مِنّة الغفّارْ - بنزولِ الأمطارْ
خالد علي أبا الخيل
مِنّة الغفّارْ - بنزولِ الأمطارْ
التاريخ: الجمعة:8 –ربيع أول-1440 هـ
الحمد لله، الحمد لله الذي أغنى وأعطى وله الشكر على ما أنزل من الغيث وسقى، والحمد لله اللطيف بعباده، الرحيم بخلقه، الواسع فضله، الكريم عطاءه، العظيم جوده، الكثير موجوده، السابغ إحسانه، وأشهد أن لا إله الله الواحد الأحد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من شكر وركع وسجد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه من أهل البر والثناء الأمجد.
أما بعد...
عباد الله: اتقوا الله فتقواه فوزٌ وسعادة، ونماءٌ وزيادة، وعطاءٌ ليس لها نهاية.
عباد الله: إن الله سبحانه لا يُقنِّط عباده، ورحمته واسعة، ولُطفه كبير، وجوده كثير (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (الشورى:28).
(فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم:48-50).
فله الشكر على إنزال الغيث المدرار والأمطار الغزار، فسالت الأودية والشِّعاب، وابتهجت الأرض، واخضرت الأشجار، وازدهرت الثمار، فهي سَنةٌ بحمد الله تاريخيةٌ فردية عمَّت الفيافي والقفار وجرت بطون الأودية والبحار وفرح بها البدو والحُضَّار.
أيها المسلمون: إن النعم إذا شُكِرت نمت وزادت، وإذا كُفِرت فرَّت وزالت، والله يأمرنا بشكره (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة:172) فإظهار الشكر بنِعمه يعني الاعتراف بهذه المنة، فاشكروه واحمدوه.
إن الماء -أيها الإخوة الأوفياء- مادة الحياة والإحياء سببٌ للبقاء ووسيلةٌ للنقاء وعنصر النماء الماء لا يستغني عنه أحدٌ طرفة عين، الناس منه يشربون، وبه يزرعون، ويحرثون، ويتطهرون، وربنا يمتن به على عباده (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام:99) فهذه القطرات النازلة، والنُّقاط المتتالية والأمطار المتدفقة منها تملأ الأنهار، وتسيل الأودية والبحار (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (الرعد:17).
بالمياه تخضر الأشجار وتتفتق الثمار، قال الواحد الأحد القهار: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً) (الحج:63).
هذا الماء نماءٌ للأكل والطعام، وبدونه لا أكلٌ ولا منام، قال الملك العلام: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ) (السجدة:27).
والغيث -عباد الله- لا يعلم متى نزوله إلا الله (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) (لقمان:34) ولا يُنزله إلا الله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) (الملك:30) فالله مُنزِّلهُ والمنفرد بعلمه ونزوله ويُنزِّله بقدرٍ على من يشاء (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) (الفرقان:50).
قال ابن عباسٍ وابن مسعودٍ –رضي الله عنهما-: ليس عامٌ بأكثر مطرًا من عام، لكن الله يُصرِّفه كيف يشاء، ثم قرأ (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ) (الفرقان:50).
هذا الماء فيه حياة الأرض وإحياء النبات قال سبحانه: (أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164).
وكما أنه حياة الأرض فهو حياة الأحياء، قال المولى عزَّ وجلَّ وعلا: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء:30).
وفي الماء أيها الأصحاب سُقيا وشراب، ورعيٌ للدواب، قال الملك الوهاب: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) (النحل:10).
وقال سبحانه: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) (الحجر:22) وفي الماء أيها الأخيار إخراج ألوان الثمار والفواكه والأشجار، قال الهادي لكل محتار: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا) (فاطر:27).
(وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) (ق:9-10).
وقال تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) (النبأ:14-16).
ومن منافع المياه أن الله يُقرر توحيده وأنه المستحق للعبادة بهذا الماء الذي يعجز المخلوق إنزال قطرةٍ واحدةٍ منه (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (الواقعة:68-70].
ومن فوائده أن الأرض تراها مصفرةٌ ذابلة فبنزوله تتفتق وتخضر وتتشقق (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج:5).
وفي نزول الأمطار رحمة العزيز الغفار؛ ولهذا إذا نزل قال الرسول المختار: (هَذِهِ رَحْمَةٌ)، وقال سبحانه: (وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ) (الشورى:28).
قال بعض السلف: إني لأفرح بنزول المطر ولا لي زرعٌ ولا بهيمة، ولكن رحمة الله تنزل مع نزول المطر.
وفي نزول الأمطار الافتقار للواحد القهار، وحاجة العباد إلى المطر، وغناه سبحانه عن خلقه، وإظهار قوته وقدرته وقهره سبحانه، فلولا ربنا ومولانا وخالقنا ورازقنا ما نزلت قطرةٌ واحدةٌ من السماء (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (الشورى:28) كم تُعطيك هذه الآية درسًا وافتقارًا، ذُلًا وإخباتًا.
وفي نزول الأمطار تعظيم الله وتعظيم أمره، فله القدرة الباهرة، والقوة القاهرة (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الأنعام:91) (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) (نوح:13).
وفي نزول الأمطار –أيها الأخيار- سعة علمه سبحانه فما تنزل قطرةٌ من السماء إلا يعلمها، ولا تلج في الأرض إلا بعلمه، ويعلم دخولها، ومكانها، فيعلم عدد قطر الأمطار، وكميات المياه والبحار.
وفي نزول الأمطار –بوأكم الله منازل الأخيار- دعاء الله والثناء عليه، وسؤاله وشكره فهو القريب المجيب (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة:186) فيسمع من ناداه ويستجيب لمن دعاه.
وفي نزول الأمطار تلافي الأخطار والبعد عن مواطن الهلاك والدمار، والإتلاف والغرق والانحدار.
وفي نزولها لُطف الله بعباده، فالله لطيفٌ بعباده لطفه برحمتهم وإعطائهم، وإفراحهم وإغنائهم، ورزقهم وإكرامهم.
وهوَ اللَّطِيفُ بِعَبْدِهِ وَلِعَبْدِهِ |
|
واللطفُ في أوصافِهِ نَوْعَانِ |
إدراكُ أسرارِ الأمورِ بِخِبْرَةٍ |
|
واللطفُ عندَ مَوَاقِعِ الإحسانِ |
فَيُرِيكَ عِزَّتَهُ وَيُبْدِي لُطْفَهُ |
|
والعبدُ في الغَفَلاتِ عنْ ذا الشَّانِ |
ومن الدروس وتزكية النفوس: تدبير الله لخلقه ومُلكه (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ) (السجدة:5) (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ) (النور:44).
فالمُلك مُلكه، والخلق خلقه (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء:23).
والأمر أمره (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) (الأعراف:54).
يُقلِّب الأجواء ويُنزِّل الأمطار، ويُرسل الرياح والصواعق، ويُعطي ويمنع، ويخفض ويرفع.
وفي نزول الأمطار التفاؤل وحُسن الظن بالواحد القهار وأن فرج الله قريب، وأن مع العسر يسرًا، ومع الهم والغم فرجًا، ومع الدَّين والمرض والقلق مخرجًا.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه.
الناس –عباد الله- بحمد الله، وبفضل الله يفرحون، ولنِعمه يشكرون، ولخيراته ونعمائه يستبشرون، فانظرهم بحمد الله عند هطول الأمطار، ونزول القطر المدرار يستبشرون ويدعون، ويسألون ويشكرون، وحُق لهم، وهذا واجبهم نحو ربهم، فربنا يقول: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم:7).
(فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (الروم:50).
وقبلها يقول: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) (الروم:48-49).
والفرح بنزول الأمطار سُنَّة الرسول المختار، فكان عليه الصلاة والسلام إذا كان يوم الريح والغيم عُرِف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سُر به وذهب عنه؛ ولذلك قالت عائشة: فقال: (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي) ويقول إذا رأى المطر: (رَحْمَةٌ) رواه مسلم.
وكان النبي ﷺ إذا نزل المطر خرج إليه، يقول أنس: أصابنا ونحن مع رسول الله ﷺ مطرٌ، فحسر ثوبه؛ حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله لِم صنعت هذا؟ قال: (أَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ) وحسر ثوبه أي: عن بعض بدنه (حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ) أي: جديدٌ قريبٌ لم يُتناول بعد ولم يتغير بملابسة شيء.
كما أنه من باب الفرح والسرور الذهاب بالنفس والأهل إلى النزهة، والنظر إلى أماكن السيل ومجرى المياه، والشِّعاب والأودية، فكان النبي ﷺ يذهب إلى التلاع وكذا أصحابه.
يقول ابن رجب $: وأما الخروج إلى البادية أحيانًا للنزهة ونحوه في أوقات الربيع وما أشبهه، فقد ورد فيه رخصة، ففي سُنن أبي داود عن المقدام ابن شُريحٍ، عن أبيه، عن عائشة سُئِلت هل كان النبي ﷺ يبدو؟ فقالت: نعم إلى هذه التلاع، ولقد بدا مرة فأوتي بناقة، فقال: (يا عائشة اركبيها).
وفي الخروج: ترفيهٌ بريء، وطِيب النفس وراحة البال، وإيناس العيال، وتنشيطٌ للنفس على الطاعة والعبادة، وسلامة الصدر وانشراحه.
وفي الخروج: تأمل نِعم الله وخيراته وبركاته وعطائه.
وفي الخروج: التفكر في آيات الله ومخلوقاته، والنظر إلى هذه الأمطار والنباتات، والأشجار والثمرات (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (فصلت:39).
(قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (العنكبوت:20) (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) (ق:9).
فالتفكر عبادة لاسيما إذا قرنته بشيءٍ محسوس، فذلك أرسخ لِما في النفوس، فتُعطي نفسك وذريتك وأهلك درسًا واقعيًّا عمليًّا، فاستغل المواقف وأتحف المجلس بالأنس والطرائف.
ومن فوائد الخروج إلى التلاع والبر والبروز: النظر إلى الخضرة والثمار، فيجد المرء راحة نفسه وانشراح صدره وذهاب همه وغمه، وقد روى أبو نُعيم أن سعيد بن المسيب اشتكى عينه، فقيل له: لو خرجت إلى العقيق، فنظرت إلى الخضرة، ووجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك، فقال سعيدٌ: وكيف أصنع بشهود العشاء والعتمة؟!
رحمك الله يا سعيد همُّك الشاغل خوفك فوات الجماعة وشهودها مع الجماعة؛ فماذا عسى أن تقول لأناسٍ إذا خرجوا إلى البراري والمنتزهات ضيعوا الصلوات، وربما جمعوها بدون عذرٍ شرعي، وتساهلوا بالطاعات، وارتكبوا السيئات؟! هذا مع العلم أن سعيد بن المسيب مكث أربعين سنة ما أذَّن المؤذِّن إلا وهو في المسجد، فرحمة الله على تلك الأرواح وهمَّة تلك الأشباح.
ألا فليكن خروجنا لرؤية الأمطار مقرونًا بالشكر والاعتبار، والتفكر والادكار، والتوبة والاستغفار، والفرح والسرور والاستبشار وعلينا الحذر من المغامرة والمخاطرة، وسلوك الطرقات الوعرة، والشِّعاب والأودية، والأماكن المنخفضة، والتعرض للمياه والمجازفة في الدخول، فكم رأينا من المقاطع المحزنة المؤسفة يتقطع القلب معها أسفًا.
وكذلك الانتباه للأبناء في ذهابهم مع من يشاؤون بحجة الاستمتاع بهذه الأجواء الجميلة، وربما زلقوا في مهاوي الرزيلة، والأخلاق الذميمة.
والحذر من الأودية، ومزالق الطين، ومجتمعات السيول، فاستمتعوا –عباد الله – بما أباح الله لكم، والزموا طاعة ربكم، واخرجوا وانبسطوا، واحمدوا ربكم واشكروه.
وعليكم بالمحافظة والنزاهة، والحشمة والعفة واللطافة، ودَعوا المكان أفضل مما كان، وتساعدوا وتعاونوا على الإحسان، واسألوا الله البركة فيما أنزل عليكم وأعطاكم، فقد روى أحمد: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُمْطَرَ النَّاسُ مَطَرًا عَامًّا وَلَا تَنْبُتَ شَيْئًا).
وعند مسلم: (لَيْسَتِ السَّنَةُ أَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا، وَلَا يُنْبِتُ الله شَيْئًا).
فتفاءلوا وأحسنوا ظنكم بربكم وأمِّنوا.
هذا ومما ينبغي أن يُعلم ويُذكر عند نزول الغيث والمطر، والخروج للنزهة والسفر الحرص على الصلاة بأوقاتها، وعدم التساهل حتى يخرج وقتها، والأذان للصلاة عند إرادة الصلاة، ورفع الصوت بذلك وإن كان وحده، وكذلك للإنسان الجمع والقصر إذا جاوز الحد المعتبر بين العشاءين أو الظهرين، وكذا له الجمع عند الحاجة والمصلحة وحصول الخطر، وعلى الإنسان أن يتأكد من استقبال القبلة، ويتحرى استقبالها بقدر الإمكان.
ومن ذلك عند نزول الغيث للإنسان أن يدعو بما شاء، وبما جاء في السُّنَّة أولى وهو (اللهم صيِّبًا نافعًا) (مُطرنا بفضل الله ورحمته).
وإذا خُشي من المطر وحصول الضرر فله أن يدعو بما صح عن سيد البشر: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ).
وإذا سمع الرعد والصواعق قال ما ثبت عن عبد الله بن الزبير: "سُبْحَانَ الَّذِي سَبَّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، والـمَلائِكَةُ مِنْ خِيْفَتِهِ"
ومن ذلك: أن يحسر عن رأسه ويُظهر جسمه؛ ليُصيبه المطر كما فعل سيد البشر.
ومن ذلك: النظافة والنزاهة في الأماكن المتنزَّهة، وعدم رمي الأشربة والأطعمة أو المخالفات في البرية، فعوِّد نفسك وبنيك وأهلك على النظافة والنزاهة.
ومما ينبغي أن يُعلَم: ان الأصل في المياه والأودية، والآبار، ومياه الشوارع، ومناقع الماء الطاهرة، فهي طاهرةٌ مطهِّرة ما لم تُعلم النجاسة (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (الأنفال:11).
ولتحرص على ذكر الله، والتفكر في مخلوقات الله، ولا تنسى إذا نزلت منزلًا قول الدعاء المأثور: "أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ" فهو حمايةٌ وحفظٌ لك ولمن معك من كل أذى وضرر، فمن قاله لم يضره شيء؛ حتى يرحل من منزله ذلك.
والحذر من الصلاة إلى النار الملتهبة، ويجوز الصلاة في مرابض الغنم، وإنما المنهي الصلاة في أعطان الإبل.
ومن الآداب: ألا يبول في مستقبل الريح؛ لأن هذا يعود عليه بالأذى والوسوسة، وإذا أراد البراز فليبتعد، حتى لا يراه أحد بخلاف البول.
وإسباغ الوضوء وإكماله مع البرد والمشقة المحتملة سببٌ لرفع الدرجات وتكفير السيئات، وللإنسان أن يتيمم عند الحاجة؛ لشدة البرد أو يخشى الضرر أو عند فقد الماء، وله المسح على الخفين يومٌ وليلة للمقيم، وثلاثة أيامٍ بلياليها للمسافر، ولا يستقبل القبلة حال قضاء الحاجة، بل ينحرف عنها يمنةً أو يسرى.
هذه بعض الأحكام والآداب لمن خرج للنزهة ورؤية الأمطار والتراب.