مِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَأَخْطَارِهَا
مبارك العشوان 1
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أَيُّهَا النَّاسُ وَأَطِيعُوهُ، وَحَاذِرُوا غَضَبَهُ وَلَا تَعْصُوهُ.
اِتَّقُوا اللهَ، وَخُذُوا بِأَسْبَابِ رِضَاهُ وَإِحْسَانِهِ، وَاحْذَرُوا أَسْبَابَ سَخَطِهِ وَعُقُوبَتِهِ؛ فَقَدْ وَعَدَ مَنْ أَطَاعَهُ بِالفَوزِ العَظِيمِ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ عَصَاهُ بِالخُسْرَانِ المُبِينِ وَالعَذَابِ المُهِينِ، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } [النساء 13- 14]
وَقَالَ تَعَالَى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } [الفتح 17]
عِبَادَ اللهِ: وَكَمَا أَنَّ الذُّنُوبَ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَاتِ الأُخْرَوِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا سَبَبٌ لِلْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ وَمَا مِنْ شَرٍّ وَبَلَاءٍ وَفِتْنَةٍ، إِلَّا وَسَبَبُهُ ذُنُوبُ العِبَادِ وَمَعَاصِيهِمْ، وَبُعْدُهُمْ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجُرْأَتُهُمْ عَلَى حُدُودِهِ.
فَبِالمَعَاصِي تَزُولُ النِّعَمُ وَبِالمَعَاصِي تَحِلُّ النِّقَمُ وَبِالمَعَاصِي يَتَعَرَّضُ النَّاسُ لِغَضَبِ اللهِ جَلَّ وَعَلَا.
وَمِنْ جَرَّاءِ المَعَاصِي مَا تُصَابُ بِهِ المُجْتَمَعَاتُ مِنَ الأَعَاصِيرِ وَالزَّلَازِلِ وَالفَيَضَانَاتِ وَقِلَّةِ الأَمْطَارِ، وَمَا يُصَابُونَ بِهِ مِنَ الأَمْرَاضِ المُسْتَعْصِيَةِ، وَالحُرُوبِ المُدَمِّرَةِ.
كُلَّ ذَلِكَ سَبَبُهُ الذُّنُوبِ؛ قَالَ تَعَالَى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى30 ]
وَهَلْ أُهْلِكَتِ الأُمَمُ السَّابِقَةُ إِلَّا بِذُنُوبِهِمْ؟!
قَالَ اللهُ تَعَالَى: { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[العنكبوت40 ]
أَلَا فَلْيَكُنْ لَنَا فِيمَنْ مَضَى عِبْرَةً وَعِظَةً؛ فَإِنَّ العَاقِلَ مَنْ يَتَّعِظُ بِغَيْرِهِ.
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ جَرَّاءِ الذُّنُوبِ؛ مَا يَحْصُلُ مِنْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ، وَمَحْقٍ لِلْبَرَكَاتِ، وَهَلَاكٍ لِلْأَمْوَالِ، وَغَلَاءٍ فِي الأَسْعَارِ؛ قَالَ تَعَالَى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الروم 41]
قَالَ ابنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَيْ: بَانَ النَّقْصُ فِي الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ صَلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ.
المَعَاصِي وَالعُصَاةُ وَالفُجَّارِ فِي أَرْضٍ شَرٌّ عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا، وَزَوَالُهُمْ خَيْرٌ لَهَا وَلِأَهْلِهَا؛ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ: ( وَالعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ وَالبِلاَدُ وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ ) [ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ]
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ: أَنَّهَا تُعَسِّرُ الأُمُورَ؛ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنِّي لَأَعْصِي اللهَ فَأَرَى ذَلِكَ فِي خُلُقِ دَابَّتِي وَامْرَأَتِي.
وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ: أَنَّهَا تَجُرُّ إِلَى أَمْثَالِهَا، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إِنَّ مِنْ ثَوَابِ الحَسَنَةِ؛ الحَسَنَةُ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ؛ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا.
وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَخَطَرِهَا: نَقْصُ الإِيمَانِ؛ فَمِنَ المَعْلُومِ مِنْ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ أَنَّ الإِيمَانَ: قَولٌ وَعَمَلٌ وَاعْتِقَادٌ، وَأَنَّهُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالمَعْصِيَةِ.
وَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَأَعْظَمِ أَخْطَارِهَا: ضَرَرُهَا عَلَى القُلُوبِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ السُّمُومِ عَلَى الأَبْدَانِ؛ كَيْفَ لَا وَهِيَ تُمِيتُ القُلُوبَ وَتُغَطِّيهَا، فَلَا يَزَالُ العَبْدُ يَرْتَكِبُ الذَّنْبَ تِلْوَ الذَّنْبِ حَتَّى يُصْبِحَ قَلْبُهُ مَيِّتًا مُظْلِمًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، تَقْرَعُهُ المَوَاعِظُ فَلَا يَتَّعِظُ، وَالعِبَرُ فَلَا يَعْتَبِرُ وَالزَّوَاجِرُ فَلَا يَنْزَجِرُ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين 14]
قَالَ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللهُ: الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَعْمَى القَلْبُ فَيَمُوتُ.
أَعَاذَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَمَوْتِ القُلُوبِ.
وَبَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيِ وَالذَّكَرِ الْحَكِيمِ وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلُّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ رَحِمَكُمُ اللهُ؛ وَأَقْلِعُوا عَنْ صَغِيرِ الذُّنُوبِ وَكَبِيرِهَا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، وَالمُجَاهَرَةِ بِهَا.
لَا تَنْظُرْوا لِصِغَرِ مَعْصِيَةٍ؛ وَلَكِنْ انظُرُوا إِلَى عَظَمَةِ مَنْ يُعْصَى.
ثُمَّ لَا تَغْتَرَّوا بِإِمْهَالِ اللهِ تَعَالَى لِمَنْ عَصَاهُ، وَإِنْعَامِهِ عَلَيهِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ؛ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ.
وَقَدْ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } [الأنعام 44] يَقُولُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَيْ: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ مِنْ كُلِّ مَا يَخْتَارُونَ، وَهَذَا اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ تَعَالَى وَإِمْلَاءٌ لَهُمْ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ مَكْرِهِ.
عِبَادَ اللهِ: وَكَمَا أَنَّ الذُّنُوبَ سَبَبٌ لِلْبَلَاءِ؛ فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا مَخْرَجٌ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ، وَيُسْرٌ مِنْ كُلِّ عُسْرٍ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا }
{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا }
التَّوبَةُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَاسْتِغْفَارُهُ جَلَّ وَعَلَا سَبَبٌ لِخَيرَاتِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [هود4] وَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَومِهِ: { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } [نوح10- 12]
جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ عِبَادِهِ التَّوَّابِينَ المُسْتَغْفِرِينَ.
اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَينَا الِإيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَينَا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }الأحزاب 56
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
المرفقات
1705586806_مِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَأَخْطَارِهَا.pdf
1705586820_مِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَأَخْطَارِهَا.docx