مناجاة للنفس أمام آخر ورقة بالتقويم..

عبد الله بن علي الطريف
1445/12/27 - 2024/07/03 21:38PM

مناجاة للنفس أمام آخر ورقة بالتقويم.. 1445/12/30هـ

أيها الإخوة: لما قَلَبْتُ صَفحَةَ اليومِ الجمعةِ من حاملِ التقويم بدت لي ورقةَ غدٍ السبت لوحدِها.. فنظرتُ إلى الناحية الأخرى من كرسي التقويم فوجدت أوراقَ العامِ قد حُمَّلَتْ على الجهةِ الأخرى وقد تضخَّمَ حجمُها.. فرأيتُ أن هذا المشهدَ يستحقُ التأملَ والاعتبارَ.!

من هذه العبر: أنَّ اللهَ تعالى أوجدَ لنا في هذا الكونِ ما يذكرُ به سبحانَهُ من كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد، فالشمسُ تطلع ُكلَّ يومٍ من مشرقِها وتغربُ في مغربِها وفي هذا أعظمَ الاعتبارِ، فطلوعُها ثم غيابُها إيذانٌ بأنّ هذه الدنيا ليست دارَ قرارٍ، وإنما هي طلوعٌ وزوالٌ.

انظروا إلى الشهورِ، تهلُّ فيها الأهلّةُ صغيرةً كما يولَدُ الأطفال.. ثم تنمو رويدًا، رويدًا كما تنمو الأجسامُ.. حتى إذا تكاملَ نموُّها أخذت في النقصِ والاضمحلال..

وهكذا الأعوامُ تتجدَّدُ على الإنسانِ عامًا بعد عام، فإذا دخَل العامُ الجديدُ نظرَ الإنسانُ إلى آخرِه نظرَ البعيدِ، ثم تمرُّ به الأيامُ سِراعًا فينصرمُ العامُ كلمحِ البصرِ فإذا هو في آخرِ العام، وهكذا عُمرُ الإنسانِ يتطلَّعُ إلى آخره تطلُّعُ البعيدِ، فإذا به قد هجمَ عليه الموتُ وصارَ خبرًا بعد عين.. وصدقَ الحسنُ البصري رحمه الله عندما قال: "يا ابنَ آدم إنما أنتَ أيامٌ كُلما ذهبَ يومٌ ذهبَ بعضُك.." وقال: "إذا أشرقت شمسُ يوم جديد، ناداك: يا ابن آدم.. إني يومٌ جديد، وعلى عملِك شهيد، فاغتنمني فإني إن ذهبت لا أعود" وقال آخر:

وما المرءُ إلا راكبٌ ظهرَ عُمرِه **** على سَفرٍ يفنِيهِ باليومِ والشهرِ

يبيتُ ويُضـحي كـلَ يومٍ وليلةٍ **** بعيداً عن الدنيا قريبـاً من القبرِ

ومما يوحي به منظر الورقة الوحيدة: أنه لابد لكل واحدٍ منا أن يقف وقفة مراجعة لما قدمه في هذا العام من خير وغيره.. وأعنى بذلك محاسبة النفس، ومعنى المحاسبة كما قال الماوردي رحمه الله: أن يتصفح الإنسانُ في ليلِهِ ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شاكلَه وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركَه وانتهى عن عملِ مثلهِ. اهـ.. وهذا يؤكد أن المحاسبة للنفس ليست في نهاية العام، بل ينبغي للمسلم أن يستمر عليها كل يوم.. ويؤكدُ الإمام الغزالي رحمه الله ذلك بقوله: "اعلم أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقتٌ في أوّلِ النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكونَ له في آخر النهار ساعةً يطالب فيها النفسَ ويحاسبُها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعلُ التجارُ في الدنيا مع الشركاء في آخر كلِّ سنة أو شهر أو يوم، حرصًا منهم على الدنيا، وخوفًا من أن يفوتَهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيـرة لهم في فواته... فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلقُ به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد.؟! ما هذه المساهلةُ إلا ناتجةً عن الغفلةِ والخذلانِ وقلةِ التوفيق نعوذ بالله من ذلك". أ هـ

وهذا لا يعني أن نهمل الوقفة مع النفس في نهاية العام، لتصفْحِ ما قدمنا من خيرٍ.. وهل نحن في العام المنصرم أفضلُ أم ما زلنا فيما نحن فيه.. أم أننا وقعنا في قصور، ثم ماذا سنعملُ في عامنا الجديدِ، وما الجوانبُ الطيبةُ فنحافظُ عليها ونزيد فيها، وما هي جوانبُ القصور فنحاول تقويم أنفسنا.. واعلموا أن هذه الوقفة خير معين للرقي بالنفس لمقامات أفضل سواء في التزود من خيرِ الدنيا أو الآخرة وهو الأهم.. 

ومن العبر: أن منظر أوراق العام المنصرم التي قاربت 360 ورقة تذكرنا بتطاير الصحف يوم القيامة، وقد حدثنا ربنا سبحانه عن مشهد الحساب والجزاء في يوم الحساب فقال: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الزمر:69]. وحسبنا أن نعلم أن القاضي والمحاسب في ذلك اليوم هو الحكمُ العدلُ قيومُ السماوات والأرض ليتبين لنا عِظمُ هذا المشهدِ وجلَاله ومهابته.. ففيه يطلعُ العباد على ما قدموا من أعمال، وإعذاره تعالى لخلقه، وعدله في عباده، وأنه تعالى يطلعُهم على ما قدموه من صالح أعمالهم وطالحها، حتى يحكموا على أنفسِهم، فلا يكون لهم بعد ذلك عذر.. قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30] وإطلاع العباد على ما قدموه يكون بإعطائِهم صحائفَ أعمالهم، وقراءتِـهم لها، فقد أخبرنا ربنا تبارك وتعالى أنه وَكَّلَ بكلِ واحدٍ منا ملكين يسجلان عليه صالحَ أعماله وطالحَها، فإذا مات خُتم على كتابه، فإذا كان يوم القيامة أُعطى العبدُ كتابه، قال تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا* اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء:13-14].. وهو كتاب شاملٌ لجميع الأعمال كبيرِها وصغيرها (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49]. قال القرطبي رحمه الله: "فلو تصورَ أحدنُا نفسَه يوم العرض إذا تطايرت الكتب، ونصبت الموازين، وقد نُودِي باسمه على رؤوس الخلائق: أين فلانُ بنُ فلانٍ؟ هلم إلى العرض على الله تعالى.. وقد وُكلت الملائكةُ بأخذه، فقربته إلى الله، لا يمنعها اشتباه الأسماء باسمه واسم أبيه، فإذا عرف أنه المرادُ بالدعاء وقرع النداءُ سمعه، وعلم أنه المطلوب ارتعدت فرائصه، واضطربت جوارحه، وتغير لونه، وطار قلبه، ثم تُخُطِيت به الصفوف إلى ربه للعرض عليه، والوقوفِ بين يديه، وقد رفع الخلائق إليه أبصارهم، وهو في أيدي الملائكة قد طار قلبه، واشتد رعبه، لعلمه أين يُراد به، فإذا وقفَ بين يدي ربه، في يده صحيفةٌ مخبرةٌ بعمله، لا تغادر بلية كتمها، ولا مخبأة أَسَرَّها، وهو يقرأ ما فيها بلسانٍ كليل، وقلبٍ منكسر، والأهوال محدقةٌ به من بين يديه ومن خلفه، فكم من بلية قد نَسِيَها ذُكْرَ بها! وكم من سيئة قد أخفاها قد أظهرها الكتاب وأبداها!" انتهى بتصرف من التذكرة للقرطبي. فيا الله ما أعظمه من موقف.. ألا فلنُعِدُ لهذا الموقف عُدتَه ونُكثر من الاستغفار، فـ «طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا» من قَولَ النَّبِيِّ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ رواه ابن ماجة وصححه الألباني.. ومن أنفع صيغه قولُ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ؛ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ» رواه أبو داود والترمذي عن زيدٍ مولى رسولِ الله والحاكم وقال على شرط الشيخين وصححه الألباني.  أسأل الله تعالى أن يجعل ما كتب لنا من أيامٍ خيرًا مما سلف ويغفر لنا ما صار وكان.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد..

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: من الأمور التي يتبادلها الناس في هذه الأيام التهنئة بالعام الهجري، فما حكم ذلك؟ الأصل فيها الإباحة، فليست مشروعة وليست بدعة، وقد بعث الشيخ عبد الرحمن السعدي كتابا لأحد طلابه وكان في ديباجة رسالته: "ونهنئكم بالعام الجديد، جدد الله علينا وعليكم النعم ودفع عنا وعنكم النقم". والأمر فيه سعة.. أما ربطُ طيِ صحائفَ الأعمال بنهاية العام الهجري ورفعُها إلى الله، فغيرُ صحيح إذ الثابتُ أن الأعمال تعرضُ على الله كلَ اثنين وخميس قَالَ النبيُّ ﷺ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ؛ فَيَغْفِرُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» رواه مسلم. وعليه تخصيص نهاية العام بطي الصحف لا أصل له. ذلك أن ابتداء العامِ الهجري كما هو معروفٌ إنما اصطلح عليه في عهد الخليفة الراشد عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه.. ومن الأخطاء ما يتناقله بعض الناس من أدعية يختم بها العام، أو لزومِ المساجد للتعبد وختم القرآن ليختم به العام، أو صيامِ آخر يوم من أجل أن يختمَ عامَه بصيام.. وكل هذا لا أصل له في ديننا.. وحري بالمسلم البعدُ عنه فكلُ محدثةٍ في دين الله بدعة وكلُ بدعة ضلالة وكلُ ضلالة في النار..

 

المشاهدات 3506 | التعليقات 0