مقدمات في الدعاء - 1

ماجد بن سليمان الرسي
1446/05/19 - 2024/11/21 15:40PM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).

أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

***

أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.

***

الدعاء عبادة جليلة

أيها المؤمنون، الدعاءُ عبادة جليلة، قد خصها الله بالذكر في كثير من الآيات، وبــيَّـن النبـي )صلى الله عليه وسلم) شرفها في كثير من الأحاديث الصحيحة، فمنها حديث سلمان الفارسي )رضي الله عنه) عن النبـي )صلى الله عليه وسلم) قال: «إن الله حَـيِـيٌّ كريمٌ يستحيـي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرًا خائبتين»([1]).

وقال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء»([2]).

وقال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «لا يرُدُّ القضاءَ إلا الدعاءُ»([3]).

وقد جاء تصريح النبـي )صلى الله عليه وسلم) بتعظيم شأن الدعاء في قوله: «الدعاءُ هو العبادة»، وقرأ ﴿وقال ربكم ادعوني أستجب لكم﴾ إلى قوله: ﴿داخرين﴾. ([4])

وحَصْرُ العبادة في الدعاء هنا ليس حَصْرًا كليًّا، بمعنى: أن الدعاء يضم جميع أنواع العبادات، كلا؛ بل المراد به التنبيه على عِـظم الدعاء وشرف مكانته، وأنه لُبُّ العبادة وخالصُها وركنـها الأعظم، وهو كـقوله )صلى الله عليه وسلم): «الـحَجُّ عَرَفَةٌ»([5])، وقوله: «الدِّينُ النَّصيحةُ»([6]).

***

أمر الله بدعائه

عباد الله، لقد أمر الله بدعائه، وكل ما أمر الله بفعله فهو عبادة واجبة أو مستحبة، كما في الآية المتقدمة ﴿وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين﴾، وقال تعالى: ﴿ادعوا ربكم تضرعا وخفية﴾.

وكذلك النبي )صلى الله عليه وسلم) أمر بدعاء الله، كما في قوله: «فأمَّا الركوع فَعَظِّموا فيه الرَّبُّ تعالى، وأمَّا السجود فأكثروا من الدعاء، فَـقَمِنٌ([7]) أن يُستجاب لكم»([8]).

عباد الله، وكل ما أمر الله به أمر إيجاب أو استحباب فهو عبادة عند جميع العلماء.([9])

***

الدعاء يتضمن عبادات أخرى

أيها المسلمون، والدعاء يتضمن عبادات أخرى، وبـيان ذلك أن الداعي راغبٌ راهبٌ كما قال تعالى: ﴿يدعوننا رغبا ورهبا﴾، والرغبة والرهبة عبادات بحد ذاتها، لأن الله أمر بها في قوله تعالى: ﴿وإلى ربك فارغب﴾، وقال: ﴿وإيٰي فارهبون﴾.

كذلك فإن الدعاء يتضمن الخوف من الله والرجاء لما عند الله، وهي عبادات أيضًا لكون الله قد أمر بها كما في قوله تعالى: ﴿وخافونِ إن كنتم مؤمنين﴾، وقوله تعالى: ﴿اعبدوا الله وارجو اليوم الآخر﴾.

ومما يدل -أيضًا- على أن الدعاء عبادة هو أنَّ الدعاء جزء من الصلاة، فإن المصلي لا ينفك عن الدعاء من أول الصلاة إلى آخرها، في الفاتحة وفي السجود وبـين السجدتين وفي التشهد الأخير.

***

وجوب إفراد الله بعبادة الدعاء

أيها المؤمنون، إن القرآن والسنة يأمران بإفراد الله وحده بالدعاء، وينهيان عن دعاء غيره، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ادعوا ربكم تضرعا وخفية﴾، وقوله تعالى: ﴿وسئلوا الله من فضله﴾.

قال الشيخ عبد الرحمـٰن بن محمد بن قاسم([10]) )رحمه الله): «وأما إفراد الله بالدعاء فجاء ذكره في نحو ثلاثمائة موضع منوع، تارة على صيغة الأمر به، كقوله: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾، ﴿وادعوه مخلصين له الدين﴾، وتارة يذكره الله بصيغة النهي كقوله: ﴿فلا تدعوا مع الله أحدا﴾، وتارة يقرنه بالوعيد كقوله: ﴿فلا تدع الله مع إلـٰها آخر فتكون من المعذبين﴾، وتارة بتقرير أنه هو المستحق للألوهية والتعبد كقوله: ﴿ولا تدع مع الله إلـٰها آخر لا إلـٰه إلا هو﴾، وتارة في الخطاب بمعنى الإنكار على الداعي كقوله: ﴿ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك﴾، وتارة بمعنى الإخبار والاستخبار ﴿قل أرءيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات﴾، وتارة بالأمر الذي هو بصيغة النهي والإنكار ﴿قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله  لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض﴾، وتارة أن الدعاء هو العبادة، وأن صرْفَه لغير الله شرك ﴿ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة﴾ إلى قوله: ﴿وكانوا بعبادتهم كافرين﴾، ﴿وأعتزلكم وما تدعون من دون الله﴾ إلى قوله: ﴿فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله﴾.

وفي الحديث: «الدعاء هو العبادة»([11])، صححه الترمذي وغيره، وقد أتى فيه بضمير الفصل، والخبر المعرَّف باللام ليدل على الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء، وأنه مُعظَم كل عبادة، ونهى أن يُشرك معه أحد فيه، حتى قال في حق نبيه )صلى الله عليه وسلم): ﴿قل إنما أدعوا ربي ولا أشرك به أحدا﴾، وأخبر أنه لا يَغفر أن يشرك به([12])». انتهى.

عباد الله، ومن أدلة وجوب إفراد الله بالدعاء؛ حديث ابن عباس )رضي الله عنهما)، أنَّ النبي )صلى الله عليه وسلم) قال: «إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله»([13]). 

وعن أبي هريرة )رضي الله عنه)، أن رسول الله )صلى الله عليه وسلم) قال: «يَنـزل ربُّنا )تبارك وتعالى) كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟»([14]).

***

النهي عن دعاء غير الله

أيها المسلمون، وقد جاء النهيُ صريحًا عن دعاء غير الله في حديث ابن مسعود )رضي الله عنه) عن النبي )صلى الله عليه وسلم) قال: «من مات وهو يدعو من دون الله نِدًّا([15]) دخل النار»([16]).

وعن أبـي هريرة )رضي الله عنه) قال: قال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «تَخرج عنق من النار يوم القيامة، لها عينان تبصران، وأذنان تسـمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وُكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلـٰهًا آخر، وبالـمُصَوِّرين»([17]).

***

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

***

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761



([1]) رواه الترمذي (3556)، وصححه الألباني.
([2]) رواه الترمذي (3370)، عن أبي هريرة )رضي الله عنه)، وحسنه الألباني.
([3]) رواه الترمذي (2139)، عن سلمان الفارسي )رضي الله عنه)، وحسنه الألباني، انظر «الصحيحة» (154).
([4]) رواه أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، وغيرهما عن النعمان بن بشير )رضي الله عنه)، وصححه الشيخ الألباني.
([5]) رواه النسائي (3016) وغيره، عن عبد الرحمـٰن بن يعمر )رضي الله عنه)، وصححه الألباني.
([6]) رواه مسلم (55) عن تميم الداري )رضي الله عنه).
([7]) أي: حريٌّ.
([8]) رواه مسلم (479).
([9]) قاله الشيخ عبد الله بن عبد الرحـمـٰن أبا بطين رحمه الله في كتابه «تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس» (ص127).
([10]) الشيخ عبد الرحمـٰن من علماء نجد المعروفين، ولد سنة 1319هـ، ودرس على يد جملة من علماء نجد، تميز الشيخ بخدمة التراث العلمي من مصادره ثم تحقيقه وطباعته، أبرزها فتاوى ابن تيمية، وللشيخ مؤلفات وشروحات الله بها كثيرًا توفي الشيخ عبد الرحمـٰن سنة 1392 هجرية )رحمه الله) ، رحمه الله رحمة واسعة.
([11]) تقدم تخريجه.
([12]) «السيف المسلول على عابد الرسول» ص 131، 132، باختصار وتصرف يسير.
([13]) رواه الترمذي (2516)، وأحمد (1/303)، وصححه الألباني.
([14]) رواه البخاري (1145)، ومسلم (1772)، وغيرهما.
([15]) الند هو المثيل والنظير.
([16]) رواه البخاري (4497) عن عبد الله بن مسعود )رضي الله عنه).
([17]) رواه الترمذي (2574)، وصححه الألباني.

المرفقات

1732192797_مقدمات في الدعاء - 1.doc

1732192797_مقدمات في الدعاء - 1.pdf

المشاهدات 152 | التعليقات 0