْسَ سَنَوَاتٍ، وَذَكَرَ طَرَفًا مِنْ خَبَرِهَا فَقَالَ: «بَدَأْتُ فَحَجَجْتُ ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى مِصْرَ فَأَقَمْتُ بِمِصْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكُنْتُ عَزَمْتُ فِي بُدُوِّ قُدُومِي مِصْرَ أَنِّي أُقِلُّ الْمُقَامَ بِهَا، فَلَمَّا رَأَيْتُ كَثْرَةَ الْعِلْمِ بِهَا وَكَثْرَةَ الِاسْتِفَادَةِ عَزَمْتُ عَلَى الْمُقَامِ...» وَذَكَرَ أَنَّهُ أَخَذَ عِلْمَ الشَّافِعِيِّ وَكَتَبَهُ مِنْ طَلَبَتِهِ، وَاضْطُرَّ فِي مُقَامِهِ أَنْ يَبِيعَ ثِيَابَهُ لِيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا أَوْرَاقًا يُدَوِّنُ فِيهَا الْعِلْمَ وَالْحَدِيثَ. قَالَ: «ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ فَأَقَمْتُ بِهَا مَا أَقَمْتُ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَأَقَمْتُ مَا أَقَمْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى بَغْدَادَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ فِي آخِرِهَا وَرَجَعْتُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَأَقَمْتُ بِهَا مَا أَقَمْتُ، وَقَدِمْتُ الْبَصْرَةَ...».
وَبِسَبَبِ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ، وَجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الطَّلَبِ؛ اشْتُهِرَ وَلَمْ يَبْلُغِ الثَّلَاثِينَ مِنْ عُمْرِهِ، وَصَارَ شُيُوخُ الْبُلْدَانِ وَأَئِمَّتُهَا يَحْتَسِبُونَ لِمَجِيئِهِ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي تَحْضِيرِ دُرُوسِهِمْ، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ الدِّمَشْقِيُّ: «بَلَغَنِي وُرُودُ هَذَا الْغُلَامِ الرَّازِيِّ -يَعْنِي أَبَا زُرْعَةَ- فَدَرَسْتُ لِلِقَائِهِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ». وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ: «قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ فَمَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ، وَكُنَّا نَجْلِسُ إِلَيْهِ...».
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ مِقْلَاصٍ: «كَانَ أَبُو زُرْعَةَ هَا هُنَا عِنْدَنَا بِمِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، إِذَا فَرَغَ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ بُكَيْرٍ وَعَمْرِو بْنِ خَالِدٍ وَالشُّيُوخِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَيُمْلِي عَلَيْهِمْ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً».
كَبِرَ الْشَّابُ وَصَارَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَمِنَ الْحُذَّاقِ الْقَلَائِلِ فِي مَعْرِفَةِ رِجَالِهِ وَعِلَلِهِ، وَاشْتُهِرَ بِسِعَةِ الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، وَجَاوَزَ حِفْظُهُ الصَّحِيحَ إِلَى السَّقِيمِ لِيُمَيِّزَهُ، سُئِلَ عَنْ مَحْفُوظَاتِهِ فَقَالَ: «أَنَا أَحْفَظُ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ إِسْنَادٍ فِي التَّفْسِيرِ وَالْقِرَاءَاتِ، وَعَشَرَةَ آلَافِ حَدِيثٍ مُزَوَّرَةً، قِيلَ لَهُ: مَا بَالُ الْمُزَوَّرَةِ تُحْفَظُ؟ قَالَ: إِذَا مَرَّ بِي مِنْهَا حَدِيثٌ عَرَفْتُهُ».
وَمَنْ لَازَمَ الْحِفْظَ فِي صِغَرِهِ صَارَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ فِي كِبَرِهِ، وَلِشَبَابِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ السِّيرَةِ وَالْهِمَّةِ مَطْمَعٌ، وَهِيَ لَهُمْ دَلِيلٌ وَمَرْجِعٌ.
وَقَدْ شَهِدَ لَهُ كِبَارُ الْأَئِمَّةِ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْفَظَ مِنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ». وَقَالَ الْإِمَامُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: «كُلُّ حَدِيثٍ لَا يَعْرِفُهُ أَبُو زُرْعَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ» وَقَالَ عَنْهُ حَافِظُ مِصْرَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى: «أَبُو زُرْعَةَ أَشْهَرُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا».
وَبَلَغَ مِنْ حِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ فِي بَيْتِي مَا كَتَبْتُهُ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً، وَلَمْ أُطَالِعْهُ مُنْذُ كَتَبْتُهُ، وَإِنِّي أَعْلَمُ فِي أَيِّ كِتَابٍ هُوَ، فِي أَيِّ وَرَقَةٍ هُوَ، فِي أَيِّ صَفْحَةٍ هُوَ، فِي أَيِّ سَطْرٍ هُوَ». وَالْكَلَامُ هُنَا لَيْسَ عَنْ كِتَابٍ أَوْ كِتَابَيْنِ، أَوْ حَدِيثٍ أَوْ حَدِيثَيْنِ، وَإِنَّمَا عَنْ مِئَاتِ الْأُلُوفِ مِنَ الْآثَارِ وَالْأَسَانِيدِ، فَسُبْحَانَ مَنْ وَهَبَهُ هَذِهِ الذَّاكِرَةَ الْقَوِيَّةَ!!
وَاسْتَفَادَ مِنْهُ شُيُوخُهُ وَأَقْرَانُهُ، فَإِمَامُ الْأُمَّةِ فِي وَقْتِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ كَانَ يُحِبُّ مُجَالَسَةَ تِلْمِيذِهِ أَبِي زُرْعَةَ، وَيَسْتَفِيدُ مِنْهُ رَغْمَ أَنْ أَحْمَدَ أَحْفَظُ مِنْهُ وَأَعْلَمُ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَقْتَصِرُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ حِينَمَا يَنْزِلُ عِنْدَهُ أَبُو زُرْعَةَ فِي زِيَارَاتِهِ لِبَغْدَادَ؛ حِرْصًا عَلَى مُذَاكَرَتِهِ، وَسَأَلَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَحَادِيثَ فَصَحَّحَهَا لَهُ أَبُو زُرْعَةَ.
وَلِأَبِي زُرْعَةَ فَضْلٌ عَلَى الْأُمَّةِ بِخُصُوصِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ؛ فَإِنَّهُ كَانَ قَرِينًا وَزَمِيلًا لِلْإِمَامِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ صَحِيحَهُ؛ كَمَا قَالَ: «عَرَضْتُ كِتَابِي هَذَا عَلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، فَكُلُّ مَا أَشَارَ أَنَّ لَهُ عِلَّةً تَرَكْتُهُ، وَكُلُّ مَا قَالَ إِنَّهُ صَحِيحٌ وَلَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ خَرَّجْتُهُ».
وَبَعْدَ حَيَاةٍ حَافِلَةٍ فِي الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ تُوُفِّيَ أَبُو زُرْعَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ مَطْعُونًا مَبْطُونًا يَعْرَقُ جَبِينُهُ عِنْدَ النَّزْعِ، وَحَصَلَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ كَرَامَتَانِ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَهُمَا: تَعْلِيمُ الْعِلْمِ وَنُطْقُ الشَّهَادَةِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ كَانَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَرَادُوا تَلْقِينَهُ الشَّهَادَةَ فَاسْتَحْيَوْا أَنْ يُلَقِّنُوهُ وَهُوَ إِمَامٌ فِي الْحَدِيثِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذِكْرِ حَدِيثِ التَّلْقِينِ وَالتَّلَكُّؤِ فِي إِسْنَادِهِ لِتَذْكِيرِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَسَكَتُوا، وَكَانَ أَبُو زُرْعَةَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا رَفَعَ رَأْسَهُ وَفَتَحَ بَصَرَهُ وَقَالَ: حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي عَرِيبٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَتُوُفِّيَ مِنْ لَحْظَتِهِ، فَخَتَمَ حَيَاتَهُ بِالتَّعْلِيمِ، وَبِنُطْقِ الشَّهَادَةِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَجَمَعَنَا بِهِ فِي الْجَنَّةِ.
وَرَآهُ قَرِينُهُ وَصَدِيقُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ فِي الْمَنَامِ، قَالَ: «لَمَّا مَاتَ أَبُو زُرْعَةَ رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا زُرْعَةَ، مَاذَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: قَالَ لِي الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ: أَلْحِقُوهُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَوَّلُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الثَّانِي الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الثَّالِثُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ».
رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْمَعِينَ، وَأَلْحَقَنَا بِهِمْ فِي عِلِّيِّينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 223].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَا يُنَالُ الْعِلْمُ بِالتَّرَفِ وَرَاحَةِ الْأَجْسَادِ، وَلَا بِاللَّهْوِ وَالْعَبَثِ الَّذِي يُرَادُ بِالشَّبَابِ. وَالْأُمَمُ الْعَابِثَةُ اللَّاهِيَةُ هِيَ الْأُمَمُ الْهَامِلَةُ الضَّائِعَةُ الَّتِي تُسَاقُ إِلَى هَلَاكِهَا وَهِيَ لَا تَشْعُرُ.
وَيَجِبُ عَلَى الشَّبَابِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْوَعْيِ مَا يَقُودُهُمْ إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ، وَأَنْ يَجْعَلُوا أَعْلَامَ الْإِسْلَامِ الْعُظَمَاءَ قُدْوَةً لَهُمْ، وَلَا يَقْتَدُوا بِمَنْ سَاءَ عَمَلُهُمْ، وَقَضَوْا أَعْمَارَهُمْ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُمْ، مِنْ ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الْكَهْفِ: 104]؛ فَإِنَّ الْأَيَّامَ تُسْرِعُ بِالنَّاسِ إِلَى قُبُورِهِمْ، وَلَا يَبْقَى لَهُمْ إِلَّا مَا خَلَّفُوا مِنْ آثَارِهِمْ، وَهَا نَحْنُ نَذْكُرُ أَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ بِمَا وَرَّثُوا مِنْ عُلُومٍ وَمَعَارِفَ، وَمَا خَلَّفُوا مِنْ آثَارٍ يُحْمَدُونَ بِهَا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَإِلَى آخِرِ الزَّمَانِ.
وَيَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْمُعَلِّمِينَ وَالْمُرَبِّينَ أَنْ يَغْرِسُوا حُبَّ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِ مَنْ يُرَبُّونَهُمْ وَيُعَلِّمُونَهُمْ، فِي وَقْتٍ سَيْطَرَتْ فِيهِ التَّفَاهَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَصُدِّرَ التَّافِهُونَ وَالتَّافِهَاتُ، وَجُعِلُوا لِلشَّبَابِ وَالْفَتَيَاتِ نَمَاذِجَ يُحْتَذَى بِهَا؛ لِغَمْسِهِمْ فِيمَا يُوبِقُهُمْ وَلَا يُفِيدُهُمْ، وَفِيمَا يُضَيِّعُ أَعْمَارَهُمْ سُدًى، وَهَذَا مُرَادُ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَشَبَابِهِمْ.
هَذَا؛ وَإِنَّ أَعْلَى الْعُلُومِ وَأَشْرَفَهَا الْعِلْمُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِمَا يُرِيدُهُ سُبْحَانَهُ مِنَّا؛ فَفِيهِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَفَوْزُ الْآخِرَةِ ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 185].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
أخبار-الشباب-8
أخبار-الشباب-8
أخبار-الشباب-8-مشكولة
أخبار-الشباب-8-مشكولة
المشاهدات 2369 | التعليقات 2
جزيت خيرا
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق