ملحمة عين جالوت ,, ما أشبه اليوم بالبارحة
ياسر دحيم
1436/03/16 - 2015/01/07 13:23PM
[align=justify]
الخطبة الأولى:
الحمد لله معز الإسلام بنصره, ومذل الشرك بقهره, ومصرف الأمور بأمره, ومديم النعم بشكره, ومستدرج الكافرين بمكره, الذي قدر الأيام دولا بعدله, وجعل العاقبة للمتقين بفضله, وأفاء على عباده من ظله, وأظهر دينه على الدين كله, القاهر فوق عباده فلا يمانع, والظاهر على خليقته فلا ينازع, والآمر بما يشاء فلا يراجع, والحاكم بما يريد فلا يدافع.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رافع الشك, وداحض الشرك, صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان, وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب محرر بيت المقدس من الصلبان, وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان جامع القرآن, وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان, وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فبها يكون الفرج والمخرج, وعلى أصحابها يتنزل النصر, (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل: 128].
أيها المؤمنون: حديثنا اليوم عن معركة من المعارك الفاصلة في تاريخ الأرض، وملحمةٍ كبرى من ملاحم الإسلام العظام, وفرجٍ أتى بعد شدة وكربٍ شديد, وتمحيصٍ للمؤمنين عظيم, إنه انتصارٍ أتى في توقيت مفاجئ؛ حيث لم يمر سوى عامين على سقوط بغداد ونكبة أهل الإسلام, واجتياح المغول للعالم الإسلامي، حديثنا عن المعركة الفاصلة الأولى التي يهزم فيها المغول منذ عهد جنكيز خان المؤسس! إنها معركة عين جالوت التي وقعت في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان المبارك عام 658هـ.
وقبل البدء في تفاصيل المعركة هناك سؤالٌ يطرح نفسه عن هؤلاء القوم, الذين غزو العالمي الإسلامي واجتاحوه, وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل المنكرة, والجرائم المستقبحة, فمن هم التتار أو المغول؟.
التتار أو المغول قبائل جبلية بدائية من سكان القارة الأسيوية يسكنون صحراء جوبي بأطراف بلاد الصين الشمالية –منغوليا الآن– وهم قبائل رعوية تعيش على الرعي والسلب والنهب, يتصفون بالشدة والبأس, وحدَّهم جنكيز خان وأقام لهم دولة قوية, بدأت في اكتساح ما جاورها من البلاد, وكانت نكبة العالم الاسلامي كبيرة من قبلهم؛ فاستباحوا البلاد وقتلوا العباد, وأسقطوا الخلافة الاسلامية في بغداد, وكانوا يقومون بمجازر رهيبة في كل بلد يدخلونها؛ حتى يأس الناس من هزيمتهم, إذ لم يتصدَ لهم جيشٌ إلا هزم, وأصبح يقينا لدى أغلب الناس "أن التتار جيش لا يهزم أبدا".
وإذا أردت أن تعرف الحال الذي وصل إليه المسلمون من الضعف والذل والهوان في ذلك الوقت, فحسبك ما سطره المؤرخ ابن الأثير -رحمه الله- وهو يقدم لقصة التتار في بلاد المسلمين, قال: -رحمه الله- "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليها رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا... فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها, عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم إلى الآن لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها".
عباد الله: بعد اجتياح بلدان المسلمين الواحدة تلو الأخرى, قام هولاكو بإسقاط بغداد سنة 656هـ واستباحتها لجيشه أربعين يوماً يفعلون في أهلها ما يشاؤون, وقُتل من أهلها ما يقارب مليون نسمة من الرجل والنساء والشيوخ والأطفال, وكانت مذبحة رهيبة لم يُسمع بمثلها في التاريخ, ثم تحرك الجيش التتري إلى الشام, وحاصر مدينة (ميافارقين (التي يحكمها الكامل الأيوبي، قاومت المدينة مقاومة عنيفة، وبعد نفاذ المؤن وموت معظم السكان جوعاً، استسلم من بقي من أهلها, فدخلها التتار وارتكبوا فيها مجازر تقشعر منها الجلود، وقبضوا على الكامل الأيوبي وقطعوا جلده وأعطوه له ليأكله إلى أن مات!!.
ثم استمروا يعيثون في الأرض فساداً، فاحتلوا حلب وقتلوا من أهلها خمسين ألفاً، ثم انتقلوا إلى دمشق وأعطوا أهلها الأمان ثم غدروا بهم وخربوا المدينة, ثم اتجهوا إلى فلسطين واستولوا على بيت المقدس، ووصلوا إلى غزة المتاخمة للحدود المصرية، وأرسل هولاكو رُسُله إلى قطز حاكم مصر, يحملون لأهل مصر رسالة طويلة, فيها من التهديد والوعيد والأمر بالاستسلام.
تقول رسالة التتار إلى قطز وأهل مصر: "إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم, قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكى، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد.
فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع, فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّر من أنذر".
فلما سمع قطز ما في هذا الكتاب جمع الأمراء والعلماء، واتفقوا على قتل رُسُل هولاكو، فقبض عليهم وأمر بإعدامهم فأعدموا وعُلقت رؤوسهم على أحد بواب مصر, وإنما فعل قطز هذا لكي لا يترك لأحد فرصة غير الحرب, وكان قراره نهائيًا لا رجعة عنه.
وتواترت المعلومات الموثوق بها عن زحف التتار باتجاه مصر, وهي آخر ما بقي من حواضر الإسلام الكبرى بعد اجتياح التتار لمعظم بلاد المسلمين، فعقد قطز اجتماعاً مع وجهاء الدولة وعلمائها, وكان الرأي أن يتوجهوا لقتال التتار في الشام وأن من الخطأ انتظارهم حتى يصلوا مصر، لكن الأمراء والقواد المترفين امتنعوا وترددوا من الفكرة. فما كان من قطز أمام هذا التخاذل إلا أن ألقى كلمته المأثورة مخاطباً إياهم قائلاً: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزو كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين".
ثم أصدر أوامره إلى قائد الجيش أن يعد العدة للغزو, فانشغل الناس بالاستعداد للجهاد, وخرج قطز في الجحافل المصرية في رمضان من سنة 658 هـ، يتقدمهم العلماء والشيوخ, ثم انضمت إليهم العساكر الشامية, أما المغول فإن من تدبير الله أن هولاكو قد اضطر للعودة إلى فارس بعد وفاة ملك المغول، فسلّم أمر الشام للقائد التتري (كتبغا) الذي كان مقيماً في سهل البقاع اللبناني، بينما قوات الحماية المغولية تتوزع في عدد من المدن المحتلة ومنها غزة.
وصل قطز إلى غزة, والقلوب وجلة, والناس تترقب, فسارع إلى مهاجمة قوات التتار الموجودة, واستعاد غزة منهم؛ فارتفعت همم المسلمين، ورأوا لأول مرة التتار يفرون من أمامهم! ووصلت فلولهم إلى (كتبغا) تخبره بالهزيمة، فغضب غضباً شديداً وقرر التوجه للقضاء على هؤلاء المسلمين. وبعد يوم واحد رحل قطز من غزة باتجاه الشمال سالكاً طريق الساحل، وكان لابد أن يمر بمدن تقع تحت الاحتلال الصليبي، لذا أرسل يبين لهم أنه يقصد المغول، ويهددهم إن تعرضوا لأحد من عساكره أن يبدأ بهم.
رأى قطز أن أنسب مكان لخوض المعركة هو سهل عين جالوت -وهو سهل تحيط به التلال من كل جانب- وبينما قطز في عين جالوت ينتظر العدو إذا بأعداد غفيرة من المتطوعين الفلسطينيين يخرجون من القرى والمدن؛ ليلتحقوا بالجيش المسلم. لقد كان الناس يتشوقون للجهاد في سبيل الله ولا ينقصهم إلا القائد المخلص، وقد عثروا عليه أخيراً! وإلى جانب أولئك المتطوعين اجتمع الكثير من الفلاحين، واجتمع كذلك النساء والصبيان، واصطفوا بأعداد غفيرة على طرفي سهل عين جالوت! وقد علت أصواتهم بالتكبير، وارتفعت صيحاتهم بالتشجيع لجيش المسلمين الذي يرون فيه أملاً لإنقاذ الأمة من هذا البلاء العظيم، وتحركت ألسنتهم وقلوبهم بالابتهال لرب العالمين أن ينصر عبادة الموحدين ويُذل أعداء الدين.
وقبل المعركة اجتمع قطز بالأمراء وحثهم على قتال التتار، وذكّرهم بما وقع في بغداد والمدن الشامية من القتل والسبي وانتهاك الحرمات وتخريب الديار، وحضهم على إنقاذ الشام ونصرة الإسلام، فضجوا بالبكاء وتحالفوا على الصدق عند اللقاء. ثم قام قطز بتقسيم جيشه إلى قسمين:
القسم الأول "المقدمة" ويبدأ المعركة ويحاول جر المغول إلى وسط السهل. والقسم الثاني - وهو الأكبر- يختبئ خلف التلال وينتظر الإشارة ليطبق على العدو.
وفي هذه الأثناء وصل الجيش المغولي إلى عين جالوت فتفاجأ بالجيش الإسلامي, ونظر كتبغا إلى المقدمة القليلة, فأراد أن يحسم المعركة من أولها, وأن يدخل بجيشه كله ليسحق هذا الجيش الذي تحدى قوة التتار, وهذا تماماً ما كان يريده قطز. وصرخ كتبغا بقواته آمراً بالهجوم، فانهمرت الجموع المغولية الضخمة وهي تصيح صيحاتها المفزعة، وانقضّوا على مقدمة جيش المسلمين تطبيقًا لحرب الصاعقة والهجوم العنيف السريع الذي تمرّسوا عليه.
أما مقدمة جيش المسلمين فقد وقفت في رباطة جأش عجيبة, وقد ألقى الله -عز وجل- على المسلمين سكينةً واطمئناناً, وكأنهم لا يرون جحافل المغول المتدفقة!, حتى إذا ما اقتربوا إليهم أعطيت إشارة البدء، فانطلق المجاهدون تجاه المغول، وارتطم الجيشان ارتطاماً مروعاً، وارتفعت سحب الغبار، وتعالت الصيحات المغولية، وعلت صيحات التكبير من الفلاحين الواقفين على جنبات السهل، وامتزجت قوات المسلمين بقوات التتار, وسرعان ما تناثرت الأشلاء وانهمرت الدماء، وعلا صليل السيوف على أصوات الجنود، واحتدمت المعركة في لحظات، ورأى الجميع من الهول ما لم يروه من قبل!!.
ثبتت المسلمون ثباتاً رائعاً، مما دفع كتبغا إلى استخدام كل طاقته, بينما قطز -رحمه الله- يرقب الموقف من وراء التلال، ويصبّر نفسه وجنده عن النزول لساحة المعركة؛ حتى يُستنزف أكبر قدر ممكن من قوات العدو, وتأتي اللحظة المناسبة وحان تنفيذ الجزء الثاني من الخطة، فأظهر المسلمون الانهزام لكي يسحبوا جيش التتار إلى داخل السهل، وبدأ المسلمون بالتراجع مع الاستمرار في القتال, وتحمس كتبغا وجيشه وبدأوا بالتقدم والضغط على المسلمين, وفي النهاية دخل جيش التتار كاملاً إلى داخل السهل.
وجاءت إشارة البدء من قطز وخرجت الكتائب الإسلامية العظيمة من خلف التلال، وأحاط المجاهدون بالمغول من كل جانب، وأسرعت فرقة قوية لغلق المدخل الذي دخل منه العدو. لقد نجحت خطة المسلمين خلال وقت وجيز، وأحاطوا بالمغول إحاطة السوار بالمعصم. ذُهل كتبغا وجنده! واكتشفوا الخدعة بعد فوات الأوان، وحُوصر الجيش التتري داخل سهل عين جالوت، وبدأ الصراع المرير في واحدة من أشد المعارك التي وقعت في التاريخ، ولم يعد هناك مجال للهرب أو المناورات، فإما نصر أو موت.
أيقن المغول بالهلاك فأخرجوا كل إمكانياتهم، وقاتلوا ببسالة وشراسة؛ لأنهم يعلمون أنها معركة موت, لذلك حملوا بكل قوتهم وبدأ جيش المسلمين بالتخلخل والتراجع, وكان قطز -رحمه الله- يقف مع قواتٍ احتياطية في مكان عال خلف الصفوف يراقب ويوجه، فلما رأى الضغط التتري الرهيب، وتأزم الموقف جداً, فلم يجد قطز إلا حلاً واحداً لا بديل عنه؛ لا بد أن ينزل بنفسه إلى ساحة القتال, عندها ألقى خوذته على الأرض تعبيراً عن اشتياقه للشهادة، وأطلق صيحته الشهيرة: "وا إسلاماه.. وا إسلاماه".
ألقى قطز بنفسه في المعركة وحمل ومن معه حملة صادقة، وفوجئ الجنود بوجود القائد بينهم، عندها التهب حماس المجاهدين، وهانت عليهم جيوش المغول، وحملوا أرواحهم على أكفهم، وقاتل قطز -رحمه الله- قتالاً عجيباً، وبدأت الكفة -بفضل الله- تميل من جديد لصالح المسلمين، واستعاد الجيش زمام المبادرة، واستأنف المسلمون الهجوم المضاد بقوات "القلب" وتولى قطز قيادتها بنفسه، وكانت قوات (القلب) مؤلفة من المتطوعين المجاهدين الاستشهاديين, من الذين خرجوا يطلبون الشهادة، ويدافعون عن الإسلام بإيمان. وارتد الضغط على جيش التتار، وأطبق المسلمون الدائرة عليهم.
تقدم أحد أمراء المماليك وسط المعركة واخترق الصفوف التترية في حملة موفقة؛ حتى وصل إلى كتبغا وتمكن من قتله، وقُتل كذلك عدد من قواده, وبسقوط القائد سقطت عزيمة الجنود، وتغير وجه المعركة، وأصبح لا هم للمغول إلا النجاة بأنفسهم، فركّزوا جهدهم حتى فتحوا ثغرة للهرب, فانطلقوا يولون الأدبار، وانطلق المسلمون خلفهم فريقاً يقتلون, ويأسرون فريقاً، حتى وصلوا إلى بيسان على بُعد 20 كم من عين جالوت.
عباد الله: لم يصدّق المغول المفجوعون أن قوةً على وجه الأرض تستطيع الوقوف أمامهم، وربما ظنوا أن الهزيمة إنما كانت مصادفة أو نتيجة خطأٍ ما، لذا سارعوا بتجميع قواتهم من جديد، واصطف جنودهم الحانقون ولا همّ لهم إلا الانتقام من المسلمين، ووصل قطز ببقية قواته إلى بيسان، ودارت رحى معركة ضروس.
قاتل التتار قتالاً عجيباً، وزُلزل المسلمون زلزالاً شديداً، أخذ قطز يحفز جنده ويحثهم على الثبات، ثم صرخ صرخة عظيمة واقتحم وهو يردد: "وا إسلاماه". وصبر المسلمون وقاتلوا قتالاً شديداً, ثم أتى نصر الله وفتحه وهزم من بقي من التتار، وأخذ جند الله يفتكون بأعدائه، وبدأ جنود المغول الذين روعوا الأرض يتساقطون كالذباب، وقضى المسلمون على أسطورة الجيش الذي لا يقهر، قضوا عليه تماماً! وصدق الله العظيم: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). عندها نزل البطل المجاهد التقي عن فرسه, ومرّغ وجهه في الأرض في سجدةِ شكر طويلة.
(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
أقول ما سمعتم واستغفر الله
الخطبة الثانية:
الحمد لله ناصر المستضعفين، وكاسر الجبابرة المستكبرين، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم, فلا قوة إلا به -سبحانه-، ولا عز إلا في دينه، ولا نصر إلا باتباع شريعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كتب العز والنصر للمؤمنين، وألقى الذل والصغار على الكافرين والمنافقين، القائل -سبحانه-: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ) [الرُّوم: 47]، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله إمام المجاهدين, صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
عباد الله: إن في هذه المعركة عبر وعظات كثيرة، فمن ذلك:
أولاً: إن العبرة في الجيوش ليست بالكم لكن بالكيف، وفي مدى التربية الإيمانية لهذا الجيش، وإقباله على الله تعالى، واستعداده للتضحية والفداء, وحين كانت المعارك التي يخوضوها المسلمون من أجل مصالح دنيوية أو رايات مناطقية أو قبلية؛ أذلهم الله تعالى وسلط عليهم بعض خلقه, لعلهم إليه يرجعون وبدينهم يعتزون, فكان لهم ذلك في معركة عين جالوت حين أخلص الناس قتالهم لإعلاء كلمة الله, والدفاع عن حمى الإسلام والمسلمين.
ثانياً: إن للعلماء أثراً عظيماً في تثبيت المجاهدين والشعوب في أوقات الأزمات، وإن من السعادة أن يتفق الحكام والعلماء فيما يرضي الله تعالى، وقد كان للعالم الجليل العز بن عبد السلام الأثر العظيم في إنجاح تلك المعركة, فحينما أراد السلطان قطز أن يفرض ضرائب جديدة على الناس بمصر لتمويل نفقات المعركة, تصدي له الشيخ العز بن عبد السلام رافضا رفضا تاما ذلك, وقال لسيف الدين قطز: "قبل أن تفرض ضرائب على الناس عليك أنت والأمراء أن تقدموا ما تملكونه من أموال وذهب وكنوز لبيت مال المسلمين, فإذا لم تكف هذه الأموال في الإعداد للمعركة, فرضت ضرائب على الناس", وقام قطز بتنفيذ هذا الأمر, وكان أول من وضع ذهبه وأمواله في سبيل الله.
ثالثاً: إن هذه الأمة تضعف وتصاب بالوهن لكن لا يمكن أن تُستأصل، فقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِ أَقْطَارِهَا" [رواه مسلم].
رابعاً: إن هذا الدين دين عظيم يجذب إليه القلوب والعقول، فهؤلاء التتار الذين كانوا أعداء محاربين, وقتلوا من المسلمين الملايين، حصل لهم تحول تاريخي مدهش جداً, ألا وهو دخولهم في الإسلام، فقد دخلت القبيلة الذهبية التترية في دين الله تعالى, وتبعها من تبعها من التتار، وصاروا من جند الله تعالى، وهذا لنعلم أن هذا الدين العظيم لم ينتشر بالسيف كما يدعي المبغضون لهذا الدين, إنما هو يلج القلوب والعقول بدون استئذان.
خامساً: لقد كانت قلوب المسلمين في ذلك الزمان مريضة بحب الدنيا, فتحت لهم الدنيا فأحبوها وتعلقوا بها, وأحبوا الدعة والراحة واللهو واللعب, روى البخاري ومسلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فواللهِ ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسطَ عليكم الدنيا كم بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم" ووقع ما حذر منه النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لَئِنْ تَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، وَأَخَذْتُمْ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ، وَتَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، لَيُلْزِمَنَّكُمُ اللَّهُ مَذَلَّةً فِي رِقَابِكُمْ، لَا تَنْفَكُّ عَنْكُمْ حَتَّى تَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَتَرْجِعُوا عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ" [رواه أحمد وأبو داؤود].
سادساً: ما أشبه اليوم بالبارحة؛ فقد كان المسلمون مشغولون إما بالركون إلى الدنيا أو بقتال بعضهم بعضاً, والعدو يتربص بهم من كل مكان وهم في غفلتهم يعمهون!!. فإضافة إلى حب الدنيا وترك الجهاد في سبيل الله, كانت المنطقة بأسرها تموج بالاضطرابات والفتن، كان الحكام والأمراء يتنافسون على السلطة, واهتمام كل حاكم بحدود مملكته، وإن صَغُرَت وحتى إن بعض الممالك الإسلامية لم تكن إلا مدينة واحدة وما حولها من القرى, ولم يكتفِ الزعماء المسلمون بالفرقة بل كانوا يتصارعون فيما بينهم، ويكيد بعضهم لبعض، ولم يكن أحدهم يأمن جاره مطلقًا، ولم تكن فكرة الوحدة مطروحة أصلاً لقتال العدو الأجنبي الغازي. والأدهى من ذلك طلب بعض الحكام النصرة من الصليبيين والتتار ضد أعدائهم الآخرين من حكام المسلمين!!. وصدق الله إذ يقول: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].
سابعاً: دبَّت الهزيمة النفسية الرهيبة داخل قلوب المسلمين، فما استطاعوا أن يحملوا سيفًا، ولا أن يركبوا خيلاً، بل ذهب عن أذهانهم أصلاً التفكير في الجهاد والمقاومة, وهذا سهَّل جدًا من مهمة التتار الذين وجدوا أبوابًا مفتوحة، ورقابًا جاهزة للقطع ونفوساً مهزومة ضعيفة!!, إن أخطر ما أصيب به المسلمون هي الروح الانهزامية, التي هي أخطر عليهم من كل سلاح؛ بل لقد قامت وحدها مقام كل سلاح يمكن أن يغزوها به أعداؤها, إذ حققت لأولئك الأعداء ما لم يكونوا ليستطيعوا تحقيقه, حيث كان المسلمون بهذه الروح مستسلمين لأي هزيمة سهلت على أي جيش غزوهم.
يروي ابن الأثير بعض صور المهانة والذل وروح الانهزام الذي أصيب به المسلمون, فيقول: "كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس؛ فيبدأ بقتلهم واحدًا تلوَ الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو دفاع!!. وأخذ تتري رجلاً من المسلمين، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفًا ثم قتله".
فإلى هذا الحد وصلت الهزيمة النفسية في القلوب, عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا" قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ" . قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ".
سابعاً: لقد كان لانتشار الفرق الضالة والطوائف المنحرفة دوراً في هزيمة المسلمين, وفي التآمر أعداء الإسلام, فالتاريخ يوثق لنا خيانة الوزير الشيعي ابن العلقمي, الذي لعب دوراً كبيراً في سقوط بغداد من خلال إضعاف جيش الخلافة, ومكاتبة التتار, وتثبيط الناس عن قتالهم, قال الإمام ابنُ كثيرٍ –رحمه الله-: "وكان الوزيرُ ابنُ العلقمي يجتهدُ في صرفِ الجيوشِ، وإسقاطِ اسمهم من الديوانِ، فكانت العساكرُ في أخرِ أيامِ المستنصرِ قريباً من مائةِ ألفِ مقاتلٍ, فلم يزلْ يجتهُد في تقليلهم، إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف .. ثم كاتب التتارَ، وأطمعهم في أخذِ البلادِ، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقةَ الحالِ، وكشف لهم ضعفَ الرجالِ".
وكان هدفُ ابنِ العلقمي كما حكى ابن كثير -رحمه الله-: "أن يزيلَ السُنةَ بالكليةِ وأن يظهرَ البدعةَ الرافضة، وأن يعطلَ المساجدَ والمدارسَ، وأن يبني للرافضةِ مدرسةً هائلةً ينشرون بها مذهبهم". وهكذا أهل البدع والضلالة في كل زمانٍ مع أعداء الله ضد المسلمين, وكم أصيب الإسلام والمسلمون من جهتهم؟ ونكبوا من قبلهم؟ فليحذر المسلمون منهم ففي التاريخ أبلغ العبر!!.
أيها المؤمنون: لقد اجتهد التتار في إعداد كل ما يمكنهم من النصر، سواء في تدريب الجنود أو إعداد السلاح أو وضع الخطط وتوحيد كلمتهم, بالمقابل كان المسلمون يعيشون في وادٍ آخر, حيث أهمِلَت الجيوش الإسلامية وانحدر مستواها، وكانت الفرقة هي السائدة, والنزاعات هي الطاغية!!.
لقد تهاون المسلمون في إعداد العدة، وكانت الملايين تنفق على القصور والحدائق واللهو وكثر ظهور المطربين والمطربات، والراقصين والراقصات، ولابد أن تهزم أمة كان حالها بهذه الصورة, فأُمَّة الإسلام بغير إعداد لا تقوم, (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: 60]. قال ابن تيمية: "إن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد النَّاصِر".
عباد الله: إن من رحمة الله -سبحانه وتعالى- بنا أن جعل البلايا والمصائب التي تصيب الإنسان؛ بمثابة المنبه الذي يوقظ الإنسان من غفلته عن ربه، فتأتي هذه المصائب لتعيد الإنسان إلى الصراط المستقيم، ولتنبه القلوب الغافلة للعودة إلى الله بالتوبة والاستمساك بدينه, وما أصدق ما قيل عن التتار بأنهم كلاب الله في أرضه، وطالما المسلمون شاردين عن منهج الله -عزّ وجل- وعن طاعته، يسلطهم الله عليهم حتى يعودوا إليه -جل وعلا-!. قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام: 42].
عباد الله: إذا ترك المسلمون الجهاد في سبيل الله، وآثروا حياة الدعة والراحة، وركنوا إلى الدنيا، أصابهم الذل والهوان، وفسدت أمورهم، وسلط الله عليهم أضعف الخلق, وعرضوا أنفسهم لمقت الله تعالى وغضبه, وتعرض الإسلام للضياع، وطغيان الكفر عليه, حتى يعودوا لمصدر عزهم وفخرهم وقوتهم.
ألا ما أحوجنا أن نراجع أنفسنا، ونرجع إلى ديننا، ولنعتصم بربنا، ونحتمي بحماه، واحرصوا -أيها الإخوة- أن يكون همكم الآخرة, واجعلوا الدنيا ممراً لكم إلى جنات النعيم, وإياكم والتنافس الشديد عليها, أو الركون إليها, فإنها أهلكت أمما ممن كان قبلكم.
[/align]
الحمد لله معز الإسلام بنصره, ومذل الشرك بقهره, ومصرف الأمور بأمره, ومديم النعم بشكره, ومستدرج الكافرين بمكره, الذي قدر الأيام دولا بعدله, وجعل العاقبة للمتقين بفضله, وأفاء على عباده من ظله, وأظهر دينه على الدين كله, القاهر فوق عباده فلا يمانع, والظاهر على خليقته فلا ينازع, والآمر بما يشاء فلا يراجع, والحاكم بما يريد فلا يدافع.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رافع الشك, وداحض الشرك, صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان, وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب محرر بيت المقدس من الصلبان, وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان جامع القرآن, وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان, وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فبها يكون الفرج والمخرج, وعلى أصحابها يتنزل النصر, (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل: 128].
أيها المؤمنون: حديثنا اليوم عن معركة من المعارك الفاصلة في تاريخ الأرض، وملحمةٍ كبرى من ملاحم الإسلام العظام, وفرجٍ أتى بعد شدة وكربٍ شديد, وتمحيصٍ للمؤمنين عظيم, إنه انتصارٍ أتى في توقيت مفاجئ؛ حيث لم يمر سوى عامين على سقوط بغداد ونكبة أهل الإسلام, واجتياح المغول للعالم الإسلامي، حديثنا عن المعركة الفاصلة الأولى التي يهزم فيها المغول منذ عهد جنكيز خان المؤسس! إنها معركة عين جالوت التي وقعت في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان المبارك عام 658هـ.
وقبل البدء في تفاصيل المعركة هناك سؤالٌ يطرح نفسه عن هؤلاء القوم, الذين غزو العالمي الإسلامي واجتاحوه, وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل المنكرة, والجرائم المستقبحة, فمن هم التتار أو المغول؟.
التتار أو المغول قبائل جبلية بدائية من سكان القارة الأسيوية يسكنون صحراء جوبي بأطراف بلاد الصين الشمالية –منغوليا الآن– وهم قبائل رعوية تعيش على الرعي والسلب والنهب, يتصفون بالشدة والبأس, وحدَّهم جنكيز خان وأقام لهم دولة قوية, بدأت في اكتساح ما جاورها من البلاد, وكانت نكبة العالم الاسلامي كبيرة من قبلهم؛ فاستباحوا البلاد وقتلوا العباد, وأسقطوا الخلافة الاسلامية في بغداد, وكانوا يقومون بمجازر رهيبة في كل بلد يدخلونها؛ حتى يأس الناس من هزيمتهم, إذ لم يتصدَ لهم جيشٌ إلا هزم, وأصبح يقينا لدى أغلب الناس "أن التتار جيش لا يهزم أبدا".
وإذا أردت أن تعرف الحال الذي وصل إليه المسلمون من الضعف والذل والهوان في ذلك الوقت, فحسبك ما سطره المؤرخ ابن الأثير -رحمه الله- وهو يقدم لقصة التتار في بلاد المسلمين, قال: -رحمه الله- "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليها رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا... فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها, عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم إلى الآن لم يُبتلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها".
عباد الله: بعد اجتياح بلدان المسلمين الواحدة تلو الأخرى, قام هولاكو بإسقاط بغداد سنة 656هـ واستباحتها لجيشه أربعين يوماً يفعلون في أهلها ما يشاؤون, وقُتل من أهلها ما يقارب مليون نسمة من الرجل والنساء والشيوخ والأطفال, وكانت مذبحة رهيبة لم يُسمع بمثلها في التاريخ, ثم تحرك الجيش التتري إلى الشام, وحاصر مدينة (ميافارقين (التي يحكمها الكامل الأيوبي، قاومت المدينة مقاومة عنيفة، وبعد نفاذ المؤن وموت معظم السكان جوعاً، استسلم من بقي من أهلها, فدخلها التتار وارتكبوا فيها مجازر تقشعر منها الجلود، وقبضوا على الكامل الأيوبي وقطعوا جلده وأعطوه له ليأكله إلى أن مات!!.
ثم استمروا يعيثون في الأرض فساداً، فاحتلوا حلب وقتلوا من أهلها خمسين ألفاً، ثم انتقلوا إلى دمشق وأعطوا أهلها الأمان ثم غدروا بهم وخربوا المدينة, ثم اتجهوا إلى فلسطين واستولوا على بيت المقدس، ووصلوا إلى غزة المتاخمة للحدود المصرية، وأرسل هولاكو رُسُله إلى قطز حاكم مصر, يحملون لأهل مصر رسالة طويلة, فيها من التهديد والوعيد والأمر بالاستسلام.
تقول رسالة التتار إلى قطز وأهل مصر: "إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على مَن حَلَّ به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم وأسلموا لنا أمركم, قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكى، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد.
فعليكم بالهرب، وعلينا الطلب، فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع, فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا وأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذّر من أنذر".
فلما سمع قطز ما في هذا الكتاب جمع الأمراء والعلماء، واتفقوا على قتل رُسُل هولاكو، فقبض عليهم وأمر بإعدامهم فأعدموا وعُلقت رؤوسهم على أحد بواب مصر, وإنما فعل قطز هذا لكي لا يترك لأحد فرصة غير الحرب, وكان قراره نهائيًا لا رجعة عنه.
وتواترت المعلومات الموثوق بها عن زحف التتار باتجاه مصر, وهي آخر ما بقي من حواضر الإسلام الكبرى بعد اجتياح التتار لمعظم بلاد المسلمين، فعقد قطز اجتماعاً مع وجهاء الدولة وعلمائها, وكان الرأي أن يتوجهوا لقتال التتار في الشام وأن من الخطأ انتظارهم حتى يصلوا مصر، لكن الأمراء والقواد المترفين امتنعوا وترددوا من الفكرة. فما كان من قطز أمام هذا التخاذل إلا أن ألقى كلمته المأثورة مخاطباً إياهم قائلاً: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزو كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين".
ثم أصدر أوامره إلى قائد الجيش أن يعد العدة للغزو, فانشغل الناس بالاستعداد للجهاد, وخرج قطز في الجحافل المصرية في رمضان من سنة 658 هـ، يتقدمهم العلماء والشيوخ, ثم انضمت إليهم العساكر الشامية, أما المغول فإن من تدبير الله أن هولاكو قد اضطر للعودة إلى فارس بعد وفاة ملك المغول، فسلّم أمر الشام للقائد التتري (كتبغا) الذي كان مقيماً في سهل البقاع اللبناني، بينما قوات الحماية المغولية تتوزع في عدد من المدن المحتلة ومنها غزة.
وصل قطز إلى غزة, والقلوب وجلة, والناس تترقب, فسارع إلى مهاجمة قوات التتار الموجودة, واستعاد غزة منهم؛ فارتفعت همم المسلمين، ورأوا لأول مرة التتار يفرون من أمامهم! ووصلت فلولهم إلى (كتبغا) تخبره بالهزيمة، فغضب غضباً شديداً وقرر التوجه للقضاء على هؤلاء المسلمين. وبعد يوم واحد رحل قطز من غزة باتجاه الشمال سالكاً طريق الساحل، وكان لابد أن يمر بمدن تقع تحت الاحتلال الصليبي، لذا أرسل يبين لهم أنه يقصد المغول، ويهددهم إن تعرضوا لأحد من عساكره أن يبدأ بهم.
رأى قطز أن أنسب مكان لخوض المعركة هو سهل عين جالوت -وهو سهل تحيط به التلال من كل جانب- وبينما قطز في عين جالوت ينتظر العدو إذا بأعداد غفيرة من المتطوعين الفلسطينيين يخرجون من القرى والمدن؛ ليلتحقوا بالجيش المسلم. لقد كان الناس يتشوقون للجهاد في سبيل الله ولا ينقصهم إلا القائد المخلص، وقد عثروا عليه أخيراً! وإلى جانب أولئك المتطوعين اجتمع الكثير من الفلاحين، واجتمع كذلك النساء والصبيان، واصطفوا بأعداد غفيرة على طرفي سهل عين جالوت! وقد علت أصواتهم بالتكبير، وارتفعت صيحاتهم بالتشجيع لجيش المسلمين الذي يرون فيه أملاً لإنقاذ الأمة من هذا البلاء العظيم، وتحركت ألسنتهم وقلوبهم بالابتهال لرب العالمين أن ينصر عبادة الموحدين ويُذل أعداء الدين.
وقبل المعركة اجتمع قطز بالأمراء وحثهم على قتال التتار، وذكّرهم بما وقع في بغداد والمدن الشامية من القتل والسبي وانتهاك الحرمات وتخريب الديار، وحضهم على إنقاذ الشام ونصرة الإسلام، فضجوا بالبكاء وتحالفوا على الصدق عند اللقاء. ثم قام قطز بتقسيم جيشه إلى قسمين:
القسم الأول "المقدمة" ويبدأ المعركة ويحاول جر المغول إلى وسط السهل. والقسم الثاني - وهو الأكبر- يختبئ خلف التلال وينتظر الإشارة ليطبق على العدو.
وفي هذه الأثناء وصل الجيش المغولي إلى عين جالوت فتفاجأ بالجيش الإسلامي, ونظر كتبغا إلى المقدمة القليلة, فأراد أن يحسم المعركة من أولها, وأن يدخل بجيشه كله ليسحق هذا الجيش الذي تحدى قوة التتار, وهذا تماماً ما كان يريده قطز. وصرخ كتبغا بقواته آمراً بالهجوم، فانهمرت الجموع المغولية الضخمة وهي تصيح صيحاتها المفزعة، وانقضّوا على مقدمة جيش المسلمين تطبيقًا لحرب الصاعقة والهجوم العنيف السريع الذي تمرّسوا عليه.
أما مقدمة جيش المسلمين فقد وقفت في رباطة جأش عجيبة, وقد ألقى الله -عز وجل- على المسلمين سكينةً واطمئناناً, وكأنهم لا يرون جحافل المغول المتدفقة!, حتى إذا ما اقتربوا إليهم أعطيت إشارة البدء، فانطلق المجاهدون تجاه المغول، وارتطم الجيشان ارتطاماً مروعاً، وارتفعت سحب الغبار، وتعالت الصيحات المغولية، وعلت صيحات التكبير من الفلاحين الواقفين على جنبات السهل، وامتزجت قوات المسلمين بقوات التتار, وسرعان ما تناثرت الأشلاء وانهمرت الدماء، وعلا صليل السيوف على أصوات الجنود، واحتدمت المعركة في لحظات، ورأى الجميع من الهول ما لم يروه من قبل!!.
ثبتت المسلمون ثباتاً رائعاً، مما دفع كتبغا إلى استخدام كل طاقته, بينما قطز -رحمه الله- يرقب الموقف من وراء التلال، ويصبّر نفسه وجنده عن النزول لساحة المعركة؛ حتى يُستنزف أكبر قدر ممكن من قوات العدو, وتأتي اللحظة المناسبة وحان تنفيذ الجزء الثاني من الخطة، فأظهر المسلمون الانهزام لكي يسحبوا جيش التتار إلى داخل السهل، وبدأ المسلمون بالتراجع مع الاستمرار في القتال, وتحمس كتبغا وجيشه وبدأوا بالتقدم والضغط على المسلمين, وفي النهاية دخل جيش التتار كاملاً إلى داخل السهل.
وجاءت إشارة البدء من قطز وخرجت الكتائب الإسلامية العظيمة من خلف التلال، وأحاط المجاهدون بالمغول من كل جانب، وأسرعت فرقة قوية لغلق المدخل الذي دخل منه العدو. لقد نجحت خطة المسلمين خلال وقت وجيز، وأحاطوا بالمغول إحاطة السوار بالمعصم. ذُهل كتبغا وجنده! واكتشفوا الخدعة بعد فوات الأوان، وحُوصر الجيش التتري داخل سهل عين جالوت، وبدأ الصراع المرير في واحدة من أشد المعارك التي وقعت في التاريخ، ولم يعد هناك مجال للهرب أو المناورات، فإما نصر أو موت.
أيقن المغول بالهلاك فأخرجوا كل إمكانياتهم، وقاتلوا ببسالة وشراسة؛ لأنهم يعلمون أنها معركة موت, لذلك حملوا بكل قوتهم وبدأ جيش المسلمين بالتخلخل والتراجع, وكان قطز -رحمه الله- يقف مع قواتٍ احتياطية في مكان عال خلف الصفوف يراقب ويوجه، فلما رأى الضغط التتري الرهيب، وتأزم الموقف جداً, فلم يجد قطز إلا حلاً واحداً لا بديل عنه؛ لا بد أن ينزل بنفسه إلى ساحة القتال, عندها ألقى خوذته على الأرض تعبيراً عن اشتياقه للشهادة، وأطلق صيحته الشهيرة: "وا إسلاماه.. وا إسلاماه".
ألقى قطز بنفسه في المعركة وحمل ومن معه حملة صادقة، وفوجئ الجنود بوجود القائد بينهم، عندها التهب حماس المجاهدين، وهانت عليهم جيوش المغول، وحملوا أرواحهم على أكفهم، وقاتل قطز -رحمه الله- قتالاً عجيباً، وبدأت الكفة -بفضل الله- تميل من جديد لصالح المسلمين، واستعاد الجيش زمام المبادرة، واستأنف المسلمون الهجوم المضاد بقوات "القلب" وتولى قطز قيادتها بنفسه، وكانت قوات (القلب) مؤلفة من المتطوعين المجاهدين الاستشهاديين, من الذين خرجوا يطلبون الشهادة، ويدافعون عن الإسلام بإيمان. وارتد الضغط على جيش التتار، وأطبق المسلمون الدائرة عليهم.
تقدم أحد أمراء المماليك وسط المعركة واخترق الصفوف التترية في حملة موفقة؛ حتى وصل إلى كتبغا وتمكن من قتله، وقُتل كذلك عدد من قواده, وبسقوط القائد سقطت عزيمة الجنود، وتغير وجه المعركة، وأصبح لا هم للمغول إلا النجاة بأنفسهم، فركّزوا جهدهم حتى فتحوا ثغرة للهرب, فانطلقوا يولون الأدبار، وانطلق المسلمون خلفهم فريقاً يقتلون, ويأسرون فريقاً، حتى وصلوا إلى بيسان على بُعد 20 كم من عين جالوت.
عباد الله: لم يصدّق المغول المفجوعون أن قوةً على وجه الأرض تستطيع الوقوف أمامهم، وربما ظنوا أن الهزيمة إنما كانت مصادفة أو نتيجة خطأٍ ما، لذا سارعوا بتجميع قواتهم من جديد، واصطف جنودهم الحانقون ولا همّ لهم إلا الانتقام من المسلمين، ووصل قطز ببقية قواته إلى بيسان، ودارت رحى معركة ضروس.
قاتل التتار قتالاً عجيباً، وزُلزل المسلمون زلزالاً شديداً، أخذ قطز يحفز جنده ويحثهم على الثبات، ثم صرخ صرخة عظيمة واقتحم وهو يردد: "وا إسلاماه". وصبر المسلمون وقاتلوا قتالاً شديداً, ثم أتى نصر الله وفتحه وهزم من بقي من التتار، وأخذ جند الله يفتكون بأعدائه، وبدأ جنود المغول الذين روعوا الأرض يتساقطون كالذباب، وقضى المسلمون على أسطورة الجيش الذي لا يقهر، قضوا عليه تماماً! وصدق الله العظيم: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). عندها نزل البطل المجاهد التقي عن فرسه, ومرّغ وجهه في الأرض في سجدةِ شكر طويلة.
(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
أقول ما سمعتم واستغفر الله
الخطبة الثانية:
الحمد لله ناصر المستضعفين، وكاسر الجبابرة المستكبرين، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم, فلا قوة إلا به -سبحانه-، ولا عز إلا في دينه، ولا نصر إلا باتباع شريعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كتب العز والنصر للمؤمنين، وألقى الذل والصغار على الكافرين والمنافقين، القائل -سبحانه-: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ) [الرُّوم: 47]، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله إمام المجاهدين, صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
عباد الله: إن في هذه المعركة عبر وعظات كثيرة، فمن ذلك:
أولاً: إن العبرة في الجيوش ليست بالكم لكن بالكيف، وفي مدى التربية الإيمانية لهذا الجيش، وإقباله على الله تعالى، واستعداده للتضحية والفداء, وحين كانت المعارك التي يخوضوها المسلمون من أجل مصالح دنيوية أو رايات مناطقية أو قبلية؛ أذلهم الله تعالى وسلط عليهم بعض خلقه, لعلهم إليه يرجعون وبدينهم يعتزون, فكان لهم ذلك في معركة عين جالوت حين أخلص الناس قتالهم لإعلاء كلمة الله, والدفاع عن حمى الإسلام والمسلمين.
ثانياً: إن للعلماء أثراً عظيماً في تثبيت المجاهدين والشعوب في أوقات الأزمات، وإن من السعادة أن يتفق الحكام والعلماء فيما يرضي الله تعالى، وقد كان للعالم الجليل العز بن عبد السلام الأثر العظيم في إنجاح تلك المعركة, فحينما أراد السلطان قطز أن يفرض ضرائب جديدة على الناس بمصر لتمويل نفقات المعركة, تصدي له الشيخ العز بن عبد السلام رافضا رفضا تاما ذلك, وقال لسيف الدين قطز: "قبل أن تفرض ضرائب على الناس عليك أنت والأمراء أن تقدموا ما تملكونه من أموال وذهب وكنوز لبيت مال المسلمين, فإذا لم تكف هذه الأموال في الإعداد للمعركة, فرضت ضرائب على الناس", وقام قطز بتنفيذ هذا الأمر, وكان أول من وضع ذهبه وأمواله في سبيل الله.
ثالثاً: إن هذه الأمة تضعف وتصاب بالوهن لكن لا يمكن أن تُستأصل، فقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِ أَقْطَارِهَا" [رواه مسلم].
رابعاً: إن هذا الدين دين عظيم يجذب إليه القلوب والعقول، فهؤلاء التتار الذين كانوا أعداء محاربين, وقتلوا من المسلمين الملايين، حصل لهم تحول تاريخي مدهش جداً, ألا وهو دخولهم في الإسلام، فقد دخلت القبيلة الذهبية التترية في دين الله تعالى, وتبعها من تبعها من التتار، وصاروا من جند الله تعالى، وهذا لنعلم أن هذا الدين العظيم لم ينتشر بالسيف كما يدعي المبغضون لهذا الدين, إنما هو يلج القلوب والعقول بدون استئذان.
خامساً: لقد كانت قلوب المسلمين في ذلك الزمان مريضة بحب الدنيا, فتحت لهم الدنيا فأحبوها وتعلقوا بها, وأحبوا الدعة والراحة واللهو واللعب, روى البخاري ومسلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فواللهِ ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسطَ عليكم الدنيا كم بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم" ووقع ما حذر منه النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لَئِنْ تَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، وَأَخَذْتُمْ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ، وَتَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، لَيُلْزِمَنَّكُمُ اللَّهُ مَذَلَّةً فِي رِقَابِكُمْ، لَا تَنْفَكُّ عَنْكُمْ حَتَّى تَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَتَرْجِعُوا عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ" [رواه أحمد وأبو داؤود].
سادساً: ما أشبه اليوم بالبارحة؛ فقد كان المسلمون مشغولون إما بالركون إلى الدنيا أو بقتال بعضهم بعضاً, والعدو يتربص بهم من كل مكان وهم في غفلتهم يعمهون!!. فإضافة إلى حب الدنيا وترك الجهاد في سبيل الله, كانت المنطقة بأسرها تموج بالاضطرابات والفتن، كان الحكام والأمراء يتنافسون على السلطة, واهتمام كل حاكم بحدود مملكته، وإن صَغُرَت وحتى إن بعض الممالك الإسلامية لم تكن إلا مدينة واحدة وما حولها من القرى, ولم يكتفِ الزعماء المسلمون بالفرقة بل كانوا يتصارعون فيما بينهم، ويكيد بعضهم لبعض، ولم يكن أحدهم يأمن جاره مطلقًا، ولم تكن فكرة الوحدة مطروحة أصلاً لقتال العدو الأجنبي الغازي. والأدهى من ذلك طلب بعض الحكام النصرة من الصليبيين والتتار ضد أعدائهم الآخرين من حكام المسلمين!!. وصدق الله إذ يقول: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46].
سابعاً: دبَّت الهزيمة النفسية الرهيبة داخل قلوب المسلمين، فما استطاعوا أن يحملوا سيفًا، ولا أن يركبوا خيلاً، بل ذهب عن أذهانهم أصلاً التفكير في الجهاد والمقاومة, وهذا سهَّل جدًا من مهمة التتار الذين وجدوا أبوابًا مفتوحة، ورقابًا جاهزة للقطع ونفوساً مهزومة ضعيفة!!, إن أخطر ما أصيب به المسلمون هي الروح الانهزامية, التي هي أخطر عليهم من كل سلاح؛ بل لقد قامت وحدها مقام كل سلاح يمكن أن يغزوها به أعداؤها, إذ حققت لأولئك الأعداء ما لم يكونوا ليستطيعوا تحقيقه, حيث كان المسلمون بهذه الروح مستسلمين لأي هزيمة سهلت على أي جيش غزوهم.
يروي ابن الأثير بعض صور المهانة والذل وروح الانهزام الذي أصيب به المسلمون, فيقول: "كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس؛ فيبدأ بقتلهم واحدًا تلوَ الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو دفاع!!. وأخذ تتري رجلاً من المسلمين، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفًا ثم قتله".
فإلى هذا الحد وصلت الهزيمة النفسية في القلوب, عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا" قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ" . قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ".
سابعاً: لقد كان لانتشار الفرق الضالة والطوائف المنحرفة دوراً في هزيمة المسلمين, وفي التآمر أعداء الإسلام, فالتاريخ يوثق لنا خيانة الوزير الشيعي ابن العلقمي, الذي لعب دوراً كبيراً في سقوط بغداد من خلال إضعاف جيش الخلافة, ومكاتبة التتار, وتثبيط الناس عن قتالهم, قال الإمام ابنُ كثيرٍ –رحمه الله-: "وكان الوزيرُ ابنُ العلقمي يجتهدُ في صرفِ الجيوشِ، وإسقاطِ اسمهم من الديوانِ، فكانت العساكرُ في أخرِ أيامِ المستنصرِ قريباً من مائةِ ألفِ مقاتلٍ, فلم يزلْ يجتهُد في تقليلهم، إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف .. ثم كاتب التتارَ، وأطمعهم في أخذِ البلادِ، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقةَ الحالِ، وكشف لهم ضعفَ الرجالِ".
وكان هدفُ ابنِ العلقمي كما حكى ابن كثير -رحمه الله-: "أن يزيلَ السُنةَ بالكليةِ وأن يظهرَ البدعةَ الرافضة، وأن يعطلَ المساجدَ والمدارسَ، وأن يبني للرافضةِ مدرسةً هائلةً ينشرون بها مذهبهم". وهكذا أهل البدع والضلالة في كل زمانٍ مع أعداء الله ضد المسلمين, وكم أصيب الإسلام والمسلمون من جهتهم؟ ونكبوا من قبلهم؟ فليحذر المسلمون منهم ففي التاريخ أبلغ العبر!!.
أيها المؤمنون: لقد اجتهد التتار في إعداد كل ما يمكنهم من النصر، سواء في تدريب الجنود أو إعداد السلاح أو وضع الخطط وتوحيد كلمتهم, بالمقابل كان المسلمون يعيشون في وادٍ آخر, حيث أهمِلَت الجيوش الإسلامية وانحدر مستواها، وكانت الفرقة هي السائدة, والنزاعات هي الطاغية!!.
لقد تهاون المسلمون في إعداد العدة، وكانت الملايين تنفق على القصور والحدائق واللهو وكثر ظهور المطربين والمطربات، والراقصين والراقصات، ولابد أن تهزم أمة كان حالها بهذه الصورة, فأُمَّة الإسلام بغير إعداد لا تقوم, (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: 60]. قال ابن تيمية: "إن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد النَّاصِر".
عباد الله: إن من رحمة الله -سبحانه وتعالى- بنا أن جعل البلايا والمصائب التي تصيب الإنسان؛ بمثابة المنبه الذي يوقظ الإنسان من غفلته عن ربه، فتأتي هذه المصائب لتعيد الإنسان إلى الصراط المستقيم، ولتنبه القلوب الغافلة للعودة إلى الله بالتوبة والاستمساك بدينه, وما أصدق ما قيل عن التتار بأنهم كلاب الله في أرضه، وطالما المسلمون شاردين عن منهج الله -عزّ وجل- وعن طاعته، يسلطهم الله عليهم حتى يعودوا إليه -جل وعلا-!. قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام: 42].
عباد الله: إذا ترك المسلمون الجهاد في سبيل الله، وآثروا حياة الدعة والراحة، وركنوا إلى الدنيا، أصابهم الذل والهوان، وفسدت أمورهم، وسلط الله عليهم أضعف الخلق, وعرضوا أنفسهم لمقت الله تعالى وغضبه, وتعرض الإسلام للضياع، وطغيان الكفر عليه, حتى يعودوا لمصدر عزهم وفخرهم وقوتهم.
ألا ما أحوجنا أن نراجع أنفسنا، ونرجع إلى ديننا، ولنعتصم بربنا، ونحتمي بحماه، واحرصوا -أيها الإخوة- أن يكون همكم الآخرة, واجعلوا الدنيا ممراً لكم إلى جنات النعيم, وإياكم والتنافس الشديد عليها, أو الركون إليها, فإنها أهلكت أمما ممن كان قبلكم.