منع المعروف

منع المعروف
18 / 4 / 1439هـ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ خَالِقِ الْخَلْقِ، مَالِكِ الْمُلْكِ، مُدَبِّرِ الْأَمْرِ، ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾ [الزُّمَرِ: 5]، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَظِيمٌ فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْدَارِهِ، لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، حَلِيمٌ عَلَى عُصَاتِهِمْ، قَدِيرٌ عَلَى عَذَابِهِمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَلَّ عَلَى الْخَيْرِ وَأَتَاهُ، وَبَذَلَ الْمَعْرُوفَ وَأَسْدَاهُ، وَأَنْفَقَ مَا لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَكَانَ يُعْطِي أَوْدِيَةً مَمْلُوءَةً نَعَمًا، وَلَمْ يَدَّخِرْ لِنَفْسِهِ وَلَا لِأَهْلِ بَيْتِهِ شَيْئًا، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمَلُوا فِي دُنْيَاكُمْ مَا يُنْجِيكُمْ فِي آخِرَتِكُمْ، وَتَدْخُلُوا بِهِ جَنَّةَ رَبِّكُمْ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا إِنْ أَقْبَلَتْ أَدْبَرَتْ، وَإِنْ أَزْهَرَتْ أَمْحَلَتْ، وَلَا دَوَامَ فِيهَا لِأَحَدٍ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرَّحْمَنِ: 26 - 27]، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 185].
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ عَظَمَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ فِيهِ دِلَالَةً عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ، وَإِيصَالِ النَّفْعِ لِلْغَيْرِ. وَالْخَيْرُ وَالْمَعْرُوفُ وَالنَّفْعُ كَلِمَاتٌ جَامِعَةٌ يَنْتَظِمُ تَحْتَهَا مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ، فَيَأْتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ بِمَا يَسْتَطِيعُ مِنْهَا، وَلَا يَنْقَطِعُ عَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيَحُوزُ أُجُورًا عَظِيمَةً بِأَعْمَالٍ قَلِيلَةٍ، مَعَ مَا يُغْرَسُ لَهُ بِمَعْرُوفِهِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِنْ مَحَبَّتِهِ، وَالدُّعَاءِ لَهُ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَثَرُ الَّذِي يَبْقَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَمْنَعُ الْمَعْرُوفَ، وَلَا يَبْذُلُ الْخَيْرَ، وَلَا يُوصِلُ النَّفْعَ، وَرُبَّمَا صَدَرَ مِنْهُ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهِ؛ فَذَاكَ حُرِمَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَحَازَ إِثْمًا مُبِينًا، وَاسْتَنْبَتَ كَرَاهِيَتَهُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ؛ فَالْقُلُوبُ تُبْغِضُهُ، وَالْأَلْسُنُ تَشْتُمُهُ وَتَدْعُو عَلَيْهِ، وَيَتَمَنَّى النَّاسُ مَوْتَهُ، وَيَجْتَنِبُونَ صُحْبَتَهُ وَمُخَالَطَتَهُ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ، وَشَرَّهُ يَرْبُو عَلَى خَيْرِهِ، وَأَذَاهُ يَصِلُ إِلَى غَيْرِهِ. وَكَمَا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ حَثًّا عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَلَوْ كَانَ ذَرَّةً؛ فَفِيهِ أَيْضًا تَحْذِيرٌ مِنْ فِعْلِ الشَّرِّ وَلَوْ كَانَ ذَرَّةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُجَازِي الْعِبَادَ بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النِّسَاءِ: 40]، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزَّلْزَلَةِ: 7 - 8].
وَمَا يُبْذَلُ مِنَ الْمَعْرُوفِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَذْلُهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ كَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالنَّفَقَةِ عَلَى مَنْ تَجِبُ لَهُمُ النَّفَقَةُ، وَمَعَ وُجُوبِهَا يُؤْجَرُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمَنْعُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَعْرُوفِ يُحَمِّلُ صَاحِبَهُ إِثْمًا كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، وَضَيَّعَ حُقُوقَ خَلْقِهِ، وَمَانِعُ الزَّكَاةِ يُعَذَّبُ بِمَالِهِ الَّذِي كَنَزَهُ لِنَفْسِهِ ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ [التَّوْبَةِ: 34 - 35]، كَمَا أَنَّ مَنْ يُضَيِّعُ مَنْ يَعُولُهُمْ يُعَذَّبُ بِحَبْسِ نَفَقَتِهِ عَنْهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَمِنَ الْمَعْرُوفِ مَا يَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ، مُرَغَّبًا فِيهِ، وَهُوَ أَكْثَرُ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ خِصَالٌ مِنَ الْخَيْرِ لَا يُمْكِنُ عَدُّهَا وَلَا حَصْرُهَا مِنْ كَثْرَتِهَا، وَمَانِعُهَا مَذْمُومٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ، وَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ؛ فَإِنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الْمَعْرُوفَ وَلَا يَبْذُلُونَهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ ثَوَابَهُ، وَلَا يَنْتَظِرُونَ جَزَاءَهُ؛ وَذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ: ﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التَّوْبَةِ: 67]، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ فِي جَزَائِهِمْ: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [التَّوْبَةِ: 68]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ [التَّوْبَةِ: 54]، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ عَاقِبَةَ مَنْعِهِمُ الْخَيْرَ وَالْمَعْرُوفَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التَّوْبَةِ: 55].
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنْعِ الْمَعْرُوفِ إِثْمٌ إِلَّا أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ النَّارِ لَكَانَ ذَلِكَ زَاجِرًا عَنْهُ، وَلَكَانَ مُرَغِّبًا فِي بَسْطِ الْيَدِ بِالْمَعْرُوفِ وَبَذْلِهِ؛ لِيُجَانِبَ الْمُؤْمِنُ صِفَاتِ أَهْلِ النَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ وُصِفُوا بِمَنْعِ الْمَعْرُوفِ دُونَ كَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي اتَّصَفُوا بِهَا ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ﴾ [ق: 24 - 25]، وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ [الْقَلَمِ: 10 - 12]، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَهْلَ النَّارِ كُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ، جَمَّاعٍ مَنَّاعٍ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الضُّعَفَاءُ الْمَغْلُوبُونَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَيَكْفِي فِي مَنْعِ الْمَعْرُوفِ قُبْحًا وَإِثْمًا أَنَّهُ قُرِنَ بِالتَّكْذِيبِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَفِي بَيَانِ أَعْمَالِ مَنْ أُوتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾ [الْحَاقَّةِ: 33 - 37].
وَفِي سُؤَالِ الْكُفَّارِ عَنْ سَبَبِ دُخُولِهِمُ النَّارَ أَجَابُوا فَذَكَرُوا مَنْعَ الْمِسْكِينِ طَعَامَهُ مَعَ تَكْذِيبِهِمْ بِالْآخِرَةِ ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [الْمُدَّثِّرِ: 42 - 48].
وَفِي الْقُرْآنِ سُورَةٌ سُمِّيَتْ سُورَةَ الْمَاعُونِ، وَالْمَاعُونُ يُبْذَلُ فَيُوهَبُ وَيُعَارُ وَيُتَصَدَّقُ بِهِ، وَكَانَ النَّاسُ يُعِيرُونَ مَوَاعِينَهُمْ مَنْ يَحْتَاجُهَا مِنْ جِيرَانِهِمْ، وَيَهَبُونَ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِمْ مِنْهَا إِلَى قَرَابَتِهِمْ أَوْ جِيرَانِهِمْ، وَيَتَصَدَّقُونَ مِنْهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَيَتَلَمَّسُونَ حَاجَةَ غَيْرِهِمْ مِنْهَا فَيُهْدُونَهَا لَهُمْ فِي الْمُنَاسَبَاتِ؛ لِإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ؛ وَذَلِكَ بَذْلًا لِلْمَعْرُوفِ، وَبُعْدًا عَنْ مَنْعِهِ. وَسُورَةُ الْمَاعُونِ جُمِعَ فِيهَا التَّكْذِيبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، مَعَ أَذَى الْيَتِيمِ، وَعَدَمِ إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَالرِّيَاءِ، وَالتَّفْرِيطِ فِي الصَّلَاةِ، وَمَنْعِ الْمَاعُونِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ السِّتَّةِ تَدْخُلُ تَحْتَ بَابِ مَنْعِ الْمَعْرُوفِ؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خُطُورَتِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَّا لَمَا كَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهُ فِي أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ؛ تَحْذِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يَمْنَعُوا الْمَعْرُوفَ، فَيَصِلُ بِهِمْ مَنْعُهُمُ الْمَعْرُوفَ إِلَى دَرَكَاتِ النِّفَاقِ، كَمَا نَعْلَمُ بِهَذَا أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَكْثَرَ بَذْلًا لِلْمَعْرُوفِ كَانَ أَبْعَدَ عَنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ.
وَمَنْعُ الْمَاعُونِ الْمَذْكُورِ فِي السُّورَةِ قَدْ فُسِّرَ بِمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَمَنْعُهَا مِنْ مَنْعِ الْمَعْرُوفِ، كَمَا فُسِّرَ بِمَنْعِ إِعَارَةِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُهُ صَاحِبُهُ وَقْتَ إِعَارَتِهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «كُنَّا نَعُدُّ الْمَاعُونَ عَارِيَةَ الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ وَالْفَأْسِ وَمَا تَتَعَاطُونَ بَيْنَكُمْ».
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الْمَاعُونِ: 1 - 7].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الْحَجِّ: 77].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَنْ مَنَعَ مَعْرُوفَهُ عَرَّضَ لِلزَّوَالِ نِعَمَهُ؛ فَإِنَّ نِعَمَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْقُوَّةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسْتَدِيمُهَا الْعَبْدُ بِشُكْرِهَا، وَمِنْ شُكْرِهَا عَدَمُ مَنْعِ مُسْتَحِقِّهَا لَهَا، وَإِلَّا زَالَتْ نِعْمَتُهُ وَحُوِّلَتْ إِلَى غَيْرِهِ؛ كَمَا كَانَ حَالُ أَصْحَابِ الْبُسْتَانِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّتَهُمْ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ. ﴿إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ [الْقَلَمِ: 17 - 21]، وَذَيَّلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ الْعَظِيمَةَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [الْقَلَمِ: 33]. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ قَوْمًا يَخْتَصُّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا.
فَعَذَابُ مَنْ مَنَعَ الْمَعْرُوفَ فِي الدُّنْيَا زَوَالُ النِّعْمَةِ مِنْهُ، مَعَ مَا ادُّخِرَ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ -عِبَادَ اللَّهِ- مِنْ مَنْعِ الْمَعْرُوفِ الْوَاجِبِ أَوِ الْمُسْتَحَبِّ، وَلْتَكُنْ أَيْدِيكُمْ نَدِيَّةً بِمَا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلْتَكُنْ نُفُوسُكُمْ سَخِيَّةً بِمَا فِي أَيْدِيكُمْ، وَلْيَكُنْ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ قَوْلًا وَفِعْلًا سَجِيَّةً لَكُمْ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ تَتَعَوَّدُ عَلَى مَا طَبَعَهَا عَلَيْهِ أَصْحَابُهَا ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: 215].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

المعروف-3

المعروف-3

المعروف-مشكولة

المعروف-مشكولة

المشاهدات 2549 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا