مقدمات في الدعاء - 5
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
***
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
عباد الله، تقدم في الخطب الماضية تقرير أن الدعاءُ عبادة جليلة، قد خصها الله بالذكر في كثير من الآيات، وبــيَّـن النبـي (صلى الله عليه وسلم) شرفها في كثير من الأحاديث الصحيحة، كما تقدم بيان أربعة أنواع من أنواع الأسباب التي إذا بذلها الداعي كان دعاؤه قريبا للإجابة، واليوم نتكلم عن النوعين الخامس والسادس بإذن الله.
***
السبب الخامس من أسباب إجابة الداعي: تحري الأماكن التي يجاب فيها الدعاء
1. عباد الله، ومن أنواع الأسباب التي تجعل الدعاء قريبا للإجابة تحري الأماكن التي يجاب فيها الدعاء، وهما اثنتان، الأولى الدعاء يوم عرفة للحاج، لحديث: «خيرُ الدعاء دعاء يوم عرفة»([1]).
2. والمكان الثاني هو المَشعر الحرام، ويقع في طرف الـمزدلفة من جهة مِنى، فالدعاء صَبــيحة يوم العيد للحاج في ذلك المكان قريب للإجابة، ودليله حديث جابر في صفة حج النبي )صلى الله عليه وسلم)، وفيه «أن النبي )صلى الله عليه وسلم) بات في المزدلفة، فلما صلى الصبح ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهَلَّله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسْــفَرَ جدًّا»([2]).
فتحري الدعاء في ذلك الوقت في ذلك المكان أمر مسنون وقريب للإجابة إن شاء الله، تأسيًا بالنبي )صلى الله عليه وسلم).
***
السبب السادس من أسباب إجابة الدعاء: التحلي بآدابه
أيها المسلمون، ومن الأسباب التي تجعل الدعاء قريبا للإجابة أسباب متعلقة بآداب الدعاء، ورؤوسها أربعة عشرة:
1. استصحاب حُسن الظن بالله وتيقن الإجابة لحديث: «ادعوا الله وأنتم مُوقنون بالإجابة»([3])، أي أن الله لا يُخيبكم، وهذا إذا صدق الداعي في الرجاء وأخلص الدعاء، لأنه إذا لم يكن رجاؤه واثقًا لم يكن دعاؤه خالصًا متضرعًا، فالقلب مَـلِكٌ والجوارحُ عبيدٌ.
وقال )صلى الله عليه وسلم): «يقول الله تعالى: أنا عند ظنِّ عَبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني»([4])، وفي رواية لمسلم: «وأنا معه إذا دعاني»([5]).
***
2. عباد الله، ومن أسباب إجابة الدُّعاء؛ الدعاء بإلحاح ورقة وإخلاص وتضرع، فإن الإخلاص والتذلل سِرُّ الإجابة، عملًا بقوله تعالى: ﴿ادعوا ربكم تضرعا وخفية﴾.
وعن عبد الله بن مسعود )رضي الله عنه) قال: قال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «ما أصاب أحدًا قط همٌّ ولا حَزنٌ فقال: اللهم إنِّي عبدُك، ابن عبدك ابن أَمَتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فِـيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هُوَ لَكَ، سَمَّيت به نفسك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو أنـزلتَه في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي؛ إلا أذهب اللهُ (عز وجل) همَّه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا.
فقيل: يا رسول الله، أَلَا نتعلمها؟
فقال: بلى، ينبغي لِمَن سَـمِعها أن يتعلمها»([6]).
***
3. الدعاء بحضور قلب، لحديث أبي هريرة )رضي الله عنه): «ادعوا الله وأنتم مُوقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً مِن قلبٍ غافلٍ لاهٍ»([7]).
«أي ينبغي أن يكون قلبك حاضرًا وأنت تدعو، متفهمًا لـما تقول، وتذكَّر أنك تـخاطب ربَّ العزة والجلال، فلا يليق بك وأنت العبد الذليل أن تخاطب مولاك بكلام لا تَعِيه، أو بِجُملٍ عفوية قد اعتدت تكرارها دون التفهم لِفحواها أو الإدراك لمعانيها»([8]).
***
4. عباد الله، ومن أنواع الأسباب التي تجعل الدعاء قريبا للإجابة إظهار الفقر إليه برفع اليدين إلى السماء، ففيه إظهار للذِّلة والافتقار إلى الله العزيز الجبار، فعن سلمان الفارسي )رضي الله عنه) عن النبي )صلى الله عليه وسلم) قال: «إنَّ ربَّكم حييٌّ كريم يَستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يَـرُدَّهما صِفرًا»([9]).
***
5. عباد الله، ومن آداب الدعاء الاعتراف بالذِّنب إن كان الدعاء متعلقًا بطلب المغفرة، ومَن تأمل استغفار الأنبياء وجد ذلك واضحًا، قال آدم )عليه السلام): ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾.
وقال الله عن ذي النون ﴿وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إلـٰه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾.
وعن أبي بكر الصديق )رضي الله عنه) أنه قال لرسول الله )صلى الله عليه وسلم): عَلِّمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: «قل: اللهم إنِّي ظَلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم»([10]).
وعن شَدَّاد بن أوس )رضي الله عنه) عن النبي )صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «سَيِّدُ الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شَرِّ ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوءُ لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»([11]).
6. ومن آداب الدعاء وصفُ الحال، ومن ذلك دعاء زكريا في أول سورة مريم ﴿قال رب إني وَهَنَ العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا﴾، فمَهَّد زكريا لدعائه بما يستدعي الرحمة ويَستــجلب الرأفة، من كِبَر السِّنِّ، وضعــف الحال، ثم توســل باستجــابة الله إليه فيما مضى، فقال ﴿ولم أكن بدعائك رب شقيا﴾.
وقال موسى لما سَقَى للمرأتين ﴿رب إني لِما أنزلت إلي من خير فقير﴾، فجاءه الخير لمَّا جاءته إحدى المرأتين تدعوه لزيارة أبيها ومِن ثَمَّ وجد زوجة تقيةً وصِهرًا صالحًا وعملًا يُغنيه عن الفقر ﴿فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا﴾.
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761
([1]) رواه الترمذي (3585)، وحسنه الألباني.
([2]) رواه مسلم (1218).
([3]) أخرجه الترمذي (3479)، والحاكم (1/493) عن أبي هريرة )رضي الله عنه)، وحسنه الألباني في «الصحيحة» (594).
([4]) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) عن أبي هريرة )رضي الله عنه).
([5]) صحيح مسلم (2685).
([6]) رواه أحمد في «مسنده» (1/391)، وصححه الألباني كما في «الصحيحة» (199).
وفي إخفاء الدعاء عشرة فوائد ذكرها ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (15/15-22).
([7]) تقدم تخريجه قريبًا.
([8]) «كتاب الدعاء» لعبد الله الخضيري (ص 23)، الناشر: مدار الوطن- الرياض.
([9]) رواه ابن ماجه (3865)، وابن حبان (3/160)، وصححه الألباني.
([10]) رواه البخاري (834)، ومسلم (2705).
([11]) رواه البخاري (6306).
المرفقات
1734588616_مقدمات في الدعاء - 5.doc
1734588617_مقدمات في الدعاء - 5.pdf