مقصد حفظ المال في الإسلام

أ.د عبدالله الطيار
1445/02/10 - 2023/08/26 11:13AM

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ ربِّ الأربابِ، ومسبِّبِ الأسبابِ، أَمَرَ بالإصلاحِ وَوَعَدَ عليه بالثَّوَابِ، ونَهَى عن الإِفْسَادِ، وتَوَعَّدَ المُفْسِدِينَ بالعِقَابِ، سُبْحَانَهُ الْعَزِيزُ القَهّارُ، فرَّقَ بين المُصْلِحِينَ الأَبْرَار وبَيْنَ المُفْسِدِينَ والْكُفَّارِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) ص: [28] وَأَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُهُ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ فقد وصَّاكُمُ اللهُ بهذا قالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) النساء: [131].

أيُّهَا المؤمنونَ: المالُ في الإسلامِ نعمةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وَزِينَةٌ جُبِلَتْ النُّفُوسُ على حُبِّهَا وَالمَيْلِ إِلَيْهَا، وَالْحِرْص ِعلى اقْتِنَائِهَا، قَالَ سُبْحَانَهُ: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) الكهف: [46].

عِبَادَ اللهِ: وَنِعْمَةُ المالِ مَتَى رَعَاهَا الإِنْسَانُ حَقَّ رِعَايَتِهَا وَتَحَرَّى كَسْبَهَا وَأَحْسَنَ إِنْفَاقَهَا فَتَنَاوَلَهُ مِنْ حِلِّهِ، وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ، وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا خُلِقَ لأَجْلِهِ، كانَ المَالُ زَادًا فِي الدُّنْيَا، وَذُخْرًا فِي الآَخِرَةِ، قَالَ ﷺ: (نِعمَ المالُ الصالِحُ للرَّجلِ الصالِحِ) أخرجه أحمد (17763).

أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَحِفْظُ المالِ مَقْصَدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَإِحْدَى الضَّرُورَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِحِفْظِهَا، وَتَحْرِيمِ الاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا أَوْ إِتْلافِهَا وَإِهْدَارِهَا، قَالَ تَعَالَى: (كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأنعام: [141] وَقَالَ ﷺ:(إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاثًا) إِلَى أَنْ قَالَ: (ويَكْرَهُ لَكُمْ: قيلَ وقالَ، وكَثْرَةَ السُّؤالِ، وإضاعَةَ المالِ) أخرجه مسلم (1715).

عِبَادَ اللهِ: وقَدْ وَضَعَتْ الشَّرِيعَةُ الإسْلامِيَّةُ وَسَائِلَ وَأَسَالِيبَ لِكَسْبِ المالِ إِيجَادًا وَالْحِفَاظِ عَلَيْهِ بَقَاءً، وتَنْمِيَتِهِ نَمَاءً وَادِّخَارًا، فَجَعَلَت حِفْظَ المالِ وَحُسْنَ إِنْفَاقِهِ عَلامَةً عَلَى سَلامَةِ الْفَهْمِ، وَقُوَّةِ الْفِقْهِ، وَرَجَاحَةِ الْعَقْلِ، كَمَا أَنَّ إِسَاءَةَ إِنْفَاقِهِ، وَسُوءَ تَدْبِيرِهِ دَلِيلُ السَّفَهِ وَقِلَّةِ الْعَقْلِ، وَغِيَاب الْفِقْهِ، قَالَ تَعالَى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) النساء: [5]  وَمِنَ الْوَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ لِحِفْظِ المالِ مَا يَلِي:

أَوَّلًا: تَحَرِّي الْحَلال فِي الرِّزْقِ، والمشْرُوعَ في الطَّلَب، فَيَنْظُرُ المرْءُ أَيُّهَا أَزْكَي طَعَامًا وَأَبْعَدُ عَن الرِّيبَةِ، وَأَخْلَصُ مِنْ شَوَائِبِ الْحَرَامِ، فَيَطْعَمَ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) المائدة: [88].

ثانيًا: وَمِنْ وَسَائِلِ حِفْظِ المالِ الاقْتِصَادُ فِي اسْتِعْمَالِهِ، والتَّوَسُّطُ فِي إِنْفَاقِهِ، فَلا إِسْرَافَ وَلا تَقْتِيرَ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) الفرقان: [67] وقَالَ تَعَالَى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) الإسراء:29] وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: (وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى) أخرجه النسائي (1305) وأحمد (18351) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1301).

ثالثًا: وَمِنْ وَسَائِلِ حِفْظِ المَالِ فِي الإِسْلامِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ، وَالتَّصَدُّق بِهِ، قَالَ ﷺ: (مَنْ تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولا يَقْبَلُ اللَّهُ إلّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُها بيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيها لِصاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ) أخرجه البخاري (1410) ومسلم (1014).

رابعًا: وَمِنْ وَسَائِلِ حِفْظِ المالِ: ادِّخارُ الزَّائِد مِنْهُ أَو اسْتِثْمَارُهُ فِي وُجُوهِ الْحَلالِ فَالادِّخَارُ سَبِيلٌ لِحِفْظِ المالِ وَضَمَانٌ لِبَقَائِهِ قَالَ ﷺ: (كُلُوا وتَزَوَّدُوا وادَّخِرُوا) أخرجه مسلم (1972) وكانَ النَّبِيُّ ﷺ (يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، ويَحْبِسُ لأهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِم) أخرجه البخاري (5357).

خامسًا: التَّقَلُّلُ مِنَ المُبَاحَاتِ، والْحَذَرُ مِنَ التَّرَفِ، والانغِمَاسِ في المَلَذَّاتِ، فقدْ ماتَ رسُولُ اللهِ وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ في يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَينِ) أخرجه مسلم (4792) وقَالَ ﷺ: (فِراشٌ لِلرَّجُلِ، وَفِراشٌ لاِمْرَأَتِهِ، والثّالِثُ لِلضَّيْفِ، والرّابِعُ لِلشَّيْطانِ) أخرجه مسلم (2084).

عِبَادَ اللهِ: اعْلَمُوا أَنَّ مِنْ أَهَمِّ وَسَائِلِ حِفْظِ الماَلِ خَاصَّةً، وَحِفْظِ النِّعَمِ عَامَّةً، شُّكُرَ اللهِ عز وجل، فَالشُّكْرُ ضَمَانٌ لِحِفْظِ النِّعَمِ، وَسَبَبٌ لِبَقَائِهَا، وَالزِّيَادَة مِنْهَا.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ:(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم: [7].

بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:

الْحَمْدُ للهِ الوَلِيِّ الحميدِ، هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ، أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآَلائِهِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى إِحْسَانِهِ وَعَطَائِهِ، وَأَشْهَدُ ألّا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:

فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا أنَّ المالَ كَمَا يَكُونُ نِعْمَةً للمَرْءِ، يَكُونُ نِقْمَةً عليه إِذَا أَشْغَلَ عَن وَاجِبٍ، أَو اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مُنْكَرٍ، قَالَ تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) الأنفال: [28] وَقَالَ ﷺ: (إنَّ لكلِّ أمَّةٍ فتنةً وفتنَةُ أمَّتي: المالُ) أخرجه الترمذي (2336) وصححه الألباني.

أيُّهَا المؤمنونَ: ومن أسبابِ بركةِ المالِ ونَمَائِهِ: الْعِنَايَةُ بِالْقُرْآَنِ الْكَرِيمِ قِرَاءَةً وَتَدَبُّرًا وَتَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا، قَالَ تَعَالَى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأنعام: [155] وَهُنَا أُوصِي أَوْلِيَاءَ الأُمُورِ حَثَّ الأَبْنَاءِ والبَنَاتِ على تَعَلُّمِ القرآنِ الكريمِ، عنْ طَرِيقِ حَلَقَاتِ التَّحْفِيظِ في المسَاجِدِ والْجَوَامِعِ والدُّورِ، فَالْقُرْآَنُ يُهَذِّبُ سُلُوكَهُمْ، وَيُقَوِّمُ لِسَانَهُمْ، وَيَرْبِطهُم بِخَالِقِهِم عزَّ وجلَّ، فهو من أعظم أسبَاب الْبَرَكَةِ في المالِ والأَهْلِ والْوَلَدِ.

أَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَنَا رِزْقًا حَسَنًا مُبَارَكًا حَلالًا طَيِّبًا، وَأَنْ يُبَارِكَ فِيهِ.

اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِالإِسْلامِ قَائِمِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلامِ قَاعِدِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلامِ رَاقِدِينَ، وَلا تُشْمِتْ بِنَا أَعْدَاءً وَلا حَاسِدِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ أَعِنْهُ وَسَدِّدْهُ، وَاجْعَل لَهُ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ وَوُزَرَاءَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.

اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ. 
     الجمعة 1445/2/9هـ

المشاهدات 436 | التعليقات 0