منصِّل الأسنَّة
عاصم بن محمد الغامدي
1438/07/17 - 2017/04/14 08:09AM
[align=justify]الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه، وأدَّب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبَه، وزكَّى أوصافه وأخلاقه ثم اتخذه صفيَّه وحبيبَه، ووفَّق للاقتداء به من أراد تهذيبَه، وحرم عن التخلِّق بأخلاقه من أراد تخييبَه، وصلى الله على سيدنا محمدٍ سيدِ المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عزَّ وجل، فاتقوا الله رحمكمُ الله، وارغبوا فيما عندَه، ولا تغرَّنكم الحياة الدنيا، فطالبها مكدود، والمتعلقُ بها متعَب مجهود، والزاهد فيها محمود، واستعيذوا بالله من هوىً مطاع، وعمْر مضاع.
رحمَ الله عبدًا أُعطي قوةً فعمل بها في طاعةِ الله، أو قصَّر به ضعفٌ فكفَّ عن محارمِ الله. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
عباد الله:
خلقَ الله الخلقَ وفضَّل بينهم، فجبريلُ عليه السلام أفضلُ من بقية الملائكة، والأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام أفضلُ من بقية البشر، والبلدان تتفاوت مكانتها، والشهور والأيام تتفاضل مراتبها، {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}.
وهذا التفضيلُ تابعٌ لحكمةِ اللهِ تعالى وعلمِه، وهو من المسائل التي يجب الإيمان بها، فالكونُ كلُّه للهِ تعالى يتصرَّفُ به كما يشاءْ، ويصنعُ بهِ ما يريدُ، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، أيْ: أنَّ الله سبحانَه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ أَنْ يَخْلُقَهُ، وَيَخْتَارُ لِلْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ مَا هُوَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ خِيَرَتُهُمْ، نَظِيرَ مَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِآلِهَتِهِمْ خِيَارَ أَمْوَالِهِمْ، فَكَذَلِكَ اخْتِيَارُه سبحانَه لِنَفْسِه، وَاجْتِبَاؤهُ لِوَلَايَتِه، وَاصْطِفَاؤهُ لِخِدْمَتِه وَطَاعَتِه( ).
عباد الله:
أخبرنا ربُّنا تبارك وتعالى عن عِدَّةِ الشهور، وما حرَّمه منها فقال عزَّ من قائل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، وهذهِ الأشهرُ أخبرنَا عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ". [رواه البخاري ومسلم].
فدلَّت الآية على عظمةِ الله تعالى فهو واضعُ الشهور بهذا العدد منذ خلق السماوات والأرض، ولم يُزلها عن ترتيبها تغييرُ المشركين لأسمائها، والمقصودُ اتباع أمر الله فيها، ورفضُ ما كان عليه أهلُ الجاهلية من تأخيرِ أسماء الشهورِ وتقديمِها، وتعليقِ الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليه، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم شهر رجبٍ برجب مضر، لأن بعض العربِ كانوا يحرِّمون شهر رمضانَ ويسمونه رجبًا، وكانت مضر تحرِّم رجبًا نفسَه، فلذلك رفع عليه الصلاة والسلام ما وقع في اسمه من الاختلال بالبيان. ( )
أيها المسلمون:
كان العربُ يعظِّمون الأشهر الحرم، ويحرِّمون القتال فيها، ويسمون شهرَ رجبٍ منصَّل الأسنَّة أي مخرجَها من مكانها؛ لأنهم كانوا إذا دخل رجبٌ نزعوا أسنَّة الرماح ونصال السهام إبطالاً للقتال فيه، فيأمنُ من أراد الحج في الأشهر المتتابعة، ويأمنُ من أراد العمرة في شهر رجب، وكانوا يتحايلون أحيانًا، فينسؤون الأشهر، ويجعلون الشهر الحرام حلالاً، لأسباب مختلفة.
ثم جاء الإسلامُ ليؤكد على تعظيم هذه الأشهر، ومنع تقديمها أو تغييرها، ومنعِ ظلمِ النفسِ فيها، مع أنَّ ظلمَ النفس محرمٌ في كلِّ العام، إلا أنه في هذه الشهورِ آكدُ؛ لأن الإثمَ أبلغُ فيها من غيرِها، واللهُ سبحانه إذا عظَّم شيئًا من جهةٍ واحدة صارت له حرمةٌ واحدة، وإذا عظَّمه من جهتين أو جهاتٍ صارت حرمتُه متعددَةً، فيضاعَف فيه العقابُ بالعملِ السيء، كما يضاعَف الثوابُ بالعمل الصالح، فإنَّ ثوابَ من أطاع الله في الشهرِ الحرام في البلد الحرام، ليس كثوابِ من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ليس ثوابه ثوابَ من أطاعه في شهر حلالٍ في بلد حلال( )، والمقصود بمضاعفة السيئات مضاعفةُ مَقَادِيرِها لَا كَمِّيَّاتِهَا، فَإِنَّ السَّيِّئَةَ جَزَاؤُهَا سَيِّئَةٌ، لَكِنْ سَيِّئَةٌ كَبِيرَةٌ جَزَاؤُهَا مِثْلُهَا، وَصَغِيرَةٌ جَزَاؤُهَا مِثْلُهَا.( )
عبادَ الله:
كلُّ المعاصي من الظلمِ، لكنْ من أعظمِ ما يحْرمُ في هذه الأشهرِ الاعتداءُ على الأنفسِ والأعراضِ والأموالِ، وكلُّ ما فيه أذى للآخرين دونَ وجهِ حقٍ، سواءٌ بالقولِ كالغيبة والنميمة والبهتان وقول الزور، أو الفعلِ كالربا والرشوة والغش وأكل المال بالباطل، فليحذر من تلبَّس بشيء من ذلك، فإنَّ هذه الأيامَ ليست كغيرها في الإثمِ والعاقبة، ولعلَّ تعظيمِ هذا الشهرِ بتركِ هذه الآثامِ، مؤذنٌ بالتوبةِ الصادقةِ النصوحِ.
أما من انتهكَ حرمةَ هذه الأشهرَ، فيُخاف عليه من التوغلِ في المعاصي، والانتقال من صغيرها لكبيرها، ويخشى عليه من الوصول إلى ترك الفرائض، عياذًا بالله.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فإن مما يقع فيه الخطأ عند بعض الناس، الخلطُ بين تعظيم شيءٍ عظمه الله، وبين تخصيصه بما لم يخصه الله سبحانه به، فالله تعالى قد يفضل أيامًا وشهورًا، ويشرعُ فيها أعمالاً، كما فضَّل شهر رمضانَ وخصَّه بالصيام، وفضَّل يوم الجمعة وخصًّه بالخطبة، وقد يفضل أيامًا وشهورًا ولا يخصُّها بعمل عن غيرها.
وقد ظهر عند بعض المسلمين تخصيص شهر رجب بصومٍ أو صلاةٍ أو أعمال صالحات، أو الاحتفال ببعض لياليه وإحيائها، ويخشى على فاعل ذلك أن يكون من أهل البدعة، فعبادة الله تعالى لا تكون إلا بما شرع، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». [رواه البخاري ومسلم]، قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ الله: كلُّ حديثٍ في ذكر صوم رجبٍ وصلاةِ بعضِ الليالي فيه فهو كذبٌ مفترى( ).
فهنيئًا لمن عظَّم شعائر الله، ووقَرت في نفسِه مخافتُه، وكان في هذه الأيامِ أبعدَ عن ظلمِ نفسه، وأقربَ إلى طاعة ربِّه، وابتعد عن محدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدَثَةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، جعلنا الله من العالمِين العاملِين، ووقانا الخزي والخسار في يوم الدين.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
[/align]
الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه، وأدَّب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبَه، وزكَّى أوصافه وأخلاقه ثم اتخذه صفيَّه وحبيبَه، ووفَّق للاقتداء به من أراد تهذيبَه، وحرم عن التخلِّق بأخلاقه من أراد تخييبَه، وصلى الله على سيدنا محمدٍ سيدِ المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عزَّ وجل، فاتقوا الله رحمكمُ الله، وارغبوا فيما عندَه، ولا تغرَّنكم الحياة الدنيا، فطالبها مكدود، والمتعلقُ بها متعَب مجهود، والزاهد فيها محمود، واستعيذوا بالله من هوىً مطاع، وعمْر مضاع.
رحمَ الله عبدًا أُعطي قوةً فعمل بها في طاعةِ الله، أو قصَّر به ضعفٌ فكفَّ عن محارمِ الله. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
عباد الله:
خلقَ الله الخلقَ وفضَّل بينهم، فجبريلُ عليه السلام أفضلُ من بقية الملائكة، والأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام أفضلُ من بقية البشر، والبلدان تتفاوت مكانتها، والشهور والأيام تتفاضل مراتبها، {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}.
وهذا التفضيلُ تابعٌ لحكمةِ اللهِ تعالى وعلمِه، وهو من المسائل التي يجب الإيمان بها، فالكونُ كلُّه للهِ تعالى يتصرَّفُ به كما يشاءْ، ويصنعُ بهِ ما يريدُ، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، أيْ: أنَّ الله سبحانَه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ أَنْ يَخْلُقَهُ، وَيَخْتَارُ لِلْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ مَا هُوَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ خِيَرَتُهُمْ، نَظِيرَ مَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِآلِهَتِهِمْ خِيَارَ أَمْوَالِهِمْ، فَكَذَلِكَ اخْتِيَارُه سبحانَه لِنَفْسِه، وَاجْتِبَاؤهُ لِوَلَايَتِه، وَاصْطِفَاؤهُ لِخِدْمَتِه وَطَاعَتِه( ).
عباد الله:
أخبرنا ربُّنا تبارك وتعالى عن عِدَّةِ الشهور، وما حرَّمه منها فقال عزَّ من قائل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، وهذهِ الأشهرُ أخبرنَا عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ". [رواه البخاري ومسلم].
فدلَّت الآية على عظمةِ الله تعالى فهو واضعُ الشهور بهذا العدد منذ خلق السماوات والأرض، ولم يُزلها عن ترتيبها تغييرُ المشركين لأسمائها، والمقصودُ اتباع أمر الله فيها، ورفضُ ما كان عليه أهلُ الجاهلية من تأخيرِ أسماء الشهورِ وتقديمِها، وتعليقِ الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليه، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم شهر رجبٍ برجب مضر، لأن بعض العربِ كانوا يحرِّمون شهر رمضانَ ويسمونه رجبًا، وكانت مضر تحرِّم رجبًا نفسَه، فلذلك رفع عليه الصلاة والسلام ما وقع في اسمه من الاختلال بالبيان. ( )
أيها المسلمون:
كان العربُ يعظِّمون الأشهر الحرم، ويحرِّمون القتال فيها، ويسمون شهرَ رجبٍ منصَّل الأسنَّة أي مخرجَها من مكانها؛ لأنهم كانوا إذا دخل رجبٌ نزعوا أسنَّة الرماح ونصال السهام إبطالاً للقتال فيه، فيأمنُ من أراد الحج في الأشهر المتتابعة، ويأمنُ من أراد العمرة في شهر رجب، وكانوا يتحايلون أحيانًا، فينسؤون الأشهر، ويجعلون الشهر الحرام حلالاً، لأسباب مختلفة.
ثم جاء الإسلامُ ليؤكد على تعظيم هذه الأشهر، ومنع تقديمها أو تغييرها، ومنعِ ظلمِ النفسِ فيها، مع أنَّ ظلمَ النفس محرمٌ في كلِّ العام، إلا أنه في هذه الشهورِ آكدُ؛ لأن الإثمَ أبلغُ فيها من غيرِها، واللهُ سبحانه إذا عظَّم شيئًا من جهةٍ واحدة صارت له حرمةٌ واحدة، وإذا عظَّمه من جهتين أو جهاتٍ صارت حرمتُه متعددَةً، فيضاعَف فيه العقابُ بالعملِ السيء، كما يضاعَف الثوابُ بالعمل الصالح، فإنَّ ثوابَ من أطاع الله في الشهرِ الحرام في البلد الحرام، ليس كثوابِ من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ليس ثوابه ثوابَ من أطاعه في شهر حلالٍ في بلد حلال( )، والمقصود بمضاعفة السيئات مضاعفةُ مَقَادِيرِها لَا كَمِّيَّاتِهَا، فَإِنَّ السَّيِّئَةَ جَزَاؤُهَا سَيِّئَةٌ، لَكِنْ سَيِّئَةٌ كَبِيرَةٌ جَزَاؤُهَا مِثْلُهَا، وَصَغِيرَةٌ جَزَاؤُهَا مِثْلُهَا.( )
عبادَ الله:
كلُّ المعاصي من الظلمِ، لكنْ من أعظمِ ما يحْرمُ في هذه الأشهرِ الاعتداءُ على الأنفسِ والأعراضِ والأموالِ، وكلُّ ما فيه أذى للآخرين دونَ وجهِ حقٍ، سواءٌ بالقولِ كالغيبة والنميمة والبهتان وقول الزور، أو الفعلِ كالربا والرشوة والغش وأكل المال بالباطل، فليحذر من تلبَّس بشيء من ذلك، فإنَّ هذه الأيامَ ليست كغيرها في الإثمِ والعاقبة، ولعلَّ تعظيمِ هذا الشهرِ بتركِ هذه الآثامِ، مؤذنٌ بالتوبةِ الصادقةِ النصوحِ.
أما من انتهكَ حرمةَ هذه الأشهرَ، فيُخاف عليه من التوغلِ في المعاصي، والانتقال من صغيرها لكبيرها، ويخشى عليه من الوصول إلى ترك الفرائض، عياذًا بالله.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدلله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فإن مما يقع فيه الخطأ عند بعض الناس، الخلطُ بين تعظيم شيءٍ عظمه الله، وبين تخصيصه بما لم يخصه الله سبحانه به، فالله تعالى قد يفضل أيامًا وشهورًا، ويشرعُ فيها أعمالاً، كما فضَّل شهر رمضانَ وخصَّه بالصيام، وفضَّل يوم الجمعة وخصًّه بالخطبة، وقد يفضل أيامًا وشهورًا ولا يخصُّها بعمل عن غيرها.
وقد ظهر عند بعض المسلمين تخصيص شهر رجب بصومٍ أو صلاةٍ أو أعمال صالحات، أو الاحتفال ببعض لياليه وإحيائها، ويخشى على فاعل ذلك أن يكون من أهل البدعة، فعبادة الله تعالى لا تكون إلا بما شرع، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». [رواه البخاري ومسلم]، قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ الله: كلُّ حديثٍ في ذكر صوم رجبٍ وصلاةِ بعضِ الليالي فيه فهو كذبٌ مفترى( ).
فهنيئًا لمن عظَّم شعائر الله، ووقَرت في نفسِه مخافتُه، وكان في هذه الأيامِ أبعدَ عن ظلمِ نفسه، وأقربَ إلى طاعة ربِّه، وابتعد عن محدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدَثَةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، جعلنا الله من العالمِين العاملِين، ووقانا الخزي والخسار في يوم الدين.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
[/align]