مُلِينَات الْقُلُوب

اَلْخُطْبَةُ اَلْأُولَى :

إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.

أما بعد عباد الله :

اتَّقُوا اللهَ تَعالى، واعلموا أن فَسَادُ الْقَلْبِ وَقَسْوَتُهُ سَبَبُهَا الذُّنُوبُ الْمُتَرَاكِمَةُ، وَالْغَفْلَةُ الْمُتَوَالِيَةُ؛ قَالَ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَمَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ زَادَتْ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)".  

وَلِلْقَلْبِ مُلِينَاتٌ تُلِينُهُ، وَتُزِيلُ قَسْوَتَهُ، وَتُحَوِّلُهُ مِنْ قَلْبٍ قَاسٍ إِلَى قَلْبٍ خَاشِعٍ، وَمِنْ قَلْبٍ مَيِّتٍ غَافِلٍ ، إِلَى قَلْبٍ حَيٍّ حَاضِرٍ: 

فَمِنْهَا : كَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وَوَصَفَ سُبْحَانَهُ الْخَاشِعِينَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : ( ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ )، وَقَالَ تَعَالَى: ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ )،

وَقَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : "يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَشْكُو إِلَيْكَ قَسْوَةَ قَلْبِي ، فَقَالَ: ادْنُهْ مِنَ الذِّكْرِ".  

وَمِنْ مُلِينَاتِ الْقُلُوبِ : مُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يُكْثِرُونَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَعَاهَدُونَ جُلَسَاءَهُمْ بِالْمَوَاعِظِ، فَتَلِينُ الْقُلُوبُ بِصُحْبَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ، بِخِلَافِ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْغَفْلَةِ؛ فَإِنَّهَا سَبَبٌ لِقَسْوَةِ الْقُلُوبِ، (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ).  

وَمِنْ مُلِينَاتِ الْقُلُوبِ : كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ ؛ فَإِنَّهُ يُرَخِّصُ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ، وَيُزَهِّدُ الْعَبْدَ فِيهَا، وَمَا فَتَكَ شَيْءٌ بِالْقَلْبِ أَشَدَّ مِنْ حُبِّ الْعَبْدِ لِلدُّنْيَا وَزِينَتِهَا؛ وَلِذَا كَانَ حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسَ كُلِّ خَطِيئَةٍ. وَلِذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَمَ: بِكَثْرَةِ تَذَكُّرِ الْمَوتِ فَقَالَ: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ"

وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ : "مَا أَكْثَرَ أَحَدٌ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ إِلَّا رُئِيَ ذَلِكَ فِي عَمَلِهِ"

وَمِنْ مُلِينَاتِ الْقُلُوبِ : زِيَارَةُ الْقُبُورِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي حَالِ أَهْلِهَا وَمَصِيرِهِمْ؛ قَالَ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَمَ:  "زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ"

وَمِنْ مُلِينَاتِ الْقُلُوبِ : الْإِحْسَانُ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ صَاحِبَهُ التَّوَاضُعَ وَالْمَسْكَنَةَ وَالْخُضُوعَ وَالْخَشْيَةَ، وَأَوْصَى أَبُو الدَّرْدَاءِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: "ارْحَمِ الْيَتِيمَ وَأَدْنِهِ مِنْكَ، وَأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ". وَسَأَلَ رَجُلٌ الْإِمَامَ أَحْمَدَ فَقَالَ لَهُ: "كَيْفَ يَرِقُّ قَلْبِي؟ قَالَ: ادْخُلِ الْمَقْبَرَةَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ". 

وَمِنْ مُلِينَاتِ الْقُلُوبِ : النَّظَرُ فِي دِيَارِ مَنْ سَبَقُوا، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَعْرِفُهُمْ، وَقَدْ فَارَقُوا الدُّنْيَا إِلَى قُبُورِهِمْ ، وَصَارَتْ بُيُوتُهُمْ خَرَابًا ، وَمَا أَكْثَرَ مَا يَمُرُّ بِالْعَبْدِ مِنْ قُرًى خَرِبَةٍ ، وَبُيُوتٍ قَدِيمَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ ، تُذَكِّرُ بِالسَّالِفِينَ مِمَّنْ فَارَقُوهَا.  

نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُصْلِحَ قُلُوبَنَا، وَيُلِينَهَا لِذِكْرِهِ وَآيَاتِهِ ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ قَسْوَتِهَا وَغَفْلَتِهَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ. 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أما بعد عباد الله :

وَمِنْ مُلِينَاتِ الْقُلُوبِ : أَكْلُ الْحَلَالِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْقُلُوبِ مَا قَسَتْ إِلَّا بِسَبَبِ كَثْرَةِ مُبَاشَرَةِ الْحَرَامِ أَوِ الشُّبُهَاتِ. جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ سَأَلَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، قَالَ: "ذَهَبْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، بِمَ تَلِينُ الْقُلُوبُ ؟ فَقَالَ: بِأَكْلِ الْحَلَالِ.  

وَمِنْ مُلِينَاتِ الْقُلُوبِ : حِفْظُ الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ عَنِ الْحَرَامِ؛ فَإِنَّ مَا تَتَلَقَّاهُ الْأَبْصَارُ وَالْأَسْمَاعُ مِنْ الْمَعَاصِي يَنْزِلُ عَلَى الْقُلُوبِ فَيُمْرِضُهَا وَيُصِيبُهَا بِالْغَفْلَةِ وَالْقَسْوَةِ. وَالنَّظْرَةُ الْمُحَرَّمَةُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ، يَسْتَقِرُّ فِي الْقَلْبِ فَيَفْتِكُ بِهِ. قَالَ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَمَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ"

اللهم علمنا ماينفعنا ..

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وانصر عبادك الموحدين وفرج عن إخواننا المستضعفين في كل مكان.

اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه خير البلاد والعباد،

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

اللهم بارك لنا فيما أنزلت علينا من نعمة الغيث

اللهم أنزلْ في أرضِنا ربيعَها وسَكَنَها. واجعلنا لكَ شاكرينَ.

اللهم أنت الغني ونحن ..

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

سُبحانَ ربِّك ربِّ العزَّةِ عما يَصِفون، وسَلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.