مكفرات الخطايا

ناصر محمد الأحمد
1436/05/26 - 2015/03/17 02:37AM
مكفرات الخطايا
29/5/1436ه
د. ناصر بن محمد الأحمد

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: للتربية الصالحة أثر كبير في بناء الرجال وتهذيب النفوس وتزكيتها، ولذا كان الفلاحُ كل الفلاح في تطهير القلب من الأهواء والشهوات التي تهوِي بالعبد بعيداً عن جادة الصراط المستقيم. قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) ( الشمس : 9-10 ). وتزكية النفوس أحد المقاصد العظيمة لإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين) ( الجمعة : 2). وإذا سرى نور الإيمان في القلب، ورسخت معالمه في النفس، أثمر ذلك في الجوارح عملاً خالصاً زكياً، وأصبحت حياة المرء كلها في مرضاة الله تعالى. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً بأمته، مشفقاً على أصحابه رضي الله عنهم يحوطهم بنصحه وتوجيهه، ويربيهم على الإقبال على الله تعالى، ويدلهم على أبواب الخير، ومعاقد البر. من ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله: قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". رواه مسلم.
هذا حديث عظيم يُعَدُّ من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام. فقد عدّ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث عدداً من الأمور التي يمحو الله بها الخطايا، ما هي هذه الأمور؟:
أولها: الوضوء: فإنه من الأسباب العظيمة التي تكفر السيئات وترفع الدرجات، ونادراً مع كل أسف نتنبه لذلك، وذلك لتكرره علينا فنتوضأ بشكل تلقائي دون استشعار لهذا الجانب. قال الله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) ( المائدة : 6 ). لِيُطَهِّرَكُمْ: يشمل طهارة البدن بالماء وطهارة الباطن من الذنوب والخطايا، وإتمام النعمة يحصل بمغفرة الذنوب والخطايا وتكفيرها. والنصوص النبوية الدالة على فضائل الوضوء وأنه من القربات التي تمحو الخطايا كثيرة جدًا:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب". رواه مسلم.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره". رواه مسلم.
وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قلت: يانبي الله، فالوضوء حدثني عنه؟ قال:" ما منكم رجل يُقرّب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينثر إلا خرّت خطايا وجه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرّت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجّده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله، إلاّ انصرف من خطيئته كهيئة يوم ولدته أمه". رواه مسلم.
أيها المسلمون: كل هذا في فضل الوضوء. وإسباغ الوضوء له فضل زائد على ما تقدم. فإسباغ الوضوء هو إكماله وإتمامه، بأن تأتي بالماء على كل عضو يلزمك غسله وتعمّه كله بالماء وجرّ اليد عليه. وقد جاء الحث على إسباغ الوضوء في نصوص عديدة: عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشي إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس، أو مع الجماعة أو في المسجد، غفر الله له ذنوبه". رواه مسلم.
فكيف لو كان إسباغ الوضوء مع تحمّل المكاره، "إسباغ الوضوء على المكاره". فالحرص على إسباغ الوضوء على المكاره آية من آيات تعظيم شعائر الله تعالى، وطريق لبناء النفس وتهذيبها، وسبيل من سبل دفع الشيطان ومراغمته ودحره. والمكاره على أنواع: من شدة بردٍ، وألم جسمٍ، وقلة ماءٍ، وحاجةٍ إلى النوم، وعجلةٌ وتحفزٌ إلى أمر مهم، وغير ذلك. قال ابن رجب رحمه الله: "ولا ريب أن إسباغ الوضوء في شدة البرد يشق على النفس وتتألم به، وكل ما يؤلم النفس ويشق عليها فإنه كفارة للذنوب وإن لم يكن للإنسان فيه صنع ولا تسبب، كالمرض ونحوه، كما دلت النصوص الكثيرة على ذلك".
أيها المسلمون: الأمر الثاني: مما عدّه النبي صلى الله عليه وسلم من مكفرات الخطايا: كثرة الخطا إلى المساجد: وكثرة الخطا يكون ببعد الدار عن المسجد، ويكون بكثرة التكرار عليه. والكثرة هنا تعني والله أعلم المداومة على الطاعة، والجلد فيها، والصبر عليها تقرباً إلى الله تعالى، ومحبةً لأمره، واستشعاراً لفضل الله تعالى على عبده بتكفير السيئات.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم:" إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟ "قالوا: نعم يا رسول الله! قد أردنا ذلك، فقال:" يا بني سلمة، دياركم تُكْتَبْ آثاركم! دياركم تُكتب آثاركم!". رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح". رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة".رواه البخاري.
وهنا لفتتان بمسألة كثرة الخطا إلى المساجد:
الأولى: أنه قد يتحقق في القرب من المسجد مصالح أعظم من فوات كثرة الخطا: كيُسر محافظة الأبناء الصغار والشباب على الصلاة، والتزامهم بحلقات العلم ودراسة القرآن الكريم، وكالبعد عن كثير من الفتن التي قد تعرض للمسلم وهو في طريقه إلى المسجد ونحو ذلك، فيكون القرب منه أفضل بحسب المصلحة، كما أن بقاء بني سلمة في ديارهم كان أفضل لما ترتب عليه من مصالح.
الثانية: أن الحرص على كثرة الخطا إلى المسجد لا تعني أن يتكلف المرء سلوك الطريق الأبعد لأجل تكثيرها، فلم يكن هذا من فعل الصحابة رضي الله عنهم أو الأئمة المقتدى بهم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

بارك الله ..


الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: الأمر الثالث: من مكفرات الخطايا في هذا الحديث العظيم: انتظار الصلاة بعد الصلاة: ويكون ذلك من وجهين:
أحدهما: الجلوس في المسجد، وذلك يُتصور بالعادة في ثلاث صلوات: العصر والمغرب والعشاء.
الثاني: تعليق القلب بالصلاة والاهتمام لها، والتأهب لها، وذلك يتصور في الصلوات كلها.
إن تعلق قلب العبد بالصلاة من دلائل الإيمان والصلاح، فهو وإن اشتغل في دنياه وتحصيل معاشه والسعي في حاجات أهله إلا أنه يُقدّر الصلاة حق قدرها، فإذا سمع المنادي ينادي للصلاة ترك شأنه كله مهما كان، وأقبل على مناجاة ربه بكل تضرع وإنابة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وذكر منهم: ورجل قلبه معلق في المساجد". رواه الترمذي.
وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه". رواه البخاري.
وعن سالم بن عبد الله: أنه نظر إلى قوم من أهل المدينة تركوا بيعهم وتوجهوا إلى الصلاة، فقال: هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه: (رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاة) ( النور : 37 ).
وهذا النوع من الانتظار هو المتيسر لغالب الناس، وإن كان ينبغي للإنسان ألا يحرم نفسه من النوع الأول بين الحين والآخر لما له من أثر على صلته بربه عز وجل. ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على ملازمة المسجد، ويبشرهم بعظيم فضل الله تعالى عليهم، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، فعقِب من عقِب ورجع من رجع فجاء صلى الله عليه وسلم وقد كاد يحسر ثيابه عن ركبته، فقال: أبشروا معشر المسلمين، هذا ربكم قد فتح باباً من أبواب السماء يباهي الملائكة، يقول: هؤلاء عبادي قضوا فريضة، وهم ينتظرون أخرى". رواه الإمام أحمد.
أيها المسلمون: فذلكم الرباط، فذلكم الرباط.
شبه النبي صلى الله عليه وسلم المواظبة على الأمور المذكورة في الحديث بالرباط في سبيل الله تعالى، بل قال أبو سلمة بن عبد الرحمن في تفسير قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) ( آل عمران : 200 )، هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه.
فيا عبدالله: إن ملازمة الطاعات والمواظبة على فعل الصالحات، هي الدلالة الصادقة على عظيم الصلة بالله تعالى، وهي الطريق الصحيح لتزكية النفس وتربيتها.

اللهم ..
المشاهدات 1926 | التعليقات 0