منزلة العبد عند ربه ومن ذلك فرحه بتوبة عبده
محمد بن عبدالله التميمي
الحمد لله، جميعُ أَسمائه وصفاتِه حمد، وأَفعالُه سبحانه حمد، وأَحكامُه حمد، وعدلُه حمد، وانتقامُه من أَعدائه حمد، وفضلُه في إحسانه إلى أَوليائه حمد، والخلقُ والأَمرُ إِنما قام بحمده، وَوُجد بحمده، وظهر بحمده، وقيام كل شيء بحمده، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُ الله ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، فإنه حقيقٌ بالعبد أن يتقي مولاه، فمن أطاع الله انقلبت المخاوف في حقه أمانا، ومن عصاه انقلبت مآمنه مخاوف {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
عباد الله.. اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اخْتَصَّ الْإِنْسَانِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ بِأَنْ كَرَّمَهُ وَفَضَّلَهُ وَشَرَّفَهُ، وَخَلَقَهُ لِنَفْسِه -سبحانه فيشتغل بعبادته-، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ، وَخَصَّهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَقُرْبِهِ وَإِكْرَامِهِ بِمَا لَمْ يُعْطِهِ غَيْرَهُ، وَسَخَّرَ لَهُ مَا فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ وَمَا بَيْنَهُمَا، حَتَّى مَلَائِكَتَهُ - الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ قُرْبِهِ - اسْتَخْدَمَهُمْ لَهُ، وَجَعَلَهُمْ حَفَظَةً لَهُ فِي مَنَامِهِ وَيَقَظَتِهِ، وَظَعْنِهِ وَإِقَامَتِهِ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَ الرُّسَلَ إِلَيْهِ، وَخَلَقَ لَهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَخَلَقَ الْأَمْرَ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، فَالْمُؤْمِنُ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَخِيَرَةُ اللَّهِ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّهُ خَلَقَهُ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، وَلِيَتَوَاتَرَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، ومن منزلة العبد أن الله سبحانه وهو الغني أفرح بتوبة عبده من حالٍ وصفها رسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين بقوله: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ" فحقيقٌ بالعبد أن يكون محققا التَّوْبَة بالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ بِالْتِزَامِ فَعْلِ مَا يُحِبُّ، وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُ، وقد عَلَّقَ سُبْحَانَهُ الْفَلَاحَ الْمُطْلَقَ عَلَى ذلك، فَقَالَ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ ظالم وكذلك فَاعِلَ الْمَحْظُورِ، قَالَ الله تعالى ذكره: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
عباد الله.. إن الله أمر بالتوبة توبة نصوحا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} والنُّصْحُ فِي التَّوْبَةِ –كما يقول ابن القيم- يَتَضَمَّنُ تَعْمِيمَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ، وإِجْمَاعَ الْعَزْمِ وَالصِّدْقِ عَلَيْهَا، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى تَرَدُّدٌ وَلَا تَلَوُّمٌ وَلَا انْتِظَارٌ، بَلْ هو البدار .
والثَّالِثُ تَخْلِيصُهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَالْعِلَلِ الْقَادِحَةِ فِي إِخْلَاصِهَا، وَوُقُوعُهَا لِمَحْضِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا لَدَيْهِ.
عباد الله.. إن تَوْبَةُ الْعَبْدِ إِلَى اللَّهِ مَحْفُوفَةٌ بِتَوْبَةٍ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ قَبْلَهَا، وَتَوْبَةٍ مِنْهُ بَعْدَهَا، فَتَوْبَتُهُ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنْ رَبِّهِ، سَابِقَةٍ وَلَاحِقَةٍ، فَإِنَّهُ تَابَ عَلَيْهِ أَوَّلًا إِذْنًا وَتَوْفِيقًا وَإِلْهَامًا، فَتَابَ الْعَبْدُ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ثَانِيًا، قَبُولًا وَإِثَابَةً {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا أجمعين بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه
الخطبة الثانية
عباد الله.. الزموا طريق الاستقامة بأمر الله ولأجل الله رجاء ثواب الله وخوفَ عقابِه، فلا يكن تفريط في حق الله، فانه لما أمر الله عباده بالاستقامة خوفهم بأن سبحانه بعملهم بصير فلا يعزب عنه شيء الكبير ولا الصغير {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قال عمر بن عبد العزيز : "ليست التقوى قيام الليل ، وصيام النهار ، والتخليط فيما بين ذلك ، ولكن التقوى أداء ما افترض الله ، وترك ما حرم الله ، فإن كان مع ذلك عمل ، فهو خير إلى خير" .
عباد الله.. والناس في إثابة الله لهم متفاوتون، فيما يذرون من المعاصي ويتركون، إذ الداعي إلى فعل المعاصي –كما يقول الحافظ ابن رجب- قد يكون قويا لا صبر معه للعبد على الامتناع عن فعل المعصية مع القدرة عليها ، فيحتاج الكفُّ عنها حينئذ إلى مجاهدة شديدة، ربما كانت أشقَّ على النفوس من مجرد مجاهدة النفس على فعل الطاعة، ولهذا يوجد كثير ممن يجتهد فيفعل الطاعات، ولا يقوى على ترك المحرمات، وقد سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن قوم يشتهون المعصية ولا يعملون بها، فقال: {أولئك قوم امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم}.
المرفقات
منزلة-العبد-عند-ربه-ومن-ذلك-فرحه-بتوبة
منزلة-العبد-عند-ربه-ومن-ذلك-فرحه-بتوبة