مكانة العلماء في الأمة | د. محمد العريفي

مكانة العلماء في الأمة


الحمد لله المستوجب لصفات المدح والكمال ، المستحق للحمد على كل حال ، لا يحصى أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه بأكمل الثناء وأحسن المقال ، فهو المنعم على العباد بالخلق وإرسال الرسل إليهم ، وبهداية المؤمنين منهم لصالح الأعمال ، وهوا لمتفضل عليهم بالعفو عنهم وبالثواب الدائم بلا انقطاع ولا زوال ، له الحمد في الأولى والآخرة حمداً كثيراً طيبا مباركاً فيه متصلاً بلا انفصال .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي هدى به من الضَّلال ، وأمر المؤمنين بالمعروف ونهاهم عن المنكر ، وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث ، ووضع عنهم الآصار والأغلال ، فصلى الله عليه وعلى آله وعلى أصحابه الذين كانوا نصرة للدين حتى ظهر الحق وانطمست أعلام الضلال .

أما بعد :
معاشر المؤمنين :
إن الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان ، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب فعلمهم الكتاب والحكمة وعلمهم التأويل وفضلهم على سائر المؤمنين ، وذلك في كل زمان وأوان ، رفعهم بالعلم وزينهم بالحِلم . بهم يُعرَف الحلال من الحرام والحق من الباطل والضَّار من النافع والحَسَن من القبيح وفَضْلهم عظيم وخَطرهم جزيل ، ورثة الأنبياء وخيرة الأولياء ، الحيتان في البحار لهم تستغفر ، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع ، والعلماء في القيامة بعد الأنبياء تشفع ، مجالسهم تُفيد الحكمة وبأعمالهم يَنـزجِر أهل الغَفْلة .

هم أفضل العباد ، وأعلى دَرَجةً من الزّهاد ، حياتهم غَنيمة ، وموتهم مُصيبة ، يُذكِّرون الغافل ويُعلِّمون الجاهل ، لا يتوقع لهم بائقة ، ولا يُخَاف منهم غائلة ، بحُسن تأديبهم يمتاز المطيعون ، وبجميل موعظتهم يَرجِع المقصِّرون ، جميع الخلق إلى علمهم محتاج ، وما ورد على أمراء المسلمين من حُكمٍ لا عِلْم لهم به فبقولهم يعملون وعن رأيهم يَصدرون ، وما أشْكَل على قُضاة المسلمين من حُكْمٍ فبقول العلماء يحكمون وعليه يُعَوِّلون ، فهم سِراج العباد ومَنار البلاد وعِماد الأمة وينابيع الحكمة ، هم غَيظ الشياطين ، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، إذا طُمِستِ النجوم تَحيَّروا ، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا .

أيها المسلمون :

إن للعلماء في الأمة مكانةً عظيمة ولهم فيها مآثر جسيمة ، ولهم عند الله تعالى منزلة لا يبلغها غيرهم .
فالعلماء أشد الناس وأكثرهم لله خَشية (إنما يخشى الله من عباده العلماء) والعلماء خير البرية .. (أولئك هم خير البرية) .
العلماء منـزلتهم أرفع منزلة وأزكاها : (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) .
والعلماء هم المرجع عند السؤال .. (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) والعلماء لا يساويهم أحد في منزلتهم ورتبتهم ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) والعلماء هم الذين يَعقِلون من مُراد الله ما لا يَعقِله غيرهم .. (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) .
والعلماء هم ورثة الأنبياء .. "إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما وإنّماورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" رواه أحمد وابوداود .
والعلماء فضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب .
والعلماء هم الذين لا يَشقى بهم جليسهم : " هم القوم لا يشقى بهم جليسهم " رواه البخاري ومسلم.
مجالسهم تَحُفُّها الملائكة وتَغْشاها الرحمة وتَنزِل عليها السكينة ويَذْكرهم الله فيمَنْ عنده ، فيزدادون بذلك عِزاً إلى عِزهم وشرفا إلى شرفهم ورِفعةً إلى رِفعتهم .

رَأَيْتُ الْعِلْمَ صَاحِبُهُ شَرِيفٌ وَإِنْ وَلَدَتْهُ آبَاءٌ لِئَامُ

وَلَيْسَ يَزَالُ يَرْفَعُهُ إِلَى أَنْ يُعَظِّمَ قَدْرَهُ الْقَوْمُ الْكِرَامُ

وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي كُلِّ أُفْقٍ وَمَنْ يَكُنْ عَالِمًا فَهُوَ الْإِمَامُ

فَلَوْلَا الْعِلْمُ مَا سَعِدَتْ نُفُوسٌ وَلَا عُرِفَ الْحَلَالُ وَلَا الْحَرَامُ

فَبِالْعِلْمِ النَّجَاةُ مِنَ الْمَخَازِي وَبِالْجَهْلِ الْمَذَلَّةُ وَالرَّغَامُ

هُوَ الْهَادِي الدَّلِيلُ إِلَى الْمَعَالِي وَمِصْبَاحٌ يُضِيءُ بِهِ الظَّلَامُ


قال أبو مسلم الخولاني – رحمه الله – : العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا بَدتْ للناس اهتدوا بها وإذا خَفيت عليهم تحيروا .
وقال أبو الأسود الدؤلي : الملوك حُكام على الناس والعلماء حكام على الملوك .
إنَّ الأكَابَر يَحكمونَ على الوَرَى وعلى الأكابرِ تحَكُم العُلماء
وقال سفيان بن عيينة : أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء .

معاشر المؤمنين :

فإن مما يدعو إلى إثارة هذا الموضوع ما انتشر في بعض المجالس من الوقيعة في أهل العلم ، فهذا يتهمهم بالمداهنة ، وذاك يتهمهم بالسعي وراء الدنيا ، والثالث يتهمهم بحب الشهرة ، والرابع والخامس والسادس ، وتجد الحاضرين لا يذبوا عن أعراض هؤلاء الأعلام ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "ما من مؤمن يخذل مؤمناً في موطن ينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته" رواه أحمد وأبوداود .فكيف إذا كان هذا المؤمن هو أهل الله وخاصته فالإثم هنا يكون أعظم ، والخطيئة تكون أطم .
ومن العجب أن بعض الناس إذا سمع فتوى أو حكماً لأحد هؤلاء العلماء لم يستجب وينصاع وإنما يجادل ويُحاجّ .. ولو كانت مُجادلته على عِلمٍ لأذعنا ولكنها بهَوى وجهل .
وربما تجد بعضهم إذا جلست معه فأثيرت مسألة فأخبرته بفتوى العلماء فيها ، فإذا به يحرّك يده يقول : والله هذه الفتوى فيها نظر ، غريبة ، أنا غير مُقتنع بها .. هل قال ذلك بعلم؟ .. لا ليس بعلم إنما قناعة شخصية .
وأشبّه ذلك بما جاء عن القاضي شريك رحمه الله أنه جلس في مجلس بعض الأمراء فألقى عليهم شريك حديثاً ، فقال أحد الوزراء ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق .
فقال له شريك : نعم ، شغلك عن سماع هذا ومثله جلوسك على الوسائد في صدور المجالس ،ولم تحضر دروس العلم في المساجد .
وقال صلى الله عليه وسلم "ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه" رواه أحمد والحاكم .

ولا خير في قومٍ تذلُّ كرامُهم ويعظُم فيهم نذلُهم ويسُودُ

قال الشيخ عبد الرحمن ين سعدي رحمه الله تعالى : "وإن من عقيدة أهل السنة أنهم يدينون الله باحترام العلماء والهداة "
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى : وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر ، لا يُذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل .
أيها المسلمون :
إن الله جل وعلا قد أكرمنا بعلماء أجلاء أفنوا أعمارهم في العلم وطلبه .. وصرفوا أوقاتهم في حفظه . وأمضوا أيامهم ولياليهم في الدعوة إليه وتبليغه .
أفيكون جزاؤهم بعد كل هذا التعب والكد والصبر والسهر أن يُغتابوا في المجالس ، أو يُتهموا في نياتهم مع أن غيرهم يَضل ويفسق ويفجر ولا يجد ما يجدون .
والله ما صار حال الواحد منهم إلا كما قال أحدهم :

فلا خير في علم يكون مذلة فجهلي إذاً أرجى وإن كان ضلة .
وإني ومن يعمل بهذا أذلة أأشقى به غرسا ًوأجــنيه ذلة .
إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما

بارك الله لي ولكم في الكتاب العظيم ونفعني وإياكم بما جاء فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه إنه غفور رحيم



الخطبة الثانية :

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وخلانه ومن سار على نهجه واقتفى أثره واتبع سنته إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا . أما بعد :
أيها الإخوة :
إن واجب العلماء على الأمة عظيم وفضلهم متواصل عميم ، وإن من حقوقهم التي أقرتها الشريعة لهم :
1- أن يُرجَع إليهم عند أي اختلاف ، فقد قال تعالى (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) .
وقال تعالى : (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) .
ومن حقوقهم علينا :
1- الثناء عليهم في المجالس والذب عن أعراضهم وقد قال الإمام ابن عساكر رحمه الله تعالى : "اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة ، وعادة الله في هَتْك أستار مُنتقِصيهم معلومة ، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثَّلْب ابتلاه الله قبل موته بموتِ القلب .
ومن حقوقهم :
2- الدعاء لهم بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة وحُسن الخاتمة .
ومن حقوقهم :
3- الزيارة لهم للاقتداء بأفعالهم وسمتهم .
ومن حقوقهم :
4- بذل النصيحة لهم .

أيها المسلمون :

والله إن الواحد منا ليعجب عندما ينظر في تكريم بعض الأمم الضالة الزائفة لعلمائها فمن نظر في تعظيم الرافضة الشيعة وتكريمهم لعلمائهم لرأى العجب العُجاب .
واليهود كذلك عندهم طائفة تُسمى أهل الجسديم ومعناه الصلحاء ، ومذهبهم الاشتغال بالنسك وعبادة اللّه سبحانه واليهود ينظرون إليهم نظرة فيها القدسية والجلال بل يعتبرون الواحد منهم مرشداً ومعلماً وموجهاً ويعطونه ثقة كاملة وطاعة مطلقة ويعترفون له بالذنوب ويحدثونه بأسرارهم ، هذا وهم على ضلال فكيف بأهل الحق ؟ لا شك أنههم أولى وأحق بالتكريم ،بلا غلو ولا تفريط .
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعزُّ فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ،
اللهم احفظ علمائنا ومشايخنا وأيدهم بتأييدك ، اللهم سدد آراءهم ، اللهم بارك في علمهم ووفقهم وإيانا يا رب العالمين .
اللهم من أراد بنا أو بعلمائنا سوءاً فأشغله بنفسه ، اللهم لا ترفع له راية واجعله لمن خلفه آية .
اللهم أحينا على الإسلام سعدا وأمتنا على التوحيد شهدا ولا تشمت بنا عدوا ولا حاسدا .
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وآباءهم اللهم من كان منهم حياً فأحيه حياة طبية وأحسن لنا وإياه الخاتمة ومن كان منهم ميتاً فأكرمه وأورثه فرحاً وسروراً وتجاوز عنا وعنه يا رب العالمين .
اللهم إنك تعلم ما يحيط بالمسلمين في هذا الزمان من ضنك وشدة ، اللهم أصلح أحوالهم يا رب العالمين وأزل شدتهم وأنزل بعدوهم بأسك يا رب العالمين ثم صلوا وسلموا أيها المسلمون على خاتم الأنبياء والمرسلين ، اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد ، وارض الله عن جميع صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اللهم اسلك بنا سبلهم ، واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واحمِ حوزة الدين ، واجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وجميع بلاد المسلمين .
عباد الله :
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .

المشاهدات 1311 | التعليقات 0