مكة ... بلد الله الحرام

الحمد لله الذي خلق البلاد والعباد، وجعل التفاضل بين خلقه أمراً سائدا، فكما فضّل بعض عباده على بعض، فضّل بعض الأمكنة على بعض، فجعل مكة أشرف البقاع وأفضلها، وخير البلاد وأكرمها، إليها تهفو القلوب، وفيها ترتاح النفوس، وعندها يحطّ الخائفون رحالهم، ونحوها يتجه العابدون فيشكون إلى الله حالهم، ويسألونه نجاتهم، هي موطن العبادة والإنابة، فيها أول بيت وضع للناس ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) بيت يثوب الناس إليه ويرجعون، فيجدون فيه الراحة والأمن ولذة العبادة للمولى سبحانه وتعالى، وهم بذلك يتذكرون الأنبياء ويقتدون بهم ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )
مكة ذلك البلد الأمين الذي يأتيه الخير والرزق من كل مكان ، يُساق إليه ويُجلب استجابة لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ).
مكة اختارها الله لمولد نبيه الخاتم ومبعثه صلى الله عليه وسلم، ففيها بدأ نزول القرآن الكريم، ومنها بدأت دعوة الخير والحق، وانتشرت في الآفاق ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) فالعقيدةُ الإسلامية الصحيحة مَنبعها ومصدرها بلدُ الله الحرام: مكة المكرمة.
فالإنسان المسلم يحب مكة من صميم القلب؛ لِما حباها الله من مكان مرفوع، وشأن مرموقٍ، وأثر ملموس مشهود في بناء العقيدة الإسلامية الصحيحة، التي ينال بها صاحبها العزَّة والرِّفعة، والسعادة والكرامة في الدنيا والآخرة، وبدونها يكون شأنه كما جاء في القرآن ( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ).
مكة مأوى الإيمان، ومهوى الإسلام، ومَهبط القرآن، ومولد خير الأنام صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ما دام الليل والنهار ، وإنه لأَوَّلُ بيت وُضِع للناس لعبادة الله الواحد القهار ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ).
لقد أودَع الله في هذه البقعة المباركة الطيِّبة من البركات والخيرات والرحمات ما جعلها تَفضُل سائر بقاع الأرض، وتَعلوها كرامة وعزَّةً وشرفًا.
ولقد ارتبطَت قلوبنا بهذا البلد الحرام أكثر وأكثر من ارتباطنا بأوطاننا وبلادنا؛ لأن علاقتنا وصِلتنا بهذا البلد الأمين علاقة عقيدة وإيمانٍ، وصِلة رُوحٍ وإخلاص، لا تُزعزعه الحدود، ولا تُزلزله الثغور.
هذه البقعة المباركة التي انبثَق منها النورُ والهدى، وانتشر منها العَرْفُ والشَّذى، وفيها وُضِع أساس الإيمان والتوحيد، ورُفِعت معالم الوفاء والفداء، وفيها وُجِدت من الوقائع والحوادث العظيمة التي كان لها أثرٌ بالغ على مسيرة الإنسانية، فالكعبة هي قِبلة المسلمين التي يتوجَّهون إليها بقالَبهم وقلوبهم، ويجتمعون عليها بأرواحهم، ويَرْنون إليها بأبصارهم.
جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس، فهذا البيت الحرام تقوم به حياة الناس في جميع بقاع الأرض، فبقاء هذا البيت على وجه الأرض وكون الناس يتوجهون إليه في صلواتهم، وفي غَدواتهم ورَوحاتهم، يطوفون به في ليلهم ونهارهم - ضمانٌ لبقاء هذا الكون؛ بالسموات والأرض والجبال، والشمس والقمر والكواكب، وإلا كان إيذانًا بدمار هذا الكون وفساده؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( استكثِروا من هذا الطواف بالبيت قبل أن يُحال بينكم وبينه، فإني به أَصمَع أَصعَل يَعلوها يَهدِمها بمِسحاته ) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( يُخرِّب الكعبة ذو السُّوَيْقَتين من الحبشة )
فلا قيمة لمكة بدون الكعبة، والكعبة أساسها التوحيد التي جعَلت الناس تهوي إليها أفئدتهم، وتَميل إليها نفوسهم، فمكة بدون الكعبة قطعة من الأرض بيداءَ قفراءَ، لا زرعَ فيها ولا ماء، ولا يُقام لها أيُّ وزنٍ في خريطة العالم ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ).
مكة يمتاز أهلها بالصلاة، وما يَتبعها من أركان الإسلام، وصالح الأعمال، وحُسن الأخلاق، والبُعد عن الفحشاء والمنكر، وهذه بقعة تاريخية رفَع أهلُها - وعلى رأسهم إبراهيم عليه السلام - لواءَ التوحيد وراية الإيمان، وأعطوا العالم كله درسَ الفداء والتضحية، وبه طار ذِكرهم في البلاد، وعلا شأنهم في العباد، لهذا كان الهدف من بناء الكعبة هدفًا عقديًّا؛ لتكون منارة التوحيد، ومصباح الهدى، ومهوى القلوب، ومثابة للناس على وجه الأرض ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).
لقد حرَّم الله هذا البلد، وشرَّفه وكرَّمه وقدَّسه ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ )
مكة أكرم وأشرف وأفضل البلاد، وأحبُّها إلى الله تعالى من سائر البلاد والبقاع؛ فقال صلى الله عليه وسلم ( إنَّك لخير أرض الله وأحبُّ أرض إلى الله، ولولا أنْ أُخْرِجت منك، ما خرَجت ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب مكة ( ما أطيبَك من بلد وأحبَّك إليَّ، ولولا أنَّ قومك أخرجوني ما سكنَت غيرك ).
نسأل الله أن يجعلنا من عباده الصالحين ...
أقول ما تسمعون، ,استغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.




الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... إنَّ مكة أرض مباركة طيبة، يحنُّ إليها كل من في قلبه مثقال ذرَّة من الإيمان؛ لأنه يجد ضالته في هذا المكان المبارك الطاهر، فتَطْمَئِن نفسُه، ويهدأ قلبه بزيارة ما فيها من الآيات البيِّنات؛ البيت الحرام، الصفا والمروة، والحجر الأسود والحجر اليماني، ومقام إبراهيم، وعرفات، والمزدلفة ومِنى.
كل هذا يزيد المؤمن إيمانًا وتسليمًا، ورضًا وانقيادًا وامتثالاً لمراضي الله تعالى، واجتنابًا لمعاصيه، ويُدرك بكل شعور ووعْي أنَّ المسلمين كلهم إخوة، ربُّهم واحد، كتابهم واحد، قِبلتهم واحدة، وبلدهم الحرام واحد.
عباد الله ... قد أوجب الله على المستطيع من الناس الإتيان إليها من كل مكان، ودخولها بالتواضع والتخشع والتذلل، كاشفين رؤوسهم، متجردين عن لباس أهل الدنيا ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ) وجعل قصدها مكفراً للذنوب، ومُحِطاً للخطايا والذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه ).
ومما اختصت به مكة المكرمة أنها مضاعفة الأجر والثواب بها، وأنّ الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وبها الحجر الأسود الذي ليس موضع على وجه الأرض غيره يُشرع تقبيله، وهو حجر من الجنة.
فمكة منزلتها عظيمة، وفضائلها جليلة، اختارها الله لتكون بلده الحرام، وبها أعظم مساجد الدنيا، الذي يتوجه إليه المسلمون في اليوم خمس مرات، يصلون لله ويعبدونه.
نسأل الله أن يعيننا على ذكره شكره وحسن عبادته.
المشاهدات 1607 | التعليقات 0