من أخبار الشباب (6) الإمام الشافعي رحمه الله تعالى
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
1438/05/10 - 2017/02/07 14:35PM
من أخبار الشباب (6)
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى
13/5/1438ه
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْحَلِيمِ؛ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا؛ فَالْخَيْرُ بِيَدَيْهِ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، إِنَّا بِهِ وَإِلَيْهِ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، نَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ؛ عَظِيمٌ فِي ذَاتِهِ وَفِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، حَكِيمٌ فِي أَقْدَارِهِ وَأَفْعَالِهِ، عَزِيزٌ فِي مُلْكِهِ وَجَبَرُوتِهِ، لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَاهُ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَاهُ، ﴿لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [الشُّورَى: 19] وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَمُصْطَفَاهُ مِنْ عِبَادِهِ، جَاءَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ لِيَمْحُوَ الْبَاطِلَ وَالظُّلْمَ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ رَشَدَ وَاهْتَدَى، وَمَنْ عَصَاهُ ضَلَّ وَغَوَى، وَلَنْ يَضُرَّ إِلَّا نَفْسَهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْتَبِرُوا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ سُرْعَةِ مُرُورِ الْأَيَّامِ، وَتَزَوَّدُوا لِيَوْمِ الْمَعَادِ، فَأَنْتُمْ تَرَوْنَ أَطْفَالًا يَشِبُّونَ، وَشَبَابًا يَهْرَمُونَ، وَشُيُوخًا يَمُوتُونَ. وَتَرَوْنَ أَقْوِيَاءَ يَضْعُفُونَ، وَأَعِزَّةً يُذَلُّونَ، وَأَقْوَامًا يَرْتَفِعُونَ ثُمَّ يَهْبِطُونَ. وَتَرَوْنَ أَجْيَالًا يَعْقُبُهَا أَجْيَالٌ، وَدُوَلًا فِي إِثْرِ دُوَلٍ، وَلَا مُلْكَ يَبْقَى إِلَّا مُلْكَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غَافِرٍ: 16].
أَيُّهَا النَّاسُ: الْحَدِيثُ عَنْ شَبَابِ الْأُمَّةِ حَدِيثٌ عَنْ أَمَلِهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا، فَشَبَابُ الْأُمَمِ هُمْ عِمَادُهَا وَقُوَّتُهَا، وَعَلَى سَوَاعِدِهِمْ يَتَّكِئُ عِزُّهَا وَمَجْدُهَا، وَبِحِدَّةِ عُقُولِهِمْ تُدْرِكُ الْأُمَّةُ مَنْ سَبَقَهَا، وَتَسْبِقُ مَنْ مَعَهَا.
وَالْإِنْفَاقُ عَلَى تَعْلِيمِ الشَّبَابِ وَتَرْبِيَتِهِمْ يَعُودُ بِأَرْبَاحٍ مُضَاعَفَةٍ أَضْعَافًا كَثِيرَةً؛ فَهُمْ رَأْسُ مَالِ الْأُمَمِ وَعِزُّهَا وَسَبَبُ تَقَدُّمِهَا. وَالْأُمَّةُ الْهَرِمَةُ تَضْمَحِلُّ لِيَخْلُفَهَا أُمَّةٌ شَابَّةٌ فَتِيَّةٌ. وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ.
وَأُمَّةُ الْإِسْلَامِ أُمَّةٌ غَنِيَّةٌ بِسِيَرِ الشَّبَابِ النَّابِهِينَ، وَالْفِتْيَانِ الْمُمَيَّزِينَ، الَّذِينَ بَزُّوا أَقْرَانَهُمْ، وَسَبَقُوا الْكُهُولَ وَالشُّيُوخَ، وَتَصَدَّرُوا لِلْإِمَامَةِ فِي سِنٍّ مُبَكِّرَةٍ، وَسِيَرُهُمْ نَمَاذِجُ تُحْتَذَى، وَدُرُوسٌ لِأُولِي النُّهَى.
وَهَذِهِ سِيرَةُ شَابٍّ مِنَ الشَّبَابِ النَّابِهِينَ، عَاشَ يَتِيمًا فَمَا رَدَّهُ يُتْمُهُ عَنِ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، وَعَالَجَ فَقْرًا فَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْلَامِ الْمُسْلِمِينَ، ذَلِكُمْ هُوَ الْإِمَامُ الْقُرَشِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ الَّذِي بَلَغَ صِيتُهُ الْآفَاقَ، وَغَطَّى عِلْمُهُ الْأَرْضَ، فَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلَّا وَيَأْخُذُ مِنْ عِلْمِهِ، وَقَدْ مَاتَ كَهْلًا فِي الْخَمْسِينَ مِنْ عُمْرِهِ، وَلَمْ يُعَمَّرْ كَمَا عُمِّرَ مَنْ هُمْ دُونَهُ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْفِقْهِ مِنْ أَشْهَرِ الْمَذَاهِبِ وَأَكْثَرِهَا انْتِشَارًا.
طَلَبَ الْعِلْمَ فِي طُفُولَتِهِ، وَشُغِفَ بِهِ فِي وَقْتٍ كَانَ أَقْرَانُهُ يَمِيلُونَ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اخْتَارَ هَذَا الْفَتَى لِلْإِمَامَةِ، يَقُولُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «وُلِدْتُ بِالْيَمَنِ، فَخَافَتْ أُمِّي عَلَيَّ الضَّيْعَةَ، وَقَالَتِ: الْحَقْ بِأَهْلِكَ، فَتَكُونَ مِثْلَهُمْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تُغْلَبَ عَلَى نَسَبِكَ، فَجَهَّزَتْنِي إِلَى مَكَّةَ، فَقَدِمْتُهَا وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنُ عَشْرٍ أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ، فَصِرْتُ إِلَى نَسِيبٍ لِي، وَجَعَلْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَيَقُولُ لِي: لَا تَشْتَغِلْ بِهَذَا، وَأَقْبِلْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، فَجَعَلْتُ لَذَّتِي فِي هَذَا الْعِلْمِ وَطَلَبِهِ، حَتَّى رَزَقَنِي اللَّهُ مِنْهُ مَا رَزَقَ».
وَعَنْ يُتْمِهِ وَفَقْرِ أُمِّهِ يَقُولُ: «كُنْتُ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمِّي، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَا تُعْطِي الْمُعَلِّمَ، وَكَانَ الْمُعَلِّمُ قَدْ رَضِيَ مِنِّي أَنْ أَخْلُفَهُ إِذَا قَامَ، فَلَمَّا خَتَمْتُ الْقُرْآنَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَكُنْتُ أُجَالِسُ الْعُلَمَاءَ، وَأَحْفَظُ الْحَدِيثَ أَوِ الْمَسْأَلَةَ، وَكَانَ مَنْزِلُنَا بِمَكَّةَ فِي شِعْبِ الْخَيْفِ، وَكُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْعَظْمِ يَلُوحُ، فَأَكْتُبُ فِيهِ الْحَدِيثَ أَوِ الْمَسْأَلَةَ، وَكَانَتْ لَنَا جَرَّةٌ قَدِيمَةٌ، فَإِذَا امْتَلَأَ الْعَظْمُ طَرَحْتُهُ فِي الْجَرَّةِ».
هِمَّةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الطَّلَبِ وَتَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَاتَتْهُ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ حَتَّى نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «حَفِظْتُ الْقُرْآنَ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَحَفِظْتُ (الْمُوَطَّأَ) وَأَنَا ابْنُ عَشْرٍ».
وَلْنَنْظُرْ إِلَى أَبْنَاءِ الْعَشْرِ وَالْعِشْرِينَ مَاذَا يَحْفَظُونَ؟ وَبِمَاذَا يَعْتَنُونَ؟
وَمَا زَالَ التَّفَوُّقُ يُحَالِفُ الْفَتَى الْقُرَشِيَّ الشَّافِعِيَّ حَتَّى تَأَهَّلَ لِلْفَتْوَى وَهُوَ يُنَاهِزُ الْحُلُمَ، حَتَّى قَالَ لَهُ شَيْخُهُ مُفْتِي مَكَّةَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ: «أَفْتِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؛ فَقَدْ وَاللَّهِ آنَ لَكَ أَنْ تُفْتِيَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً».
وَلَمْ يَكُنِ الشَّافِعِيُّ يَأْنَفُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِلْمَ مِنْ أَقْرَانِهِ أَوْ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي السِّنِّ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ غَايَتُهُ، وَالْفَائِدَةَ هَدَفُهُ، فَأَنَّى وَجَدَهَا أَخَذَهَا، وَلَا يَعْنِيهِ سِنُّ مَنْ يَطْلُبُهَا مِنْهُ أَوْ مَنْزِلَتُهُ، وَهَذَا الَّذِي صَيَّرَهُ إِمَامَ الدُّنْيَا فِي زَمَنِهِ؛ وَلِذَا لَمْ يَأْنَفْ أَنْ يَأْخُذَ عَنْ تِلْمِيذِهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَكَانَ غُلَامًا صَغِيرًا، وَقَدْ تَوَسَّمَ فِي الشَّافِعِيِّ مَا لَمْ يَتَوَسَّمْ فِيهِ غَيْرُهُ، فَكَانَ الطَّلَبَةُ يَلْزَمُونَ حَلَقَاتِ الْكِبَارِ الْمَشَاهِيرِ، وَكَانَ ابْنُ حَنْبَلٍ يَلْزَمُ الشَّافِعِيَّ وَهُوَ لَمْ يَشْتَهِرْ بَعْدُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا، وَلَمَّا عَاتَبَهُ بَعْضُ أَقْرَانِهِ فِي تَرْكِ الْكِبَارِ، وَالْجُلُوسِ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَهُوَ لَا يَزَالُ فَتًى طَرِيًّا قَالَ أَحْمَدُ رَدًّا عَلَى الْمُعَاتِبِ: «إِنْ فَاتَكَ أَمْرُ هَذَا الْفَتَى، أَخَافُ أَنْ لَا تَجِدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْقَهَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْفَتَى الْقُرَشِيِّ. فَقِيلَ لَهُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ».
فَرَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ وَابْنَ حَنْبَلٍ، كَانَا غُلَامَيْنِ يَجْلِسُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، وَيَتَزَاحَمُ الطَّلَبَةُ عَلَى الشُّيُوخِ الْكِبَارِ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ سَيَكُونَانِ إِمَامَيْنِ كَبِيرَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ، يَتَنَاقَلُ النَّاسُ عِلْمَهُمَا قُرُونًا كَثِيرَةً.
هَذَا؛ وَإِنَّ آفَةَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ الْعُجْبُ وَالْغُرُورُ وَالِاعْتِدَادُ بِالنَّفْسِ، خَاصَّةً عِنْدَ الْإِحْسَاسِ بِالتَّمَيُّزِ عَلَى الْأَقْرَانِ، فَتُمْحَقُ بَرَكَةُ الْعِلْمِ، وَيُطْفَأُ نُورُهُ، وَيُسَخِّرُهُ صَاحِبُهُ فِي الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ وَالِانْتِصَارِ لِلنَّفْسِ، وَإِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى طَرْحِ الْخُصُومِ فِي الْمُنَاظَرَاتِ، وَهَذَا مِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ. وَظُهُورُهُ فِي الشَّبَابِ كَثِيرٌ، وَهُوَ سَبَبٌ لِلنِّزَاعَاتِ وَالْمُنَاكَفَاتِ الَّتِي تَنْتَهِي مَجَالِسُهَا فِي الْغَالِبِ بِوَغْرِ الصُّدُورِ، وَفَسَادِ الْقُلُوبِ، وَتَرَاكُمِ الْأَحْقَادِ، فَتَنْزِعُ نُفُوسُ أَصْحَابِهَا إِلَى الْعُلُوِّ عَلَى النَّاسِ، وَالْغُلُوِّ فِي الْأَحْكَامِ وَالطِّبَاعِ. وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ سَبَبًا لِلتَّوَاضُعِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، وَالتَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ، وَنُصْرَةِ الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ.
وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَجْتَنِبُ الْمِرَاءَ وَيَقُولُ: «الْمِرَاءُ فِي الدِّينِ يُقَسِّي الْقَلْبَ، وَيُورِثُ الضَّغَائِنَ». وَيَقُولُ: «بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ». فَأَيْنَ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ مَنْ يَلُوكُونَ أَعْرَاضَ الْعُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالْمُصْلِحِينَ، وَيَرْمُونَهُمْ بِالْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ، وَيَسْعَوْنَ فِيهِمْ بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ؛ لِيُسْقِطُوهُمْ عِنْدَ النَّاسِ. وَمَا أَسْقَطُوا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَأَهْلَكُوهَا وَأَوْبَقُوهَا. فَعَلَى كُلِّ مُتَعَلِّمٍ أَنْ يَأْخُذَ بِوَصِيَّةِ هَذَا الْإِمَامِ، وَيُجَانِبَ الْعُدْوَانَ عَلَى الْعِبَادِ.
وَرَغْمَ شُهْرَةِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُنَاظَرَاتِ؛ لِقُوَّةِ حُجَّتِهِ، وَحُضُورِ أَدِلَّتِهِ، وَبَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ؛ فَإِنَّهُ مَا كَانَ يُحِبُّ الِانْتِصَارَ لِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ: «وَاللَّهِ، مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ». وَمِنْ مَوَاقِفِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَكَاهُ يُونُسُ الصَّدَفِيُّ بِقَوْلِهِ: «مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ، نَاظَرْتُهُ يَوْمًا فِي مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ افْتَرَقْنَا، وَلَقِيَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، أَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ نَكُونَ إِخْوَانًا وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ».
وَمَا كَانَتْ غَايَتُهُ إِلَّا أَنْ يَنْفَعَ النَّاسَ بِالْعِلْمِ، وَفِي هَذَا يَقُولُ: «وَدِدْتُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ أَعْلَمُهُ تَعَلَّمَهُ النَّاسُ أُوجَرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْمَدُونِي».
هَذَا الشَّابُّ حَفِظَ شَبَابَهُ فِي الْعِلْمِ فَسَادَ، وَسَخَّرَ مَوَاهِبَهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ فَعَلَا صِيتُهُ، وَرُفِعَ ذِكْرُهُ، وَبَقِيَ أَثَرُهُ، وَخُلِّدَ عِلْمُهُ، فَمَلَايِينُ الْمُسْلِمِينَ يَنْتَفِعُونَ بِعِلْمِهِ مُنْذُ وَفَاتِهِ قَبْلَ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ قَرْنًا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا وَإِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، حَتَّى إِنَّ الْإِمَامَ الذَّهَبِيَّ خَتَمَ تَرْجَمَتَهُ لَهُ بِقَوْلِهِ: «فَرَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ، وَأَيْنَ مِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَاللَّهِ فِي صِدْقِهِ وَشَرَفِهِ وَنُبْلِهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ، وَفَرْطِ ذَكَائِهِ، وَنَصْرِهِ لِلْحَقِّ، وَكَثْرَةِ مَنَاقِبِهِ» ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الْحَدِيدِ: 21].
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 198].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يُحَاوِلُ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ كُفَّارٍ وَمُنَافِقِينَ وَبِكُلِّ وَسِيلَةٍ مُمْكِنَةٍ صَرْفَ شَبَابِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَيَنْفَعُ أُمَّتَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. يَصْرِفُونَهُمْ إِلَى اللَّهْوِ وَالْعَبَثِ وَاللَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ، وَيَصْنَعُونَ لَهُمْ قُدْوَاتٍ سَيِّئَةً لِيَقْتَفُوا أَثَرَهَا، لَيْسَ لَهَا مِنَ الْإِنْجَازِ إِلَّا شُهْرَتُهَا فِي مَيَادِينِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْعَبَثِ. وَهُوَ مَا يُكَرِّسُهُ الْإِعْلَامُ فِي وِجْدَانِ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ وَشَبَابِهِمْ وَفَتَيَاتِهِمْ.
يَجِبُ عَلَى الشَّبَابِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا يَصْنَعُهُ الْإِعْلَامُ السَّاقِطُ لَهُمْ مِنْ قُدْوَاتٍ مَا هِيَ إِلَّا قُدْوَاتٌ فِي الشَّرِّ وَالرَّذِيلَةِ، وَعَدَمِ إِنْتَاجِ شَيْءٍ إِلَّا الْأَمْرَاضَ النَّفْسِيَّةَ، وَالْعَاهَاتِ الْمُسْتَدِيمَةَ، وَالسُّمْعَةَ السَّيِّئَةَ. عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَرْحَلَةَ الشَّبَابِ هِيَ الْمَرْحَلَةُ الذَّهَبِيَّةُ لِلْإِنْجَازِ الْمُثْمِرِ، وَإِذَا ضَاعَتْ فِي اللَّهْوِ وَالْعَبَثِ ضَاعَ مَا بَعْدَهَا، فَصَارَ صَاحِبُهَا مُجَرَّدَ رَقْمٍ بَشَرِيٍّ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي عَالَمِ الْمَعَارِفِ وَالْمُنْجَزَاتِ. عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ أُمَّتَهُمْ فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ، وَإِلَى كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ أَوْقَاتِهِمُ الضَّائِعَةِ، وَإِلَى كُلِّ جُهْدٍ يَبْذُلُونَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَأَعْظَمُ الْغَايَاتِ اسْتِنْقَاذُ الْبَشَرِ مِنْ ضَلَالِ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، وَإِخْرَاجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَتِلْكَ هِيَ مُهِمَّةُ الرُّسُلِ الَّتِي بُعِثُوا بِهَا، وَعَاشُوا لِأَجْلِهَا، وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهَا.
وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ وَالْمُعَلِّمِينَ أَنْ يَسْتَخْرِجُوا سِيَرَ الشَّبَابِ النَّابِهِ فِي تُرَاثِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجْعَلُوهَا أُنْمُوذَجًا لِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ شَبَابُ الْمُسْلِمِينَ وَفَتَيَاتُهُمْ؛ لِمُقَاوَمَةِ الْمَسْخِ الْإِعْلَامِيِّ الرَّهِيبِ الَّذِي يَسْعَى بِبَرَامِجِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ لِطَمْسِ قُدْوَاتِ الْإِسْلَامِ، وَتَرْبِيَةِ الشَّبَابِ وَالْفَتَيَاتِ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَبَثِ وَاللَّهْوِ الْحَرَامِ ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الْمُنَافِقُونَ: 4].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى
13/5/1438ه
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْحَلِيمِ؛ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا؛ فَالْخَيْرُ بِيَدَيْهِ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، إِنَّا بِهِ وَإِلَيْهِ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، نَسْتَغْفِرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ؛ عَظِيمٌ فِي ذَاتِهِ وَفِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، حَكِيمٌ فِي أَقْدَارِهِ وَأَفْعَالِهِ، عَزِيزٌ فِي مُلْكِهِ وَجَبَرُوتِهِ، لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَاهُ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَاهُ، ﴿لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ﴾ [الشُّورَى: 19] وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَمُصْطَفَاهُ مِنْ عِبَادِهِ، جَاءَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ لِيَمْحُوَ الْبَاطِلَ وَالظُّلْمَ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ رَشَدَ وَاهْتَدَى، وَمَنْ عَصَاهُ ضَلَّ وَغَوَى، وَلَنْ يَضُرَّ إِلَّا نَفْسَهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْتَبِرُوا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ سُرْعَةِ مُرُورِ الْأَيَّامِ، وَتَزَوَّدُوا لِيَوْمِ الْمَعَادِ، فَأَنْتُمْ تَرَوْنَ أَطْفَالًا يَشِبُّونَ، وَشَبَابًا يَهْرَمُونَ، وَشُيُوخًا يَمُوتُونَ. وَتَرَوْنَ أَقْوِيَاءَ يَضْعُفُونَ، وَأَعِزَّةً يُذَلُّونَ، وَأَقْوَامًا يَرْتَفِعُونَ ثُمَّ يَهْبِطُونَ. وَتَرَوْنَ أَجْيَالًا يَعْقُبُهَا أَجْيَالٌ، وَدُوَلًا فِي إِثْرِ دُوَلٍ، وَلَا مُلْكَ يَبْقَى إِلَّا مُلْكَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غَافِرٍ: 16].
أَيُّهَا النَّاسُ: الْحَدِيثُ عَنْ شَبَابِ الْأُمَّةِ حَدِيثٌ عَنْ أَمَلِهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا، فَشَبَابُ الْأُمَمِ هُمْ عِمَادُهَا وَقُوَّتُهَا، وَعَلَى سَوَاعِدِهِمْ يَتَّكِئُ عِزُّهَا وَمَجْدُهَا، وَبِحِدَّةِ عُقُولِهِمْ تُدْرِكُ الْأُمَّةُ مَنْ سَبَقَهَا، وَتَسْبِقُ مَنْ مَعَهَا.
وَالْإِنْفَاقُ عَلَى تَعْلِيمِ الشَّبَابِ وَتَرْبِيَتِهِمْ يَعُودُ بِأَرْبَاحٍ مُضَاعَفَةٍ أَضْعَافًا كَثِيرَةً؛ فَهُمْ رَأْسُ مَالِ الْأُمَمِ وَعِزُّهَا وَسَبَبُ تَقَدُّمِهَا. وَالْأُمَّةُ الْهَرِمَةُ تَضْمَحِلُّ لِيَخْلُفَهَا أُمَّةٌ شَابَّةٌ فَتِيَّةٌ. وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ.
وَأُمَّةُ الْإِسْلَامِ أُمَّةٌ غَنِيَّةٌ بِسِيَرِ الشَّبَابِ النَّابِهِينَ، وَالْفِتْيَانِ الْمُمَيَّزِينَ، الَّذِينَ بَزُّوا أَقْرَانَهُمْ، وَسَبَقُوا الْكُهُولَ وَالشُّيُوخَ، وَتَصَدَّرُوا لِلْإِمَامَةِ فِي سِنٍّ مُبَكِّرَةٍ، وَسِيَرُهُمْ نَمَاذِجُ تُحْتَذَى، وَدُرُوسٌ لِأُولِي النُّهَى.
وَهَذِهِ سِيرَةُ شَابٍّ مِنَ الشَّبَابِ النَّابِهِينَ، عَاشَ يَتِيمًا فَمَا رَدَّهُ يُتْمُهُ عَنِ الْإِمَامَةِ فِي الدِّينِ، وَعَالَجَ فَقْرًا فَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْلَامِ الْمُسْلِمِينَ، ذَلِكُمْ هُوَ الْإِمَامُ الْقُرَشِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ الَّذِي بَلَغَ صِيتُهُ الْآفَاقَ، وَغَطَّى عِلْمُهُ الْأَرْضَ، فَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلَّا وَيَأْخُذُ مِنْ عِلْمِهِ، وَقَدْ مَاتَ كَهْلًا فِي الْخَمْسِينَ مِنْ عُمْرِهِ، وَلَمْ يُعَمَّرْ كَمَا عُمِّرَ مَنْ هُمْ دُونَهُ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْفِقْهِ مِنْ أَشْهَرِ الْمَذَاهِبِ وَأَكْثَرِهَا انْتِشَارًا.
طَلَبَ الْعِلْمَ فِي طُفُولَتِهِ، وَشُغِفَ بِهِ فِي وَقْتٍ كَانَ أَقْرَانُهُ يَمِيلُونَ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اخْتَارَ هَذَا الْفَتَى لِلْإِمَامَةِ، يَقُولُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «وُلِدْتُ بِالْيَمَنِ، فَخَافَتْ أُمِّي عَلَيَّ الضَّيْعَةَ، وَقَالَتِ: الْحَقْ بِأَهْلِكَ، فَتَكُونَ مِثْلَهُمْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تُغْلَبَ عَلَى نَسَبِكَ، فَجَهَّزَتْنِي إِلَى مَكَّةَ، فَقَدِمْتُهَا وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنُ عَشْرٍ أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ، فَصِرْتُ إِلَى نَسِيبٍ لِي، وَجَعَلْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَيَقُولُ لِي: لَا تَشْتَغِلْ بِهَذَا، وَأَقْبِلْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، فَجَعَلْتُ لَذَّتِي فِي هَذَا الْعِلْمِ وَطَلَبِهِ، حَتَّى رَزَقَنِي اللَّهُ مِنْهُ مَا رَزَقَ».
وَعَنْ يُتْمِهِ وَفَقْرِ أُمِّهِ يَقُولُ: «كُنْتُ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمِّي، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَا تُعْطِي الْمُعَلِّمَ، وَكَانَ الْمُعَلِّمُ قَدْ رَضِيَ مِنِّي أَنْ أَخْلُفَهُ إِذَا قَامَ، فَلَمَّا خَتَمْتُ الْقُرْآنَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَكُنْتُ أُجَالِسُ الْعُلَمَاءَ، وَأَحْفَظُ الْحَدِيثَ أَوِ الْمَسْأَلَةَ، وَكَانَ مَنْزِلُنَا بِمَكَّةَ فِي شِعْبِ الْخَيْفِ، وَكُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْعَظْمِ يَلُوحُ، فَأَكْتُبُ فِيهِ الْحَدِيثَ أَوِ الْمَسْأَلَةَ، وَكَانَتْ لَنَا جَرَّةٌ قَدِيمَةٌ، فَإِذَا امْتَلَأَ الْعَظْمُ طَرَحْتُهُ فِي الْجَرَّةِ».
هِمَّةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الطَّلَبِ وَتَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَاتَتْهُ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ حَتَّى نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «حَفِظْتُ الْقُرْآنَ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ، وَحَفِظْتُ (الْمُوَطَّأَ) وَأَنَا ابْنُ عَشْرٍ».
وَلْنَنْظُرْ إِلَى أَبْنَاءِ الْعَشْرِ وَالْعِشْرِينَ مَاذَا يَحْفَظُونَ؟ وَبِمَاذَا يَعْتَنُونَ؟
وَمَا زَالَ التَّفَوُّقُ يُحَالِفُ الْفَتَى الْقُرَشِيَّ الشَّافِعِيَّ حَتَّى تَأَهَّلَ لِلْفَتْوَى وَهُوَ يُنَاهِزُ الْحُلُمَ، حَتَّى قَالَ لَهُ شَيْخُهُ مُفْتِي مَكَّةَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ: «أَفْتِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؛ فَقَدْ وَاللَّهِ آنَ لَكَ أَنْ تُفْتِيَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً».
وَلَمْ يَكُنِ الشَّافِعِيُّ يَأْنَفُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِلْمَ مِنْ أَقْرَانِهِ أَوْ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي السِّنِّ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ غَايَتُهُ، وَالْفَائِدَةَ هَدَفُهُ، فَأَنَّى وَجَدَهَا أَخَذَهَا، وَلَا يَعْنِيهِ سِنُّ مَنْ يَطْلُبُهَا مِنْهُ أَوْ مَنْزِلَتُهُ، وَهَذَا الَّذِي صَيَّرَهُ إِمَامَ الدُّنْيَا فِي زَمَنِهِ؛ وَلِذَا لَمْ يَأْنَفْ أَنْ يَأْخُذَ عَنْ تِلْمِيذِهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَكَانَ غُلَامًا صَغِيرًا، وَقَدْ تَوَسَّمَ فِي الشَّافِعِيِّ مَا لَمْ يَتَوَسَّمْ فِيهِ غَيْرُهُ، فَكَانَ الطَّلَبَةُ يَلْزَمُونَ حَلَقَاتِ الْكِبَارِ الْمَشَاهِيرِ، وَكَانَ ابْنُ حَنْبَلٍ يَلْزَمُ الشَّافِعِيَّ وَهُوَ لَمْ يَشْتَهِرْ بَعْدُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا، وَلَمَّا عَاتَبَهُ بَعْضُ أَقْرَانِهِ فِي تَرْكِ الْكِبَارِ، وَالْجُلُوسِ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَهُوَ لَا يَزَالُ فَتًى طَرِيًّا قَالَ أَحْمَدُ رَدًّا عَلَى الْمُعَاتِبِ: «إِنْ فَاتَكَ أَمْرُ هَذَا الْفَتَى، أَخَافُ أَنْ لَا تَجِدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْقَهَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْفَتَى الْقُرَشِيِّ. فَقِيلَ لَهُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ».
فَرَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ وَابْنَ حَنْبَلٍ، كَانَا غُلَامَيْنِ يَجْلِسُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، وَيَتَزَاحَمُ الطَّلَبَةُ عَلَى الشُّيُوخِ الْكِبَارِ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ سَيَكُونَانِ إِمَامَيْنِ كَبِيرَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ، يَتَنَاقَلُ النَّاسُ عِلْمَهُمَا قُرُونًا كَثِيرَةً.
هَذَا؛ وَإِنَّ آفَةَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ الْعُجْبُ وَالْغُرُورُ وَالِاعْتِدَادُ بِالنَّفْسِ، خَاصَّةً عِنْدَ الْإِحْسَاسِ بِالتَّمَيُّزِ عَلَى الْأَقْرَانِ، فَتُمْحَقُ بَرَكَةُ الْعِلْمِ، وَيُطْفَأُ نُورُهُ، وَيُسَخِّرُهُ صَاحِبُهُ فِي الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ وَالِانْتِصَارِ لِلنَّفْسِ، وَإِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى طَرْحِ الْخُصُومِ فِي الْمُنَاظَرَاتِ، وَهَذَا مِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ. وَظُهُورُهُ فِي الشَّبَابِ كَثِيرٌ، وَهُوَ سَبَبٌ لِلنِّزَاعَاتِ وَالْمُنَاكَفَاتِ الَّتِي تَنْتَهِي مَجَالِسُهَا فِي الْغَالِبِ بِوَغْرِ الصُّدُورِ، وَفَسَادِ الْقُلُوبِ، وَتَرَاكُمِ الْأَحْقَادِ، فَتَنْزِعُ نُفُوسُ أَصْحَابِهَا إِلَى الْعُلُوِّ عَلَى النَّاسِ، وَالْغُلُوِّ فِي الْأَحْكَامِ وَالطِّبَاعِ. وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ سَبَبًا لِلتَّوَاضُعِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، وَالتَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ، وَنُصْرَةِ الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ.
وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَجْتَنِبُ الْمِرَاءَ وَيَقُولُ: «الْمِرَاءُ فِي الدِّينِ يُقَسِّي الْقَلْبَ، وَيُورِثُ الضَّغَائِنَ». وَيَقُولُ: «بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَادِ». فَأَيْنَ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ مَنْ يَلُوكُونَ أَعْرَاضَ الْعُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالْمُصْلِحِينَ، وَيَرْمُونَهُمْ بِالْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ، وَيَسْعَوْنَ فِيهِمْ بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ؛ لِيُسْقِطُوهُمْ عِنْدَ النَّاسِ. وَمَا أَسْقَطُوا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ، وَأَهْلَكُوهَا وَأَوْبَقُوهَا. فَعَلَى كُلِّ مُتَعَلِّمٍ أَنْ يَأْخُذَ بِوَصِيَّةِ هَذَا الْإِمَامِ، وَيُجَانِبَ الْعُدْوَانَ عَلَى الْعِبَادِ.
وَرَغْمَ شُهْرَةِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُنَاظَرَاتِ؛ لِقُوَّةِ حُجَّتِهِ، وَحُضُورِ أَدِلَّتِهِ، وَبَلَاغَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ؛ فَإِنَّهُ مَا كَانَ يُحِبُّ الِانْتِصَارَ لِنَفْسِهِ، وَيَقُولُ: «وَاللَّهِ، مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ». وَمِنْ مَوَاقِفِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَكَاهُ يُونُسُ الصَّدَفِيُّ بِقَوْلِهِ: «مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ، نَاظَرْتُهُ يَوْمًا فِي مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ افْتَرَقْنَا، وَلَقِيَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، أَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ نَكُونَ إِخْوَانًا وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ».
وَمَا كَانَتْ غَايَتُهُ إِلَّا أَنْ يَنْفَعَ النَّاسَ بِالْعِلْمِ، وَفِي هَذَا يَقُولُ: «وَدِدْتُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ أَعْلَمُهُ تَعَلَّمَهُ النَّاسُ أُوجَرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْمَدُونِي».
هَذَا الشَّابُّ حَفِظَ شَبَابَهُ فِي الْعِلْمِ فَسَادَ، وَسَخَّرَ مَوَاهِبَهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ فَعَلَا صِيتُهُ، وَرُفِعَ ذِكْرُهُ، وَبَقِيَ أَثَرُهُ، وَخُلِّدَ عِلْمُهُ، فَمَلَايِينُ الْمُسْلِمِينَ يَنْتَفِعُونَ بِعِلْمِهِ مُنْذُ وَفَاتِهِ قَبْلَ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ قَرْنًا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا وَإِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، حَتَّى إِنَّ الْإِمَامَ الذَّهَبِيَّ خَتَمَ تَرْجَمَتَهُ لَهُ بِقَوْلِهِ: «فَرَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ، وَأَيْنَ مِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَاللَّهِ فِي صِدْقِهِ وَشَرَفِهِ وَنُبْلِهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ، وَفَرْطِ ذَكَائِهِ، وَنَصْرِهِ لِلْحَقِّ، وَكَثْرَةِ مَنَاقِبِهِ» ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الْحَدِيدِ: 21].
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [الْبَقَرَةِ: 198].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: يُحَاوِلُ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ كُفَّارٍ وَمُنَافِقِينَ وَبِكُلِّ وَسِيلَةٍ مُمْكِنَةٍ صَرْفَ شَبَابِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ وَيَنْفَعُ أُمَّتَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. يَصْرِفُونَهُمْ إِلَى اللَّهْوِ وَالْعَبَثِ وَاللَّذَّةِ الْعَاجِلَةِ، وَيَصْنَعُونَ لَهُمْ قُدْوَاتٍ سَيِّئَةً لِيَقْتَفُوا أَثَرَهَا، لَيْسَ لَهَا مِنَ الْإِنْجَازِ إِلَّا شُهْرَتُهَا فِي مَيَادِينِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْعَبَثِ. وَهُوَ مَا يُكَرِّسُهُ الْإِعْلَامُ فِي وِجْدَانِ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ وَشَبَابِهِمْ وَفَتَيَاتِهِمْ.
يَجِبُ عَلَى الشَّبَابِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا يَصْنَعُهُ الْإِعْلَامُ السَّاقِطُ لَهُمْ مِنْ قُدْوَاتٍ مَا هِيَ إِلَّا قُدْوَاتٌ فِي الشَّرِّ وَالرَّذِيلَةِ، وَعَدَمِ إِنْتَاجِ شَيْءٍ إِلَّا الْأَمْرَاضَ النَّفْسِيَّةَ، وَالْعَاهَاتِ الْمُسْتَدِيمَةَ، وَالسُّمْعَةَ السَّيِّئَةَ. عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَرْحَلَةَ الشَّبَابِ هِيَ الْمَرْحَلَةُ الذَّهَبِيَّةُ لِلْإِنْجَازِ الْمُثْمِرِ، وَإِذَا ضَاعَتْ فِي اللَّهْوِ وَالْعَبَثِ ضَاعَ مَا بَعْدَهَا، فَصَارَ صَاحِبُهَا مُجَرَّدَ رَقْمٍ بَشَرِيٍّ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي عَالَمِ الْمَعَارِفِ وَالْمُنْجَزَاتِ. عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ أُمَّتَهُمْ فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ، وَإِلَى كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ أَوْقَاتِهِمُ الضَّائِعَةِ، وَإِلَى كُلِّ جُهْدٍ يَبْذُلُونَهُ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَأَعْظَمُ الْغَايَاتِ اسْتِنْقَاذُ الْبَشَرِ مِنْ ضَلَالِ الْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، وَإِخْرَاجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَتِلْكَ هِيَ مُهِمَّةُ الرُّسُلِ الَّتِي بُعِثُوا بِهَا، وَعَاشُوا لِأَجْلِهَا، وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهَا.
وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ وَالْمُعَلِّمِينَ أَنْ يَسْتَخْرِجُوا سِيَرَ الشَّبَابِ النَّابِهِ فِي تُرَاثِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجْعَلُوهَا أُنْمُوذَجًا لِمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ شَبَابُ الْمُسْلِمِينَ وَفَتَيَاتُهُمْ؛ لِمُقَاوَمَةِ الْمَسْخِ الْإِعْلَامِيِّ الرَّهِيبِ الَّذِي يَسْعَى بِبَرَامِجِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ لِطَمْسِ قُدْوَاتِ الْإِسْلَامِ، وَتَرْبِيَةِ الشَّبَابِ وَالْفَتَيَاتِ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَبَثِ وَاللَّهْوِ الْحَرَامِ ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الْمُنَافِقُونَ: 4].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
من أخبار الشباب 6.doc
من أخبار الشباب 6.doc
من أخبار الشباب 6 مشكولة.doc
من أخبار الشباب 6 مشكولة.doc
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق