منهج أهل السنة والجماعة 15/7/1437هـ
عبدالرحمن العليان
1437/07/24 - 2016/05/01 01:04AM
بسم الله الرحمن الرحيم
منهجُ أهلِ السنةِ والجماعة
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه، الحاملةِ على النأيِ عن المـُحَرَّمات، الداعةِ إلى الفضائلِ والمكرمات، المجلّيَةِ لحقيقةِ هذه الحياة، الحجابِ دون الغفلات..
أيها المؤمنون: في سموم الحرّ يُطلَبُ الظلّ، وتُلتَمَسُ النفحات، وإنما يُفتَقَدُ النورُ في دياجيرِ الظلمات.. ولا أشدَّ حرًّا في هذه الدنيا من لَفْحِ هجيرِ الباطلِ بألوانِهِ المتكاثرة، ولا ظلمةَ أحلكُ من ظلماتِ الضلالِ عن الحقِّ المنزلِ من عند الله عزَّ وجلّ.
وكما كتبَ الله على الأمم السابقة التفرقَ والاختلاف؛ فقد كَتَبَ على هذه الأمةِ حظَّها من الافتراق، حُكْمًا قَدَرِيًّا، لا يلزم منه محبةُ الله، بل إنما أوقعه الله - تعالى- ابتلاء، وأخبر به رسولُه صلى الله عليه وسلم زجرًا عن مَعَرَّتِهِ وتحذيرا.
وكلما طالَ العهدُ بين الناسِ والقرنِ الأول؛ زاد الافتراق، وكثر الإحداثُ في الدين، وتغلَّظت البدع، حتى تكونَ الفِرَقُ ذواتُ الشأن في أتباعِهَا ثلاثًا وسبعين فِرْقة، وفي ذلكم قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترقُ على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلُّهَا في النار إلا واحدة. قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: هي ما كانت على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، رواه أهل السننِ رحمهم الله.
إلا أن من رحمة الله تعالى بهذه الأمة حفظَ دينها المرضيِّ عنده سبحانه؛ واصطفاءَ فرقة تبقى على الحق لا تحيدُ عنه بإذنه - عزَّ اسمُه - لا يضرها من خذلها ولا من خالفها إلى قيامِ الساعة، إنهم أهل السنة والجماعة، أتباعُ السلفِ الصالحِ -رحمهم الله- الذين آمَنُوا بمثْلِ ما آمَنوا به فاهْتَدَوْا، واتَّبَعُوا نورَهم فاقْتَفَوْا، وَتَلَمَّسُوا آثارَهم وما غوَوا.
وأكرمْ بتبيانِ سبيلِهم الحقِّ يومَ أن يموجَ العالمُ في هذا العصرِ بأمواجِ التغيير، ويمتلئَ بطوفاناتٍ ليس لها أثارة من علم، بل يومَ أن يعلمَ الأعداءُ أن سرَّ قوةِ المسلمين إنما هو في هذا المنهج، فيكيدوا له كيدَهم، ويمكروا بأهله مكرا كُبّارا، ويقول من كان من أوسطِ هؤلاء الماكرين: إننا لا نحارب الإرهاب، بل نحاربُ من أَجْلِ فرضِ الإسلامِ الذي نريد.
ولم يَعْلَمْ - قبّحَهُ الله - أن من أجلى معالم السلفية: ألا يُتَّبَعَ الإمامُ فيها إلا بدليل، فكيف باتباع كلامِ عدوِّها الحقير المضادِّ للدليل؟!
أيها المسلمون: السلفُ الصالح هم صحابةُ رسولِ الله -عليه الصلاةُ والسلام- الذين اختارَهُمُ اللهُ لِصُحْبَتِه، أبرُّ هذه الأمةِ قُلُوبَا، وأعمقُها علما، وأقلُّها تكلفا، كما نَعَتَهُمُ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه، والتابعون لهم بإحسان، الذين اتبَعُوا وما ابتدَعُوا، وَهُم مَنْ قالَ اللهُ فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، ليس لهُمُ اسمٌ يعرفون به إلا الإسلامُ، والسنةُ والجماعة: سنةُ رسول الله - عليه الصلاةُ والسلام-، وجماعةُ المؤمنين، كما قال الإمام مالكٌ -رحمه الله-: أهل السنة من ليس لهم اسم سوى السنة.
وليس لهم إمامٌ معظَّمٌ معصومٌ يأخذون كلَّ ما جاء عنه سوى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وليس عندهم تعصبٌ لقولِ أحدٍ من الناس، فكلُّ أحدٍ يخطئُ ويصيبُ إلا رسولَ الله صلواتُ الله وسلامُه عليه، بل كلُّ أحد من أئمتهم يقول: إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي، ولا ينتسبون إلى مقالةٍ ولا إلى قائلها.
ولذلك فليسوا هم حزبًا ولا تيارًا ولا حركةً، ولا تكتُّلًا سياسيًّا، ولا يجمعهم عصرٌ ولا قِطْر؛ لأن نهجَهُمْ هو الحقّ، وهو الدينُ الفطرة، ولذا كانوا هُمُ السوادَ الأعظمَ على مرِّ العصور؛ لأن المسلم يتبع الدليل، ويعظّمُ السلف الصالح، ويقتدي بهم.
علماؤُهم ليس لهم عصمةٌ ولا يدَّعُونَ ذلك، مُتَّفِقُونَ في الأصول، وإن اختلفوا في مواردِ الِاجْتَهَادِ فَلِطَلَبِ الدليلِ مع الإعذارِ والرحمةِ والرفقِ وحسنِ الظن، وَعَلَيْهِ فَلَا يَدَّعِي تمثيلَهم أحد، ولا ينطِقُ باسْمِهِمْ عالمٌ من العلماء، بل الأفرادُ والجماعاتُ هي التي تسعى إلى تحقيقِ هذا المنهج وتمثُّله.
منهجُ السلفِ الصالح منهجٌ شاملٌ في العقائدِ والعباداتِ والأخلاقِ والسلوكِ والِاجتماعِ والسياسةِ وغيرِهَا؛ فَمِنَ القُصُورِ في النظرِ حَصْرُ هذا المنهجِ في قضايَا معيّنة، أو نطاقٍ ضيّق، بل هو الدينُ كلُّه، لم يولِّدْهُ فكرٌ بشريّ، ولا ظَرْفٌ تاريخيّ، الاستدلالُ فيهِ بالكتابِ والسنةِ وما أجمع عليه السلف الصالح، لا فَهْمُ عالمٍ بمفرده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: ((ومذهبُ أهلِ السنةِ مذهبٌ قديمٌ معروفٌ قبلَ أن يَخْلُقَ اللهُ - تعالى- أبا حنيفةَ ومالكًا والشافعيَّ وأحمد؛ فإنه مذهبُ الصحابةِ الذينَ تلقَّوْهُ عن نبيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم)).
إنه منهجٌ وسطيٌّ في جميعِ شأنِه؛ لأن اللهَ تعالى يقول:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، الاتباعُ للنص دون ظاهريةٍ أو جمود، بل مع مراعاةِ المقاصدِ والغايات، والعقلُ يُدْرَكُ به بعضُ قضايَا الاعتقاد؛ إلا أنه لا يستقلُّ بإدراكِ أكثرِها، كما لا يستقِلُّ بمعرفةِ حدودِ ما أنزلَ اللهُ على رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ فوظيفته الفهمُ للنصوص واستنباطُ الأحكام، وقد جاءَ القرآن بأجلِّ ما يَحْتَاجُ الناسُ إليه من الأدلةِ العقليةِ النافعة.
ولذا فهو منهجٌ يرفضُ الابتداع، ويعتصمُ بالكتابِ والسنةِ بفهمِ السلف الصالح، ويأمرُ بالاجتماعِ على الحق، وَيَنْهَى عن التَّفَرُّق.
ومن معالمه: العنايةُ بلزومِ الجماعة، والسمعِ والطاعة بالمعروف، وتركِ الخروجِ على الأئمة ولو في أَثَرةٍ وَظُلْم، معَ قولِ الحق، والنُّصْحِ لجميعِ الخلق من عامةٍ وخاصة؛ لأن الدينَ هو النصيحةُ للهِ ولرسولِه ولأئمةِ المسلمينَ وعامَّتِهِم، مِنْ غَيْرِ تشهيرٍ ولَا حُظُوظِ نفس، بل ابتغاءَ وجهِ الله، وإرادةً للإصلاح.
كما أن من معالم هذا المنهجِ الحق: الدعوةَ إلى الخير، والأمرَ بالمعروف، والنهيَ عن المنكر؛ فبهذا الركنِ الركينِ صلاحُ الحال، والفوزُ في المآل؛ ولا يمكنُ لأهل السنة والجماعةِ متبعي السلفِ الصالحِ أن يَسْتَغْنُوا عن سِرِّ خَيْرِيَّتِهِم، أو يُعَطِّلُوا مَكْمَنَ صلاحِ مجتمعاتهم، ويرغَبوا عن سَبَبِ عزِّهم وتمكينِهِم {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
الخطبة الثانية
إذا كان منهجُ أهل السنة والجماعة هو الكتابَ والسنةَ بفهم السلف الصالح، فهو منهجٌ لا أشخاص، فمن الجورِ المبينِ تحميلُه تجاوزاتِ أتباعِه بل مُنْتَحِلِيهِ من غُلَاةٍ أو جُفَاة، بل إنه لا يَمْنَحُ العصمةَ للعلماءِ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ؟ بل إن من معالمه النصحَ للعالم، وبيان زلَلِه إذا زلّ، مِنْ عَالِمٍ مثلِه، مَعَ حُسْنِ الظنِّ والرحمة.
ومعلمٌ آخر من معالمِ هذا المنهجِ يتمثَّلُ في الرحمة بالخلق، والرفق بهم، والفرحِ بصوابهم، والاغتمامِ بخطئهم.
أيها المؤمنون: ولأن هذا المنهجَ هو المنهجُ الحقُّ الأقوم؛ فقد سُلِّطَتْ عليه وعلى أتباعه ألسنةٌ وأيادٍ في قديمِ الزمانِ وحديثِه، وفي هذا العصرِ أرادَ الأعداءُ ضربَ هذا المنهجِ الأصيل بالمناهجِ الضالة، والفرقِ والأحزاب، واستنبتُوا من المنافقين أعْيُنًا وآذانًا لهم، ساخطين على هذا المنهج القويم، يرمونه وأتباعَه بأحدِّ الأوصاف، وأشنعِ التُّهَم، وينعتُونَ رموزَه وأئمتَه بكلِّ قبيح، ويكذِبُونَ عليهمُ الكذبَ المبين، ويحمِّلُونَهُمْ غُلَوَّ الغالين، وتأويلَ الجاهلين، وهم من ذلكم بَرَاء.
بيد أن وعدَ الله تعالى لا يتخلف، فهو ناصرٌ دينه، ومعلٍ كلمته، وغالبٌ على أمره، ومن لطفه - عزَّ اسمُه - أن هيّأ بهذه المحادةِ من ينشر فضائلَ هذا المنهجِ ومعالمـَه، ويُجَلِّي أنوارَه ومغانمَه، على حدِّ قولِ القائل:
وإذَا أرادَ اللهُ نشرَ فضيلةٍ طُوِيَتْ أتَاحَ لها لسانَ حَسُودِ
لولا انتشارُ النارِ فيما جاورَتْ ما كانَ يُعرَفُ طِيبُ عَرْفِ العُودِ
ولا تزال هذه الطائفة المختارة المصطفاة ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله..
إنها طائفةٌ ناصرةٌ منصورة، ولكنَّ الشأنَ أيكونُ لنا شرفُ الانتسابِ الحقيقي لهذا المنهج بتكاليفه وابتلاءاته، ولهذه الطائفةِ الظاهرةِ أم لا
المشاهدات 2006 | التعليقات 3
جُزيت الجنّة يا شيخ عبدالرحمن...
أسلوبٌ شيَّقُ... وممتع
متّع الله بك
ما شاء الله احسنت ايها الخطيب الحبيب فتح الله عليك وزادك علما ونفعك به ونفع بك
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق