منزلة العلماء في الإسلام ..أ.د. راغب السرجاني
الفريق العلمي
صناعة العلماء:
قد يبدو غريبًا هذا العنوان، وقد يبدو أشد غرابةً عند مَن يتواضع كثيرًا؛ فيجعل همَّه وطموحه فقط أن يصبح طالب علم، أو -كما يقول بعضهم- "طُويلب علم"..!! ولا شك أن مثل هذه الهمة هي همة قاصرة، وهي همة تعجز في أن تلحق -بالمرة- بركب العلماء. وأولى بصاحبها وأجدر أن يقف مع نفسه وقفة أخرى، يجدد العزم، ويعقد العهد قبل أن تتفلت من يده الأيام، ويندم ولات حين مناص!
يقول المتنبي:
إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ *** فلا تقْنعْ بما دُون النُّجـــومِ
فطعمُ المـوتِ فـي أمرٍ حقيرٍ *** كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ
لذا لا يصلح لك إلا أن تكون عالمًا، وليس فقط من طلاب العلم، ولا شك أن ذلك يتطلب نوعًا خاصًا من الإعداد، فيتطلب خطة بعينها، ويتطلب حياة خاصة، -وأيضًا- حالة نفسية معينة، أو قل: يتطلب ذلك منهجًا في الحياة جديد؛ فتصبح لك طريقة تفكير خاصة، وطريقة ترتيب وقت يناسب هذه الحياة الخاصة، بل وطريقة نوم وأكل مختلفة عن بقية الناس، إنها حياة إنسان يُربَّى ليُغيِّر لا ليتغير، ويؤثِّر لا ليتأثر، إنها حياة مختلفة حقًا!!
العلماء ورثة الأنبياء:
وللعلم قيمة في الميزان الإسلامي؛ فحياة الناس لا تستقيم إلا به، وقد كان العلم كان صفةً لازمةً للأنبياء عليهم السلام، وكان من رحمة الله -عز وجل- أنه لم يرفع العلم بذهاب الأنبياء، وإنما جعل الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- يورِّثُوا علمهم هذا قبل أن يموتوا إلى طائفة معينة من البشر، أوكل إليها مهمة تعليم الناس، والقيام بالدور الذي كان يقوم به الأنبياء في حياتهم، ولكن دون وحيٍ ودونما عصمة، وهذه الطائفة من البشر هي "العلماء".
عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ" [1].
ففي نهاية هذا الحديث وضح رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن الأنبياء لم يتركوا خلفهم مالاً ولا مُلكًا، وإنما تركوا العلم، وهذه هي أعظم تركة، ومن أخذها فقد فاز حقًا، يقول الله تعالي: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة:269].
وفضلاً عن ذلك فالحديث يبين فضل العلم ومنزلة العلماء؛ فالملائكة تضع أجنحتها لمن يبدؤون طريق العلم؛ تواضعًا وتعظيمًا وتكريمًا وتبجيلاً لهم، وكفى بذلك شرفًا ومنزلة !!
ويخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طائفة العلماء - وليس طلاب العلم- بمزية خاصة، وهي أنه يستغفر لهم من في السماوات ومن في الأرض، بل يصل الأمر إلى أن تستغفر له الحيوانات أيضًا، بل حتى تلك التي تسبح في جوف الماء !!
وليت الأمر يقف عند هذا الحد فقط، بل إنه -صلى الله عليه وسلم- يُفضِّل ذلك العالِم ويرفع منزلته ومكانته على العابد لله -عز وجل- !! وقد جعل المقارنة بينهما في ذلك تمامًا كما يكون القمر ليلة البدر -كما ورد ذلك في رواية أخرى- مع غيره من النجوم، وذلك في إشارة إلى أن نور القمر يحجب نور الكواكب الأخرى ويُغطِّي عليها، مهما كثُر نورها بكثرة أعدادها !!
ألا ترى أن الأمر جد عظيم..؟!
بين العالم والعابد:
ومع كون هذه المقارنة عظيمة في حق العلماء، إلا أن هناك مقارنة أعظم منها، ذكرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَابِدٌ، وَالْآخَرُ: عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ" [2].
ففي هذا الحديث الشريف يُقارن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين العالم والعابد؛ فيشبه ذلك بالفارق بين منزلة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومنزلة أقل المسلمين، أي: أن الفجوة التي بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين أدنى المسلمين، تشبه تلك التي بين العالم والعابد !!
وفي ذلك من الفضل والشرف والمنزلة الرفيعة العالية ما فيه، فلم يقارن -صلى الله عليه وسلم- بين نفسه وبين أحد العظماء -مثلاً- في الإسلام، رغم أن مثل هذه المقارنة هي عظيمة -أيضًا-؛ إذ البون شاسع بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أي إنسان آخر، ولكن لعظم المفارقة هنا وبيان الفضل، فهو يقارن بين نفسه -صلى الله عليه وسلم- وبين أدنى المسلمين !!
ولعل البعض قد يستغرب من كون هذه المنزلة العالية للعالم إنما هي فوق منزلة العابد، ولعل هذا العجب يزول إذا علمت أن العابد الذي يعبد الله على غير علم يَضل ويُضل، وقد كان كفار مكة أنفسهم يعترفون لله بالعبودية، ولكنها عبودية على غير علم، فكان أن كفروا وضلوا، يقول تعالى يصف حالهم وهم يتحدثون عن الأصنام: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر:3].
كما أن العابد إذا كانت عبادته لله على ظنٍ فاسدٍ، فإن عبادته هذه لا تُقبل، ويكون بذلك من الخاسرين، قال تعالى: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [فصلت: 23].
ويروى الدارمي أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كتب إلى أهل المدينة: "إنه من تعبد بغير علمٍ، كان ما يُفسد أكثر مما يصلح" [3].
العلماء فوق المجاهدين والشهداء:
بل إن من الفقهاء في الإسلام من رفع درجة العلماء فوق درجه المجاهدين في سبيل الله وليس فقط العُبَّاد!! يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وهو من علماء الصحابة الأفذاذ: "والذي نفسي بيده، ليودَّنَّ رجالٌ قُتلوا في سبيل الله شهداء، أن يبعثهم الله علماء؛ لما يرون من كرامتهم" [4]، أي: من كرامة العلماء، ويقول العلامة التابعي الحسن البصري -رحمه الله-: "يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء!!" [5].
وإن كان البعض قد يستغرب هذا الكلام، إلا أن حجته قوية، فالجهاد لا يُعرف فضله أساسًا إلا بالعلم، وعليه فلن يجاهد إلا من "علم" قيمة الجهاد ودرجة المجاهد، كما لن تُعرف شروط الجهاد ومشروعيته إلا بالعلم، ولن يُعرف فرض العين من فرض الكفاية فيه إلا بالعلم، ومن ثم فقد يترك "من لا يعلم" فرضًا ويقيم نافلة، وهذا لا يجوز، كما أنه قد يتعدى في جهاده الحدود المشروعة، أو يقاتل من لا يجوز قتاله، وهذا كله لا يجوز.
وهكذا؛ فالعلم هو الذي يحدد مشروعية الجهاد وحدوده، وبغير العلماء الصادقين لن يوجد مجاهدون على حق، بل قد يأثم المسلم بجهاده بغير علم!! وما فتنه الخوارج بخافية على أحد.
فتنة الخوارج:
فالخوارج كانوا يعبدون -الله تعالى-، ويقيمون الفرائض، ويجاهدون في سبيل الله، وذلك كله على غير هدًى من الله ولا علم؛ فكان أن خرجوا من الدين بالكلية، بينما هم يحسبون أنفسهم على أفضل درجات العبادة والجهاد !!
ولما همَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يقتل أحدهم -،كما يروى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دَعْهُ؛ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" [6].
فكانت آفتهم الرئيسية أنهم اجتهدوا بغير علم؛ فأدى بهم ذلك إلى أن يجاهدوا على باطل، حتى كان أحد زعمائهم، وهو عبد الرحمن بن ملجم والذي قتل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- - كان يظن تمام الظن أنه تقرب إلى -الله تعالى- بقتل أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين وزوج بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمبشر بالجنة مرارًا، علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-!!
وكان هذا اعتقادٌ راسخ عند كل الخوارج، حتى إنك لتجد عمران بن قحطان (أحد شعراء الخوارج المتأخرين)، يقول واصفًا هذه الطعنة اللئيمة التي قُتل بها علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-:
يا ضربةً من تقيٍّ ما أراد بها *** إلا ليبلُغ من ذي العرش رِضوانًا
إنــي لأذكــره حينًـــا فأحسبــه *** أوْفَى البـريَّــة عنـد الله ميزانًـــــا
كل ذلك، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حقه يوم خيبر -كما يروي سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ قَالَ: يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ" [7]، وحين كان الغد كان هذا الرجل هو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
ولم يقع عبد الرحمن بن ملجم (القاتل) في هذه الكارثة إلا بفقد العلم، يقول تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103- 104].
ولكم عانت الأمة الإسلامية من بعض المتحمسين للدين، المشتاقين للجهاد ولكن بغير علم، وقد أدى بهم حالهم هذا إلى أن يجتهدوا اجتهادات خاطئة، ويحكموا أحكامًا جائرة، فكانت النتيجة تكفير المجتمعات المسلمة، واستباحة دماء الأبرياء، والاستهانة بكل الحرمات، والقتل والسفك والظلم والبطش باسم الجهاد والدعوة والتضحية!! والإسلام من ذلك كله براء.
تعظيم العلم والعلماء:
ولأجل ذلك، ومن فقهٍ لمنزلة العلماء وقيمة العلم مقارنة بغيره، يقول كعب الأحبار -رحمه الله- موضحًا الحقيقة: "طالب العلم كالغادي الرائح في سبيل -الله تعالى-" [8]، وهو ما أكده أبو الدرداء -رضي الله عنه- حين قال: "من رأى الغدو والرواح إلى العلم ليس بجهاد، فقد نقص في عقله ورأيه" [9].
وترى سفيان بن عيينة -رحمه الله- ، وهو من التابعين يقول -أيضًا-: "من طلب العلم فقد بايع -الله تعالى-" [10].
ولذلك؛ فإن -الله تعالى- رفع قدر العلماء وعظم قيمتهم، يقول تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة: 11].
مكانة معاذ بن جبل:
وقد فقه الصحابة والتابعون والصالحون من هذه الأمة الكريمة هذا القدر؛ فعظموا علماءهم، ورفعوا من قدرهم، وحفظوا لهم مكانتهم، ولم يعتبروا في ذلك بعرقٍ ولا نسبٍ ولا جنسٍ ولا عمرٍ ولا منصب، إنما اعتبروا فقط بالعلم؛ فكان معاذ بن جبل -رضي الله عنه- على صِغر سنه معظمًا جدًّا بين الصحابة، حتى إنهم كانوا لا يرفعون أعينهم في عينه حياءً منه وتعظيمًا له -رضي الله عنه-. هذا مع أنه مات وهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، ولكنه عُظِّم بالعلم الذي كان يحويه في صدره -رضي الله عنه-.
يقول رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في حقه -،كما يروي أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ" [11].
ومن هنا نستطيع فهم الموقف الذي حكاه لنا أبو مسلم الخولاني -رحمه الله- (من التابعين)، وفيه يصور مدى احترام وتعظيم الصحابة لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- مع حداثة سنه، يقول أبو مسلم الخولاني: "أَتَيْتُ مَسْجِدَ أَهْلِ دِمَشْقَ فَإِذَا حَلْقَةٌ فِيهَا كُهُولٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَإِذَا شَابٌّ فِيهِمْ أَكْحَلُ الْعَيْنِ بَرَّاقُ الثَّنَايَا، كُلَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلى الْفَتَى فَتًى شَابٌّ -وفي رواية أخرى: ولا يصدرون إلا عن رأيه- قَالَ: قُلْتُ لِجَلِيسٍ لِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ" [12].
فقد وصف أبو مسلم الصحابةَ الذين هم حول معاذ -رضي الله عنه- بأنهم "كهول"، أي شيوخ كبار في السن، ورغم ذلك -وكما جاء في الحديث-؛ فكانوا يرجعون فيما يختلفون فيه وفيما لا يُدركون له حلاً إلى معاذٍ وهو يومئذ فتًى شاب، ولم يكن ذلك إلا لعلمه وفقهه -رضي الله عنه-.
وقد جاء في رواية أن هؤلاء الأصحاب كانوا نحو من ثلاثين كهلاً من الصحابة [13]!!
تقديم العلماء على غيرهم:
ويؤكد معنى تقديم العلماء على غيرهم بصرف النظر عن مناصبهم ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو أن نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ -وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ- فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى. قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى! قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ -الله تعالى-، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ" [14].
وفي مثل ذلك ما روي أن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- صلى على جنازة فقُرِّبت إليه بغلته ليركبها؛ فجاء ابن عباس -رضي الله عنه- ما فأخذ بركابه؛ فقال زيد: خلِّ عنه يا ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء؛ فقبَّل زيد بن ثابت -رضي الله عنه- يده وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا -صلى الله عليه وسلم- [15].
فعبد الله بن عباس -رضي الله عنه- ما يرفع من قدر زيد بن ثابت -رضي الله عنه- ويوقِّره ويقدِّمه، ويمسك له دابته رغم صغر سنه، وليس ذلك لشيءٍ إلا لعلمه وفقهه، وكان هذا عموم حال الصحابة -رضي الله عنهم- وعهدهم مع العلماء.
يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "إن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشي له سرًّا، ولا تغتابن أحدًا عنده، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما دام يحفظ أمر -الله تعالى-، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته" [16].
وقال علي -رضي الله عنه- أيضًا: "العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة (أي: ثغرة) لا يسدها إلا خلفٌ منه" [17].
وقال أيضًا منشدًا:
مـا الفخـر إلا لأهــل العلــم إنهــم *** على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقــدر كل امــرئٍ ما كان يحسنـه *** والجاهلــون لأهــل العلم أعـداءُ
ففــزْ بعلــمٍ تعــشْ حيًّــا بـه أبــدًا *** الناس موتى وأهل العلــم أحياءُ
بل يذكر الغزالي -رحمه الله- في الإحياء أن حق المعلم أعظم من حق الوالدين؛ لأن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية، فهو معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة [18].
ثم يقرر الغزالي -بعد أن أورد قول ابن المبارك حين سُئل: من الناس؟ فقال: العلماء. قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد- فيقول: "ولم يجعل غير العالم من الناس؛ لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم؛ فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله، وليس ذلك بقوة شخصه، فإن الجمل أقوى منه، ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه، ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه، ولا بأكله فإن الثور أوسع بطنًا منه، ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه، بل لم يخلق إلا للعلم" [19].
ويروي عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف عالمنا" [20] أي يعرف لعالمنا حقه.
وفي قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر كان غاية توقير العلماء وإجلالهم؛ فمع كون موسى -عليه السلام- أعلى قدرًا وأعظم مكانة؛ كونه ليس نبيًّا فقط، بل من أولى العزم من الرسل، إلا أنه قال للخضر موقرًا مبجِّلا: "هل أتبعك؟"!
فهو يصرح بأنه سيتبع الخضر، وسبب الاتباع هو العلم: (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [الكهف: 66]، ثم هو يستأذن منه، ويسترضيه، ويستسمحه. لا لشيء إلا للعلم الذي رفع من قدر الخضر، وجعل له هيبة واحترامًا وإجلالاً.
ويقول الزهري -رحمه الله- (وهو من التابعين العظماء) مقررًا: "كنت آتي باب عروة بن الزبير -رضي الله عنه-ما (وهو أيضًا من التابعين) فأجلس بالباب، ولو شئت أن أدخل لدخلت، ولكن إجلالاً له" [21]!!
وفي سبيل التربية على ذلك يقول الحسن بن علي -رضي الله عنه-ما لابنه ناصحًا ومرشدًا: "يا بنى، إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت، ولا تقطع على أحد حديثًا -وإن طال- حتى يسمِّك".
وعلى هذا ظلت مكانة العلماء محفوظة ومرموقة في الأمة الإسلامية، وظل قدرهم مرفوعًا فوق غيرهم من المسلمين.
ولقد كان الناس يجتمعون بالآلاف حول البخاري -رحمه الله- ليعلمهم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو بعد في السادسة عشرة من عمره!!
يقول الشافعي -رحمه الله-:
وإن صغير القوم إن كان عالمًا *** كبيرٌ إذا ردت إليه المحافـــــــل
الحلفاء وتعظيم العلماء:
ولم يكن هذا التقدير من جانب العامة فقط، بل كان أيضًا من قبل الأمراء وأصحاب السلطان، فكانوا ينزلون العلماء منازلهم ويرفعونهم قدرهم، ولذلك عزَّت أمتهم، وسادت غيرها من الأمم؛ ففي أحد مواسم الحج جاء أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك -رحمه الله- إلى الحج هو واثنان من أبنائه الأمراء، فاحتاجوا إلى إجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بالحج، ولم يجدوا لذلك أفضل من العلامة عطاء بن أبي رباح [22] -رحمه الله-؛ فذهبوا إليه وهو يصلي، فانتظروا إلى جواره حتى انتهى من صلاته؛ فبدءوا يسألونه وهو يجيبهم في وضع الصلاة لا يلتفت إليهم، وهو يقبلون بهذا الوضع لأنهم يحتاجون إلى العلم، وبعد انتهاء الأسئلة انصرفوا، ثم جمع أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك -رحمه الله- ولديه وقال لهما: "يا بني، لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود" [23]!!
وكان عطاء بن أبي رباح -رحمه الله- (من التابعين) عبدًا أسودًا لامرأة من مكة !!
وصدق قول الشاعر:
العلم يرفع بيتًا لا عماد له *** والجهل يهدم بيت العزِّ والشرفِ
وكان المأمون قد وكل الفراء يلقن ابنيه النحو؛ فلما كان يومًا أراد الفراء أن ينهض إلى بعض حوائجه؛ فابتدرا إلى نعل الفراء يقدمانه له، فتنازعا أيهما يقدمه، فاصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فردًا فقدماها، فرفع ذلك الخبر إلى المأمون، فوجه إلى الفراء فاستدعاه، فلما دخل عليه قال: من أعز الناس؟ قال: ما أعرف أعز من أمير المؤمنين، قال: بل من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى رضي كل واحد أن يقدم له فردًا!! قال: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما عن ذلك، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها أو أكسر نفوسهما عن شريعة حرصا عليها، فقال له المأمون: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لومًا وعتبًا وألزمتك ذنبًا، وما وَضَعَ ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما وبيَّن عن جوهرهما، ولقد ظهرت لي مخيلة الفراسة بفعلهما؛ فليس يكبر الرجل وإن كان كبيرًا عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه، ووالده، ومعلمه العلم.
وإن جواب المأمون هذا ليعكس نظرة الإسلام والأمة الإسلامية كلها آنذاك إلى العلم والعلماء، وما كانوا عليه رعاة ورعية من العناية والاهتمام والتعظيم والإجلال للعلم وأهله.
فكان العالِم حقًا أعز الناس، وهذه هي الدرجة والمنزلة التي قررها الصالحون لعلماء الأمة وحفظوها لهم وأنزلوهم إياها، وقد علموا أنهم مصابيح الدجى التي يُهتدى بها، وهو الأمر الذي أورثهم عزًا ومجدًا وتقدمًا وحضارة ورفعة !!
فإن أردت -أخي في الله- أن تصبح عالمًا، فلابد لك أولًا أن تعرف منزلة ما تطلب، ومكانة ما تهفو إليه نفسك؛ فليس في الدنيا أعز ممن ورث الأنبياء، واستغفر له أهل الأرض والسماء !!
_____
[1] الترمذي: كتاب العلم، باب فضل الفقه على العبادة (2682) واللفظ له، وأبو داود (3641)، وابن ماجة (223)، وأحمد (21763)، والدارمي (342)، وابن حبان (88)، وقال الألباني: صحيح (6297) صحيح الجامع.
[2] الترمذي: كتاب العلم، باب فضل الفقه على العبادة (2685)، وقال الألباني: صحيح (4213) صحيح الجامع.
[3] أبو عبد الله الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/ 349.
[4] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 1/8.
[5] المصدر السابق.
[6] البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3414)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم (1064)، وابن حبان (6741)، وعبد الرزاق (18649)، والبيهقي في سننه الكبرى (16479).
[7] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم على يديه رجل (2847)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب (2406)، وابن حبان (6932).
[8] أبو نعيم: حلية الأولياء 5/377.
[9] ابن القيم: مفتاح دار السعادة 1/71.
[10] ابن القيم: مفتاح دار السعادة 1/71.
[11] الترمذي: كتاب المناقب، باب مناقب معاذ بن جبل (3790)، وابن ماجه (154)، وأحمد (14022)، وابن حبان (7137)، والطيالسي (2096)، وقال الألباني: صحيح (1224) السلسلة الصحيحة.
[12] أحمد (22117)، وقال شعيب الأرنؤوط إسناده صحيح.
[13] انظر الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/ 20.
[14] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه (817)، أبو القاسم الطبراني: مسند الشاميين (2999).
[15] ابن القيم: مدارج السالكين 2/330، المتقي الهندي: كنز العمال 13/370.
[16] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 1/51.
[17] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 1/7.
[18] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 1/55.
[19] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 1/7.
[20] أحمد (22807) واللفظ له، والحاكم (421)، وقال الهيثمي: رواه أحمد وإسناده حسن، وقال الألباني: صحيح (101) صحيح الترغيب والترهيب.
[21] سنن الدارمي (569).
[22] نشأ عطاء بن أبي رباح بمكة، وكان عبدًا أسود لامرأة، وكان أنفه كأنه باقلاة وكان بنو أمية يأمرون في الحاج صائحًا يصيح لا يفتى الناس إلا عطاء بن أبي رباح، ويقول عنه الأوزاعي: ما رأيت أحدا أخشع لله من عطاء، ومات بمكة عام 115وعمره 88. صفة الصفوة2/ 212- 214.
[23] ابن الجوزي: صفة الصفوة 2/212.