من أحيا ليله بآية
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
19/9/1437
الْحَمْدُ لِلهِ الْعَفُوِّ الْغَفَّارِ، الْكَرِيمِ الْوَهَّابِ؛ أَفَاضَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ خَيْرِهِ وَبِرِّهِ، وَعَمَّهُمْ بِعَفْوِهِ وَفَضْلِهِ، وَخَصَّ المُؤْمِنِينَ بِرَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ؛ فَلِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ رَبِّهِ مَكَانَتُهُ وَمَنْزِلَتُهُ، حَتَّى قَالَ سُبْحَانَهُ: «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَعْطَى المُؤْمِنِينَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَأَعْظَمَ لَهُمْ فِيهَا الْأَجْرَ، وَخَصَّ بِهَا الْعَشْرَ؛ «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، فَاللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَفُوزُ بِهَا، فَيَقُومُهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَاكْتُبْ لَنَا فِيهَا الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ وَالمَغْفِرَةَ وَالْعِتْقَ مِنَ النَّارِ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَاوَمَ عَلَى اعْتِكَافِ عَشْرِ رَمَضَانَ؛ تَحَرِّيًا لِلَيْلَةٍ هِيَ دُرَّةُ لَيَالِي الزَّمَانِ، فَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِ فِيهَا لُزُومُ المَسْجِدِ لِلِاعْتِكَافِ، وَإِحْيَاؤُهَا بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْقُرْآنِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمُرُوا هَذِهِ الْعَشْرَ؛ فَإِنَّ لَيَالِيَهَا أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَفِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ مَا لَوْ قَامَ الْعَبْدُ الْعَامَ كُلَّهُ لِأَجْلِهَا لَكَانَتْ تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، فَجِدُّوا وَاجْتَهِدُوا؛ فَإِنَّ نَبِيَّنَا وَقُدْوَتَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ «إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ».
أَيُّهَا النَّاسُ: لِصَلَاةِ اللَّيْلِ حَلَاوَةٌ يَعْرِفُهَا أَهْلُهَا، وَلِآيَاتِ الْقُرْآنِ لَذَّةٌ يُدْرِكُهَا مُتَدَبِّرُهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ اللَّيْلُ بِسُكُونِهِ وَظَلَامِهِ وَخُشُوعِهِ مَعَ آيَاتٍ تُتْلَى بِتَدَبُّرٍ؛ طَرِبَتِ الْقُلُوبُ وَاشْرَأَبَّتْ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ تَهَجُّدٍ فَقَدِ اكْتَمَلَتْ أَسْبَابُ اللَّذَّةِ، وَاجْتَمَعَتْ مُوجِبَاتُ المَغْفِرَةِ. وَأَهْلُ قِيَامِ اللَّيْلِ يُدْرِكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ، وَلَا يَعْدِلُونَ بِرَكْعَتَيْ تَهَجُّدٍ مُلْكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا. وَمَنْ نَظَرَ فِي أَقَاوِيلِ السَّلَفِ مِمَّنْ أَدْمَنُوا قِيَامَ اللَّيْلِ اسْتَبَانَ لَهُ الْأَمْرُ، قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «لَأَهْلُ الطَّاعَةِ بِلَيْلِهِمْ أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ بِلَهْوِهِمْ، وَلَوْلَا اللَّيْلُ مَا أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا».
وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي قَلْبِي أَلَذَّ عِنْدِي مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ»، وَكَانَ هَارُونُ بْنُ رِئَابٍ إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ قَامَ وَهُوَ مَسْرُورٌ، وَقَالَ سُفْيَانُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ فَرِحْتُ وَإِذَا جَاءَ النَّهَارُ حَزِنْتُ»، وَقَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: «لِي أَرْبَعُونَ سَنَةً مَا غَمَّنِي إِلَّا طُلُوعُ الْفَجْرِ». أُولَئِكَ قَوْمٌ تَطْرَبُ قُلُوبُهُمْ فِي اللَّيْلِ بِمُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَتِلَاوَةِ آيَاتِهِ، وَالْإِلْحَاحِ فِي دُعَائِهِ.
وَمِنْ أَعْجَبِ مَا يَدُلُّ عَلَى لَذَّتِهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي اللَّيْلِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ رُبَّمَا صَلَّى رَاتِبَةَ الْعِشَاءِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ تَطْوِيلَهَا، فَتَعْرِضُ لَهُ آيَةٌ تَسْتَوْقِفُهُ فَلَا يُبَارِحُهَا إِلَّا وَقْتَ الْفَجْرِ، فَرَاحَ لَيْلُهُ كُلُّهُ فِي آيَةٍ. وَرُبَّمَا بَدَأَ السُّورَةَ يُرِيدُ نِهَايَتَهَا فَتَحْبِسُهُ آيَةٌ مِنْهَا فَيَظَلُّ لَيْلَهُ يُرَدِّدُهَا لَا يَتَجَاوَزُهَا. وَهَذَا وَقَعَ لِسَلَفِنَا الصَّالِحِ، وَتَكَرَّرَ مِرَارًا، بَدْءًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَحَابَتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّدَ آيَةً حَتَّى أَصْبَحَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَكَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى تَرْدِيدِهَا دُعَاءَهُ لِأُمَّتِهِ؛ رَأْفَةً بِهَا، وَشَفَقَةً عَلَيْهَا؛ فَظَلَّ لَيْلَهُ كُلَّهُ يَدْعُو لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ، يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ، فَلَمَّا أَصْبَحَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا زِلْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ، تَرْكَعُ بِهَا وَتَسْجُدُ بِهَا قَالَ: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَمَنْ مَرَّ بِآيَةِ دُعَاءٍ فِي صَلَاةِ نَافِلَةٍ شُرِعَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَا، كَمَا صَلَّى ابْنُ مَسْعُودٍ فَلَمَّا بَلَغَ {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] جَعَلَ يُرَدِّدُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَدْعُو بِهَا.
وَقَدْ يَحْمِلُهُ عَلَى تَرْدِيدِ آيَةٍ: الِاعْتِبَارُ بِهَا، فَتُؤَثِّرُ فِي قَلْبِهِ إِذَا قَرَأَهَا فَلَا يُبَارِحُهَا؛ لِأَثَرِهَا فِيهِ، فَيَظَلُّ اللَّيْلَ كُلَّهُ يَسْتَصْلِحُ بِهَا قَلْبَهُ؛ كَمَا جَاءَ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ، أَوْ قَرُبَ أَنْ يُصْبِحَ، يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَبْكِي {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]. وَجَاءَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أَنَّهُ قَرَأَهَا فَظَلَّ يُرَدِّدُهَا إِلَى الْفَجْرِ لَمْ يَتَجَاوَزْهَا.
وَقَدْ يُرَدِّدُ الْآيَةَ يُذَكِّرُ نَفْسَهُ بِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَمَا يُجَاوِزُهَا مِنْ كَثْرَةِ مَا يَرَى مِنَ النِّعَمِ؛ كَمَا رَدَّدَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] إِلَى الصُّبْحِ، فَلَمَّا سَأَلُوهُ لِمَ رَدَّدَهَا؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا مُعْتَبَرًا، مَا إِنْ تَرْفَعْ طَرْفًا، وَلَا تَرُدُّهُ إِلَّا وَقَعَ عَلَى نِعْمَةٍ، وَمَا لَا نَعْلَمُ مِنْ نِعَمِ اللهِ أَكْثَرُ.
وَقَدْ يَمُرُّ المُصَلِّي بِآيَةٍ فِيهَا حَدِيثُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ مَكَانَهُمْ، وَيَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، فَهُوَ أَثْنَاءَ صَلَاتِهِ قَدْ دَخَلَ جَنَّةَ الْآخِرَةِ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، أَوْ يَسْتَعِيذُ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ فَلَا يَقْطَعُ اسْتِعَاذَتَهُ خَوْفًا مِنْ حَرِّهَا، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الطُّورِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي مُحَاوَرَتِهِمْ لِبَعْضِهِمْ يَقُولُونَ: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 26 - 28]. هَذِهِ الْآيَاتُ كَانَتْ تَسْتَوْقِفُ عَدَدًا مِنَ السَّلَفِ، فَيَظَلُّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يُرَدِّدُهَا وَلَا يُبَارِحُهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنْ عبَّادِ بْنِ حَمْزَةَ، قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى أَسْمَاءَ وَهِيَ تُصَلِّي، فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27] فَاسْتَعَاذَتْ، فَقُمْتُ وَهِيَ تَسْتَعِيذُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ أَتَيْتُ السُّوقَ ثُمَّ رَجَعْتُ وَهِيَ فِي بُكَائِهَا تَسْتَعِيذُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَذَهَبْتُ إِلَى السُّوقِ ثُمَّ رَجَعْتُ وَهِيَ تُكَرِّرُهَا {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} وَهِيَ تُصَلِّي».
وَجَاءَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ صَلَّى رَاتِبَةَ الْعِشَاءِ بِالطُّورِ فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ ظَلَّ يُرَدِّدُهَا إِلَى الْفَجْرِ.
وَعَنْ صَفْوَانِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: قَامَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فِي المَسْجِدِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] فَمَا خَرَجَ مِنْهَا حَتَّى سَمِعَ أَذَانَ الصُّبْحِ.
وَكَانَ الضَّحَّاكُ إِذَا تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] رَدَّدَهَا إِلَى السَّحَرِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُرَدِّدُ هَذِهِ الْآيَةَ {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] حَتَّى أَصْبَحَ.
أُولَئِكَ قَوْمٍ مَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِآيَةٍ، وَلَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ، وَلَكِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ لمَّا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَأَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ اسْتَوْقَفَتْهُ آيَةٌ لِمَعْنًى فِيهَا حَرَّكَ قَلْبَهُ، فَلَمَّا رَأَى حَرَكَةَ قَلْبِهِ عِنْدَهَا مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُجَاوِزَهَا حَتَّى أَصْبَحَ، وَإِلَّا فَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَظَلَّ اللَّيْلَ كُلَّهُ وَاقِفًا لَوْلَا أَنَّ حَلَاوَةَ الْآيَةِ الَّتِي اسْتَوْقَفَتْهُ وَمَا فِيهَا مِنْ مَعْنًى أَثَّرَ فِي نَفْسِهِ أَنْسَاهُ نَفْسَهُ وَتَعَبَهُ، وَأَنْسَاهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَأَمْضَى لَيْلَهُ فِي آيَتِهِ يُكَرِّرُهَا لَا يُبَارِحُهَا.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُوقِظَ قُلُوبَنَا بِالْقُرْآنِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ رَبِيعَهَا وَسَعَادَتَهَا وَأُنْسَهَا، وَأَنْ يُغْنِيَنَا بِهِ عَنِ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَسَائِرِ الْكَلَامِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَفَرِّغُوا أَنْفُسَكُمْ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ لِمَا يُرْضِي رَبَّكُمْ، وَتَزَوَّدُوا مِنَ الطَّاعَاتِ مَا تَجِدُونَهُ أَمَامَكُمْ؛ فَإِنَّ فِي الْعَشْرِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، لَا يُرَدُّ عَنْهَا إِلَّا مَصْرُوفٌ، وَلَا يُفَرِّطُ فِيهَا إِلَّا مَخْذُولٌ، وَلَا يُفَوِّتُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: فِي هَذِهِ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ الْعَظِيمَةِ يُتْلَى الْقُرْآنُ كَثِيرًا، وَيُسْمَعُ تَرْتِيلُهُ فِي المَسَاجِدِ، وَهِيَ فُرْصَةٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ سِيرَةَ السَّلَفِ فِي اللَّذَّةِ بِالْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ. تِلْكَ اللَّذَّةُ الَّتِي تَصِلُ بِأَحَدِهِمْ إِلَى أَنْ يُرَدِّدَ آيَةً لَيْلَهُ كُلَّهُ حَتَّى يُصْبِحَ.
وَلَنْ يَبْلُغَ عَبْدٌ حَلَاوَةَ التَّهَجُّدِ بِالْقُرْآنِ إِلَّا بِمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى حُضُورِ الْقِيَامِ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ، وَالصَّلَاةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا، مَعَ الِاجْتِهَادِ فِي التَّدَبُّرِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ، وَفَهْمِ مَا يَقْرَأُ وَيَسْمَعُ مِنْ آيَاتٍ، وَأَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ هُوَ المُخَاطَبَ بِالْآيَاتِ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ، فَمَنْ تَذَوَّقَ حَلَاوَةَ الْقُرْآنِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَلَنْ يُفَرِّطَ فِيهَا الْعُمْرَ كُلَّهُ، وَلَنْ يُسَاوِمَ عَلَيْهَا بِأَيِّ شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَمَالَهُ؛ فَإِنَّ لَذَّةَ مُنَاجَاةِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لَا تَعْدِلُهَا لَذَّةً، وَلَا حَلَاوَةَ لِأَيِّ شَيْءٍ مَهْمَا عَظُمَ تَبْلُغُهَا أَوْ تُدَانِيهَا، مَعَ مَا يَجِدُهُ صَاحِبُهَا مِنِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، وَسُرُورِ الْقَلْبِ، وَالنَّشَاطِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْأُخْرَى، وَحَلَاوَةٍ فِي صَلَاةِ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَهَذَا كُلُّهُ وَغَيْرُهُ مِنْ بَرَكَةِ الْأُنْسِ بِاللهِ تَعَالَى فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَمُنَاجَاتِهِ وَدُعَائِهِ.
فَلْنُرَوِّضْ أَنْفُسَنَا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي المُبَارَكَةِ لِمَا بَعْدَهَا؛ لِيَكُونَ الْقُرْآنُ رَفِيقَنَا فِي كُلِّ لَيْلٍ مَا دَامَ لَنَا فِي الدُّنْيَا أَعْمَارٌ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
من أحيا ليله بآية.doc
من أحيا ليله بآية.doc
من أحيا ليله بآية-مشكولة.doc
من أحيا ليله بآية-مشكولة.doc
المشاهدات 2501 | التعليقات 4
من أحيا ليله بآية
19/9/1437
الحمد لله العفو الغفار، الكريم الوهاب؛ أفاض على عباده من خيره وبره، وعمهم بعفوه وفضله، وخص المؤمنين برحمته ومغفرته؛ فللمؤمن عند ربه مكانته ومنزلته، حتى قال سبحانه "وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ" وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أعطى المؤمنين ليلة القدر خيرا من ألف شهر، وأعظم لهم فيها الأجر، وخص بها العشر؛ «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» فاللهم اجعلنا ممن يفوز بها، فيقومها إيمانا واحتسابا، واكتب لنا فيها العفو والرحمة والمغفرة والعتق من النار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ داوم على اعتكاف عشر رمضان؛ تحريا لليلة هي درة ليالي الزمان، فكان من سنته فيها لزوم المسجد للاعتكاف، وأحياؤها بالصلاة والدعاء والقرآن، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعمروا هذه العشر؛ فإن لياليها أفضل الليالي، وفيها من الخير والبركة ما لو قام العبد العام كله لأجلها لكانت تستحق ذلك، فجدوا واجتهدوا فإن نبينا وقدوتنا محمدا صلى الله عليه وسلم كان «إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ».
أيها الناس: لصلاة الليل حلاوة يعرفها أهلها، ولآيات القرآن لذة يدركها متدبرها، فإذا اجتمع الليل بسكونه وظلامه وخشوعه مع آيات تتلى بتدبر؛ طربت القلوب واشرأبت، فإذا كان ذلك في صلاة تهجد فقد اكتملت أسباب اللذة، واجتمعت موجبات المغفرة. وأهل قيام الليل يدركون معنى ذلك، ولا يعدلون بركعتي تهجد ملك الدنيا بأجمعها. ومن نظر في أقاويل السلف ممن أدمنوا قيام الليل استبان له الأمر، قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: "لأهل الطاعة بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا".
وقال ثابت البناني رحمه الله تعالى: "ما شيء أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام الليل" وكان هارون بن رئاب إذا قام للتهجد قام وهو مسرور، وقال سفيان رحمه الله تعالى: "إذا جاء الليل فرحت وإذا جاء النهار حزنت" وقال بعض الصالحين: "لي أربعون سنة ما غمني إلا طلوع الفجر". أولئك قوم تطرب قلوبهم في الليل بمناجاة الله تعالى، والأنس به، وتلاوة آياته، والإلحاح في دعائه.
ومن أعجب ما يدل على لذتهم بالقرآن في الليل أن الواحد منهم ربما صلى راتبة العشاء وهو لا يريد تطويلها، فتعرض له آية تستوقفه فلا يبارحها إلا وقت الفجر، فراح ليله كله في آية. وربما بدأ السورة يريد نهايتها فتحبسه آية منها فيظل ليله يرددها لا يتجاوزها. وهذا وقع لسلفنا الصالح، وتكرر مرارا، بدءا من النبي صلى الله عليه وسلم فصحابته رضي الله عنهم فالتابعين لهم بإحسان.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّدَ آيَةً حَتَّى أَصْبَحَ " رواه أحمد، وكان الحامل له على ترديدها دعاؤه لأمته؛ رأفة بها، وشفقة عليها؛ فظل ليله كله يدعو لهم بهذه الآية، كما جاء مفسرا في حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ، يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ، فَلَمَّا أَصْبَحَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا زِلْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ، تَرْكَعُ بِهَا وَتَسْجُدُ بِهَا قَالَ: "إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا" رواه أحمد. ومن مر بآية دعاء في صلاة نافلة شرع له أن يدعو بها، كما صلى ابن مسعود فلما بلغ {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] جعل يرددها، والظاهر أنه يدعو بها.
وقد يحمله على ترديد آية: الاعتبار بها، فتؤثر في قلبه إذا قرأها فلا يبارحها؛ لأثرها فيه، فيظل الليل كله يستصلح بها قلبه؛ كما جاء عن تميم الداري رضي الله عنه أنه قام ليلة حتى أصبح، أو قرب أن يصبح، يقرأ آية من كتاب الله عز وجل فيركع ويسجد ويبكي {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]. وجاء عن الربيع بن خثيم رحمه الله تعالى أنه قرأها فظل يرددها إلى الفجر لم يتجاوزها.
وقد يردد الآية يذكر نفسه بنعم الله تعالى عليه، فما يجاوزها من كثرة ما يرى من النعم؛ كما ردد الحسن البصري {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] إلى الصبح، فلما سألوه لم رددها، قال: إن فيها معتبرا، ما إن ترفع طرفا، ولا ترده إلا وقع على نعمة، وما لا نعلم من نعم الله أكثر.
وقد يمر المصلي بآية فيها حديث أهل الجنة، فيجعل نفسه مكانهم، ويقول بقولهم، فهو أثناء صلاته قد دخل جنة الآخرة، ولا يريد أن يخرج منها، أو يستعيذ من نار الآخرة فلا يقطع استعاذته خوفا من حرها، كما جاء في سورة الطور أن أهل الجنة في محاورتهم لبعضهم يقولون {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 26 - 28]. هذه الآيات كانت تستوقف عددا من السلف، فيظل الواحد منهم يرددها ولا يبارحها، ومن ذلك ما جاء عَنْ عبَّاد بن حمزة، قَالَ:« دَخَلْتُ عَلَى أَسْمَاءَ وَهِيَ تُصَلِّي، فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27] فَاسْتَعَاذَتْ، فَقُمْتُ وَهِيَ تَسْتَعِيذُ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ أَتَيْتُ السُّوقَ ثُمَّ رَجَعْتُ وَهِيَ فِي بُكَائِهَا تَسْتَعِيذُ» وفي رواية: «فذهبت إلى السوق ثم رجعت وهي تكررها {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} وهي تصلي».
وجاء عن الإمام أبي حنيفة أنه صلى راتبة العشاء بالطور فلما بلغ هذه الآية ظل يرددها إلى الفجر.
وعن صفوان بن سليم قال: قام تميم الداري في المسجد بعد أن صلى العشاء فمر بهذه الآية {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] فما خرج منها حتى سمع أذان الصبح.
وكان الضحاك إذا تلا قوله تعالى {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] رددها إلى السحر.
وقال يحيى بن عبد الرحمن: سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] حتى أصبح.
أولئك قوم ما كان الواحد منهم يظن أنه لا يقوم إلا بآية، ولم يظن أنه لا يصلي إلا ركعة أو ركعتين، ولكن الواحد منهم لما دخل في الصلاة، وأخذ في القراءة استوقفته آية لمعنى فيها حرك قلبه، فلما رأى حركة قلبه عندها ما استطاع أن يجاوزها حتى أصبح، وإلا فمن يستطيع أن يظل الليل كله واقفا لولا أن حلاوة الآية التي استوقفته وما فيها من معنى أثر في نفسه أنساه نفسه وتعبه، وأنساه الدنيا وما فيها، فأمضى ليله في آيته يكررها لا يبارحها.
نسأل الله تعالى أن يوقظ قلوبنا بالقرآن، وأن يجعله ربيعها وسعادتها وأنسها، وأن يغنينا به عن القيل والقال وسائر الكلام، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وفرغوا أنفسكم في هذه العشر لما يرضي ربكم، وتزودوا من الطاعات ما تجدونه أمامكم؛ فإن في العشر ليلة القدر خير من ألف شهر، لا يرد عنها إلا مصروف، ولا يفرط فيها إلا مخذول، ولا يفوت خيرها إلا محروم.
أيها المسلمون: في هذه الليالي الفاضلة العظيمة يتلى القرآن كثيرا، ويسمع ترتيله في المساجد، وهي فرصة لمن أراد أن يسير سيرة السلف في اللذة بالقرآن وآيته. تلك اللذة التي تصل بأحدهم إلى أن يردد آية ليله كله حتى يصبح.
ولن يبلغ عبد حلاوة التهجد بالقرآن إلا بمجاهدة النفس على حضور القيام في هذه العشر أول الليل وآخره، والصلاة فيما بينهما، مع الاجتهاد في التدبر وحضور القلب، وفهم ما يقرأ ويسمع من آيات، وأن يجعل نفسه هو المخاطب بالآيات دون سائر الناس، فمن تذوق حلاوة القرآن في جوف الليل فلن يفرط فيها العمر كله، ولن يساوم عليها بأي شيء ولو كان أهله وولده وماله؛ فإن لذة مناجاة الرب سبحانه لا تعدلها لذة، ولا حلاوة لأي شيء مهما عظم تبلغها أو تدانيها، مع ما يجده صاحبها من انشراح الصدر، وسرور القلب، والنشاط في الأعمال الصالحة الأخرى، وحلاوة في صلاة الفرائض والنوافل، وهذا كله وغيره من بركة الأنس بالله تعالى في جوف الليل، ومناجاته ودعائه.
فلنروض أنفسنا في هذه الليالي المباركة لما بعدها؛ ليكون القرآن رفيقنا في كل ليل ما دام لنا في الدنيا أعمار {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
وصلوا وسلموا على نبيكم...
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
يبدو أن مشكلة الملفات لم تحل إلى الآن لذا لم تفتح ملفات الخطبة وهي وورد 2003 لذا سأنزل النسخة المهملة من الخطبة عقب هذا المربع ونسأل الله تعالى أن يلهم الإدارة معالجة هذا الخلل الفني الذي طال أمده.
تعديل التعليق