مليونية خلع الحجاب
ناصر محمد الأحمد
1436/07/02 - 2015/04/21 02:06AM
مليونية خلع الحجاب
5/7/1436ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: نشرت العديد من وسائل الإعلام في الأيام الماضية خبر "مليونية خلع الحجاب"، وقصة خلع الحجاب ليست بقصة جديدة على الأمة، فهي تتكرر بين آونة وأخرى بصور مختلفة، وراء القصة شياطينٌ من الإنس تسمعها مختصرة بعد قليل.
عباد الله: الحجاب فريضة إلهية، وشرعة ربانية، وسنة إيمانية ماضية وباقية إلى يوم الدين، على رغم أنف الزيغ والضلال، وأهل الشرك والإلحاد، لا يَترُك العمل به إلا فاسق فاجر، ولا يمنع منه أو ينتهي عنه إلا مارد هالك.
جاء الأمر في الآي والسنن، وأجمع أهل العلم عليه في قديم وحديث الزمن، وهو شريعة رب الناس للناس خالقُهم ورازقُهم ومحييهم ومميتهم، وباعثُهم بعد الموت فمحاسبهم، فيجزي كل نفس بما كسبت.
والحجاب هو ما يحجب النساء ويسترهنّ، فيمنعهنّ من أعين الرجال، فإذا كانت المرأة في بيتها فحجابها بيتها، وإذا خرجت لحاجتها فحجابها ما تستر به جسدها من اللباس السابغ الساتر لجميع بدن المرأة. وفي الحجاب مزيد العفة والطهارة في المجتمع وهو ما تحرص عليه الشريعة في مصادرها ومواردها. قال الله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ) ( الأحزاب: 53 ). وأول من وُجّه إليه ذلك الكلام من النساء هنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، والنساء من بعهدهنّ تبع لهنّ، وأول من وُجّه إليه ذلك الكلام من الرجال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأطهار الأبرار، والرجال من بعدهم تبع لهم في ذلك.
أيها المسلمون: لقد تعرض الحجاب لحملات كثيرة من الكارهين لله ورسوله ودينه حتى قال قائل منهم: "لن تستقيم حالة الشرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطى به القرآن". وقد تآمر على الحجاب الغرب الكاره لدين الله والمتغربون من أبناء جلدتنا، وما تعيشه أمتنا اليوم ما هو إلا حلقة من حلقات التدافع بين الحق والباطل ولكل منهما دعاته ورجاله.
والحرب ضد الحجاب قديمة بدأت في مصر منذ أكثر من مائة عام، حيث ظهر أول صوت من أعداء الإسلام وأنصار التغريب ضد حجاب المرأة المسلمة، ومنذ ذلك الحين لم تهدأ المعركة التي اشتعلت نيرانها في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي بل وغير الإسلامي. وكانت أول شرارة في تلك المعركة من الجانب التغريبي في مصر من صديق اللورد كرومر "مرقص فهمي" في كتابه "المرأة في الشرق" عام 1894م، ولكنها لم تُحدث أثراً كالطلقة التي أطلقها قاسم أمين في كتابه المسمى "تحرير المرأة" عام 1899م، وذلك بعد عودته من إتمام دراسته في فرنسا. ويلاحظ تلك النقطة الهامة ألا وهي المتعلقة بعودة قاسم أمين من فرنسا وتأليفه كتاباً سماه "تحرير المرأة". ثم بعد أكثر من مائة عام تأتي فرنسا لتمنع الحجاب وهي الحاضنة لكل الأفكار التي تعادي الحجاب، وقد أحدث الكتاب ردود فعل شديدة وخاصة في التيار الإسلامي والمحافظ، ولكن طلقة قاسم أمين تم الرد عليها بمائة طلقة أو مائة كتاب ترد على شبهاته وأباطيله، كان أبرزها كتاب "قولي في المرأة" للشيخ مصطفى صبري، واشتعلت نيران الحرب ضد الحجاب ولم تنتهِ. واهتم الإنجليز بترجمة كتاب قاسم أمين وعرضه حتى وصل خبر وموضوع الكتاب مترجماً إلى الهند، واهتمام الإنجليز بترجمة الكتاب ونشره يدل بوضوح على أن الحرب ضد بلاد المسلمين لم تقف عند احتلال الأراضي فقط. ولقد رعى الإنجليز هذا التيار التغريبي، وانضم إليهم سعد زغلول، وألقت هدى شعراوي بحجابها، إعلاناً بدخولها المعركة عملياً، وألف قاسم أمين كتابه الثاني "المرأة الجديدة" على خطى ومنوال الكتاب الأول.
ولقد ساعد التيار التغريبي في ذلك الوقت في حربه ضد الحجاب عدة عوامل أهمها:
أولاً: سقوط الخلافة الإسلامية، وقيام دولة علمانية فرضت خلع الحجاب بالقوة عام 1925م، وصادف ذلك التوقيت السيطرة العسكرية الاستعمارية للغرب على البلاد العربية والإسلامية مع إظهار تقدمهم الصناعي والتقني، وإبرازه في الدول المستعمرة لإبهار الشعوب خاصة المثقفين مع ربطهم للحضارة باتباعهم، وإبراز أن التخلف والتأخر في تمسك الشعوب بدينها وعاداتها وتقاليدها، كل ذلك أوجد حالة من الانهزام النفسي عند كثير من المثقفين فتعلقت قلوبهم وعقولهم بكل ما هو غربي، ولم يفرقوا بين النافع والضار لمجتمعاتهم.
ثانياً: انتشار السينما والمسرح، ولم يكن التلفاز قد ظهر بعد، وسيطرة التيار التغريبي على تلك الوسائل، ونشر أفكاره عبر دس السم في العسل.
ثالثاً: السيطرة على التعليم عبر منهج دنلوب الإنجليزي، والمدرسين الأجانب، والبعثات التعليمية للبلاد الأوروبية، والمدارس الأجنبية.
رابعاً: السيطرة على الصحافة.
كل هذه العوامل ساعدت في ذلك الوقت في الثلاثينيات على زيادة قوة التيار التغريبي ليس في مصر فقط، ولكن أيضاً في بعض البلاد الإسلامية. وظل الحال كذلك حتى الخمسينيات، ولم يَعرف خلع الحجاب طريقه إلا عند بعض المثقفين المتغربين ومن قلدهم، وانحصر في نطاق ضيق، ولم يتغير الوضع كثيراً مع رحيل الاستعمار وتغير الأنظمة الحاكمة، ذلك أن الوطنيين الذين ملَكوا زمام الحكم شَربت عقولهم كل الأفكار الغربية.
ولكن فترة الخمسينيات تميزت بالصدام مع المحافظين، وأيضاً فترة السيتينيات، وتزامن ذلك مع امتداد المد الشيوعي، فظهر تفوقٌ للسفور، وانتشر خلع الحجاب خاصة في معظم المدن الرئيسة في العالم الإسلامي، وكان ذلك لنجاح الفكر الغربي في بناء قاعدة قوية موالية في التعليم والصحافة والفن استطاعت مع ظهور التلفزيون وانتشاره أن تظهر تفوق التيار التغريبي في معركة الحجاب، إلا أن هزيمة 1967م كانت صدمة أعادت الناس إلى الإسلام، ووضح ذلك في بداية السبعينيات، وانبرى الدعاة يحملون اللواء في معركة الحجاب عن طريق المنابر وأشرطة الكاسيت، ولم يسكت التيار التغريبي الذي ازدادت قوته بالانفتاح على الغرب سياسياً واقتصادياً وفي شتى المجالات، وقد بلغ قلق التغريبيين من الحجاب مداه بعدما تعدت الدعوة إلى الحجاب والالتزام به التيار المحافظ إلى عوام الناس، وتميزت فترة السبعينيات والثمانينيات بظهور الدعوة بقوة في معركة الحجاب لمواجهة المخالفين بالأدلة الشرعية الواضحة في حكم فريضة الحجاب مما أعطاه قوة في المعركة، واندفع كل فريق في المعركة مستخدماً أسلحته: التيار التغريبي استخدم الصحف والمجلات والإذاعة، وكان لظهور التلفزيون مع بداية السبعينيات أثره البالغ في التبرج وخلع الحجاب فضلاً عن السينما والمسرح. ومن جانب آخر استخدم المحافظون منابر المساجد والجامعات ومعارض الكتب لبيع الحجاب وأشرطة الكاسيت، وكانت قوته في الالتفاف الشعبي حوله، بينما كانت قوة التيار التغريبي في طبقة النخبة من بعض المثقفين المتعلقين بالتغريب والفنانين والإعلاميين المتغربين.
ثم وقعت مفاجأة مذهلة حيث انضم لمسيرة الحجاب طائفة جديدة أحدث اهتداؤها للطريق الصحيح نكسة وزلزلة لدى التغريبيين وهنّ الفنانات المعتزلات التمثيل المعلنات عن ارتدائهنّ الحجاب، ولم يفق التيار التغريبي من تلك الصدمة حتى الآن، ولكنه اجتمع يوجه سهامه ضد تلك الفنانات بكل الطرق والأساليب، ولكن معركته معهنّ كانت خاسرة، حيث ازدادت أعدادهنّ، ومن ثم لجأ أعداء الحجاب إلى التشكيك، وأدخلوا سلاحاً جديداً في المعركة ضد الحجاب وهو الأفلام والمسلسلات، بالاضافة إلى استصدار قراراً يمنع دخول المنقبات الجامعات. ولكن: هل وقفت الحرب ضد الحجاب بعد مرور أكثر من مائة عام؟ المؤكد أنها لم تقف وإن كانت انتشرت في أماكن كثيرة في العالم الإسلامي بصور شتى. ولا ننسي أن العولمة من مقاصدها تذويب الهُوية الإسلامية، والفرصة متاحة الآن في ظل حالة العداء ضد الإسلام المعنونة بالحرب ضد الإرهاب، والحرب ضد الحجاب أهم مدخل لتفكيك هُوية المرأة المسلمة التي هي نصف المجتمع وأساس الأسرة، فإن انعدمت هُويتها تزلزل المجتمع وانهارت الأسرة إسلامياً، وبقي الوجه الغربي ظاهراً في الحياة في بلاد المسلمين. ولكن كما سبق هي معركة لها طرف آخر وهم المتمسكون بأحكام الإسلام الذين يجاهدون بكل الطرق للحفاظ على الهُوية والحفاظ على المجتمع والأسرة ليظل الصراع مستمراً.
وبقي أن الحرب ضد الحجاب مظهر ووجه من أوجه الصراع ضد الإسلام بأشكال وأنماط مختلفة ومتنوعة.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: لا شك أن الغرب عموماً وفرنسا خصوصاً خلف كل تحرك أو تمرد ضد الحجاب في العالم الإسلامي، والسبب أن الحجاب الإسلامي تحوّل بحمد الله في الغرب إلى ظاهرة حقيقية أصبحت تؤرق كثيراً من صناع القرار السياسي والاجتماعي والثقافي في الغرب، وموقف العواصم الغربية من الحجاب يتشعب إلى ثلاث توجهات:
التوجه الأول: وهو الرافض لظاهرة الحجاب جملة وتفصيلاً، وتقف فرنسا في طليعة الدول الغربية المؤيدة لهذا التوجه.
والتوجه الثاني: وهو الذي يعتبر الحجاب مسألة شخصية تتعلق بحرية الشخص وقناعاته الذاتية، وهذا التوجه سائد في العديد من الدول الأوروبية وتحديداً في أوروبا الشمالية.
وتوجه ثالث: يعتبر الحجاب مسألة خاصة، لكن يحرِم المحجبة الكثير من الحقوق، كحقها في العمل في كثير من القطاعات المتاحة.
وتتوافق هذه التوجهات الغربية الثلاث على أن للحجاب علاقة كبيرة بالإسلام الذي بدأت ملامحه تتجلى بوضوح في الغرب، ولذلك وضعه الغربيون تحت دائرة الضوء والتشريح لمعرفة مستقبله وتأثيره على المعادلة الاجتماعية وحتى الثقافية والسياسية في الغرب، خصوصاً بعد أن تبين لهؤلاء أن أبناء المرأة المسلمة غير الملتزمة هم أسرع في الاندماج في المجتمع الغربي بكل تفاصيله مسلكاً ولغة وثقافة ومعتقداً. أما أبناء المرأة المسلمة المحجبة، فمن الصعوبة بمكان إدماجهم في المجتمع الغربي وإذابة قيمهم وتوجهاتهم.
ويربط الغربيون الحجاب في الغرب بالإسلام، ويعتبرون تنامي هذه الظاهرة تنامياً للظاهرة الإسلامية في حد ذاتها باعتبار أن الإسلام يتحرك في الواقع الغربي بمظاهر متعددة أبرزها الحجاب، والمدارس الإسلامية، والمساجد، والجمعيات الإسلامية، وغير ذلك من مُفعّلات العمل الإسلامي في الغرب.
وإطلاق فرنسا حملة إعلان الحرب على الحجاب مرده إلى أن فرنسا يوجد على أراضيها أكثر من خمسة ملايين مسلم، وهذا الكم الهائل من المسلمين جعل الحجاب الذي تلتزم به الفتيات المسلمات في فرنسا مسألة لافتة إلى أبعد الحدود، حتى إن فرنسا بدأت تخشى من ضياع صورتها الماجنة أمام منظر الحجاب وما يمثله من عفة وطهر، والذي له وجود كبير في كل المحافظات الفرنسية. ويتوافق أصحاب التوجهات الثلاث المذكورة على أن ظاهرة الحجاب الإسلامي في الغرب ظاهرة مقلقة، وقد تصبح خطيرة على المدى المتوسط والبعيد لأسباب عديدة منها أن وجود الحجاب في الشارع الأوروبي يشير إلى إخفاق سياسة الاندماج التي سعى من خلالها الغربيون إلى تذويب الإنسان المسلم في الواقع الغربي، إضافة إلى أن التلازم الأكيد بين الإسلام والحجاب يجعل الإسلام وبشكل دائم حاضراً في الشارع الأوروبي من خلال الحجاب، وهذا ما يجعل الإنسان الأوروبي يتساءل عن الإسلام الماثل أمامه، وقد يكون ذلك مدخلاً لإسلامه كما حدث مع كثيرين.
ويبقى القول أن الغربيين يخشون أن تكون فريضة الحجاب المنتشرة في أوروبا والتي يلتزم بها المحجبات المسلمات منطلقاً باتجاه تكريس الفرائض الأخرى، وهو ما تخشاه أوروبا، وبدأت تدق لأجله الدوائر المعادية للإسلام في الغرب نواقيس الخطر. ولذا فهم وراء هذه التحركات والمنظمات التي تنادي بخلع الحجاب في الشرق كله، وما مليونية خلع الحجاب التي نسمعها هذه الأيام إلا حلقة في سلسلة طويلة، كانت بدايتها قبل أكثر من مائة عام، وأما نهايتها فحين يرث الله الأرض ومن عليها، لأنها ضمن منظومة صراع الحق مع الباطل (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
اللهم ..