مقام الصيام في مدارج العبودية

مَقَامُ الصِّيَامِ فِي مَدَارِجِ العُبُودِيَّةِ
23/8/1433


الحَمْدُ للهِ الكَرِيمِ التَّوَّابِ، الرَّحِيمِ الوَهَّابِ؛ [غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ] {غافر:3}، نَحْمَدُهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْمَدَ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمٍ لاَ تُحَدُّ وَلاَ تُعَدُّ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ أَنَارَ طَرِيقَ العُبُودِيَّةِ لِلسَّالِكِينَ، وَأَفَاضَ رَحْمَتَهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ جَاءَ بِالعُبُودِيَّةِ الحَقَّةِ؛ فَانْتَشَلَ النَّاسَ مِنْ عُبُودِيَّتِهِمْ لِلْمَخْلُوقِينَ إِلَى عُبُودِيَّة اللهِ تَعَالَى، وَمِنْ جَوْرِ الأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الإِسْلاَم، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَةِ الآخِرَةِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَجَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ، وَاغْسِلُوا بِمَاءِ اليَقِينِ قُلُوبَكُمْ، وَأَزِيلُوا بِالتَّوْبَةِ أَدْرَانَكُمْ، وَزَكُّوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ نُفُوسَكُمْ، وَرَقِّعُوا بِالاسْتِغْفَارِ مَا تَخَرَّقَ مِنْ طَاعَتِكُمْ، وَكَمِّلُوا بِالنَّوَافِلِ مَا نَقُصَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدُمُونَ عَلَى رَبِّكُمْ بِأَوْلاَدِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَإِنَّمَا تَلْقَوْنَهُ بِأَعْمَالِكُمْ؛ [مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا] {النساء:123-124}.
أَيُّهَا النَّاسُ: أَعْظَمُ مَقَامٍ يَتَشَرَّفُ بِهِ الإِنْسَانُ، وَأَعْلَى مَنْزِلَةٍ يَضَعُ نَفْسَهُ فِيهَا هِيَ مَنْزِلَةُ العُبُودِيَّة للهِ تَعَالَى؛ فَهِيَ الشَّرَفُ الأَسْمَى، وَالمَقَامُ الأَسْنَى، تَشَرَّفَ بِهَا أَفَاضِلُ الخَلْقِ، وَفَخَرَ بِهَا خِيرَةُ البَشَرِ؛ [لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلَا المَلَائِكَةُ المُقَرَّبُونَ] {النساء:172} [وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ] {الأنبياء:19}، وَوُصِفَ بِهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَشْرَفِ دَرَجَةٍ صَعِدَهَا، وَأَعْلَى مَنْزِلَةٍ تَبَوَّأَهَا، لَمْ يَنَلْهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا أَحَدٌ بَعْدَهُ، فَقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي الإِسْرَاءِ: [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى] {الإسراء:1}، وَفِي رِحْلَةِ المِعْرَاجِ قَالَ سُبْحَانَهُ: [فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى] {النَّجم:10}، فَلَمْ يَقُلْ: أَسْرَى وَأَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: أَسْرَى بِعَبْدِهِ، وَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ المَقَامَاِت هُوَ مَقَامُ العُبُودِيَّة للهِ تَعَالَى، وَكُلَّمَا كَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ عُبُودِيَّةً للهِ تَعَالَى كَانَ أَعْلَى مَنْزِلَةً، وَأَسْمَى مَقَامًا، وَأَكْثَرَ شَرَفًا؛ وَلِذَا كَانَ المَلاَئِكَةُ وَالرُّسُلُ أَفْضَلَ الخَلْقِ وَأَشْرَفَهُمْ عِنْدَ مَجْمُوعِ البَشَرِ، وَبِإِجْمَاعِ العُقَلاَءِ؛ لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الخَلْقِ عُبُودِيَّةً للهِ تَعَالَى، وَيَكْفِي فِي العُبُودِيَّة للهِ تَعَالَى أَنَّهَا الغَايَةُ مِنْ خَلْقِ الثَّقَلَيْنِ، وَتَسْخِيرِ المَخْلُوقَاتِ لَهُمْ؛ [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56}، وِلِأَجْلِهَا أُرْسِلَ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الكُتُبُ؛ [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ] {الأنبياء:25}.
وَمِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ بَيَّنَ لِعِبَادِهِ وَظَائِفَ العُبُودِيَّةِ وَأَعْمَالَهَا، وَكَشَفَ لَهُمْ حَقَائِقَهَا وَمَوَاقِيتَهَا، وَدَلَّهُمْ عَلَى سُبُلِهَا وَأَسَالِيبِهَا، وَلَمْ يَتْرُكْ ذَلِكَ لِتَخَبُّطَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ؛ لِئَلاَّ يَزِيغُوا وَيَضِلُّوا؛ [يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] {النساء:176}، [فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ] {البقرة:239}، [وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ] {البقرة:198}.
وَدَلائِلُ العُبُودِيَّةِ، وَأفْرَادُ العِبَادَةِ تَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ زَمَانِهَا وَمَكَانِهَا وَحَالُ المُتَعَبِّدِ للهِ تَعَالَى بِهَا، وَهِيَ أَرْزَاقٌ دُنْيَوِيَّةٌ أُخْرَوِيَّةٌ قَسَمَهَا اللهُ تَعَالَى بَيْنَ عِبَادِهِ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَهَا، كَمَا قَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَوَظَائِفَهُمْ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَ رِزْقِهِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ بَابُ عُبُودِيَّتِهِ الصَّلاَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَابُ عُبُودِيَّتِهِ الصِّيَامُ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَابُ عُبُودِيَّتِهِ الجِهَادُ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَابُ عُبُودِيَّتِهِ القِيَامُ عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُفْتَحُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ بَابٍ، فَيَكُونُ مُتَعَبِّدًا للهِ تَعَالَى فِي مَجَالاَتٍ مِنَ العُبُودِيَّةِ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، وَهَذَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ، فَمَنْ فُتِحَ لَهُ بَابٌ فِي العُبُودِيَّةِ فَلْيَلْزَمْهُ، وَلاَ يُفَرِّطْ فِيهِ، مَعَ مُحَافَظَتِهِ عَلَى الفَرَائِضِ، وَقَدْرٍ مِنْ نَوَافِلِ العِبَادَاتِ الأُخْرَى، وَاخْتِصَاصِهِ بِمَجَالِ العُبُودِيَّةِ الَّذِي فُتِحَ لَهُ بَابُهُ! وَكَمْ يُحْرَمُ النَّاسُ مِنْ خَيْرٍ، وَيَتَخَبَّطُونَ فِي العَمَلِ بِسَبَبِ عَدَمِ إِدْرَاكِهِمْ لِهَذَا المَعْنَى العَظِيمِ فِي العُبُودِيَّةِ، فَيُرِيدُونَ التَّعَبُّدَ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلاَ يُحَافِظُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَمَنْ سَيُكُونُ كَأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ العُبُودِيَّةِ كُلُّهَا أَوْ جُلُّهَا، وَقَدَرَ عَلَى جَمِيعِهَا، فَلَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَاعْتَرَفَ لَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ سَابَقَهُ، فَاسْتَحَقَّ أَبُو بَكْرٍ بِمَا وُفِّقَ لَهُ مِنْ وُلُوجِ أَبْوَابِ العُبُودِيَّةِ أَنْ يُنَادَى مِنْ جَمِيعِ أَبْوَابِ الجَنَّةِ؛ لِأَنَّ أَبْوَابَ الجَنَّةِ مَقْسُومَةٌ عَلَى مَجَالاَتِ العُبُودِيَّةِ؛ «فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ»؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالصِّيَامُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ العُبُودِيَّةِ عَرِيضٌ، وَشَأْنُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَظِيمٌ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِجَانِبَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: مَعْرِفَةُ مَكَانَةِ الصِّيَامِ فِي التَّشْرِيعِ الإِلَهِيِّ، وَمَا رُتِّبَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ.
وَثَانِيهِمَا: أَثَرُ الصِّيَامِ عَلَى العَبْدِ، وَمَدَى تَحَقُّقِ العُبُودِيَّة بِهِ.
فَأَمَّا مَكَانَةُ الصِّيَامِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَقَدْ نَوَّعَ اللهُ تَعَالَى مَجَالاَتِهِ، وَعَدَّدَ اتِّجَاهَاتِهِ، وَأَكْثَرَ التَّشْرِيعَ فِيهِ؛ حَتَّى أَفْرَدَهُ الفُقَهَاءُ وَالمُحَدِّثُونَ فِي مُدَوِّنَاتِهِمْ بِكُتُبٍ تُسَمَّى كُتُبَ الصِّيَامِ، فَجَعَلَ مِنْهُ فَرِيضَةً حَوْلِيَّةً هِيَ صِيَامَ شَهْرٍ كَامِلٍ، مَقَامُهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ، وَفَتَحَ أَبْوَابَ النَّفْلِ فِيهِ، وَجَعَلَهَا مُتَنَوِّعَةً لِيَأْخُذَ العَبْدُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهَا؛ فعُبُودِيَّةٌ حَوْلِيَّةٌ بِصِيَامِ النَّافِلَةِ؛ كَصَوْمِ أَيَّامِ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ وَتِسْعِ ذِي الحِجَّةِ، وَسِتِّ شَوَالٍ، وَأَكْثَرِ مُحَرَّمٍ وَشَعْبَانَ أَوْ كِلَيْهِمَا، وعُبُودِيَّةٌ شَهْرِيَّةٌ بِصِيَامِ النَّافِلَةِ؛ كَصِيَامِ أَيَّامِ البِيضِ أَوْ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، وعُبُودِيَّةٌ أُسْبُوعِيَّةٌ بِصِيَامِ النَّافِلَةِ؛ كَصِيَامِ الاثْنَيْنِ واَلخَمِيسِ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ، وَهُوَ أَفْضَلُ صِيَامِ النَّافِلَةِ؛ لِتَكُونَ هَذِهِ العُبُودِيَّةُ مُلاَزِمَةً لِلْعَبْدِ؛ فَإِذَا ثَقُلَ عَنْ مَجَالٍ مِنْهَا أَخَذَ بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، وَلاَ رُخْصَةَ لَهُ فِي فَرْضِ رَمَضَانَ إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ، وَلَوْلاَ أَنَّ لِلصَّوْمِ مَقَامًا عَلِيًّا فِي مَدَارِجِ العُبُودِيَّةِ مَا حُوصِرَ بِهِ العَبْدُ فِي زَمَانِهِ كُلِّهِ، وَلَمَا كَانَ بِهَذَا التَّنْوِيعِ وَالكَثْرَةِ.
وَمَا رُتِّبَ عَلَى الصِّيَامِ مِنَ الثَّوَابِ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضًا أَمْ نَفْلاً يَدُلُّ عَلَى مَكَانَةِ الصِّيَامِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ فَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرٌ لِلسَّيِّئَاتِ الَّتِي بَيْنَ الرَّمَضَانَيْنِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:«أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ، قَالَ: عَلَيْكَ بالصَّومِ فَإِنَّهُ لا مِثْلَ لَه»، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: أَنَّ أَبا أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَأَلَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقَالَ:«أَيُّ العَمَل أَفْضَلُ؟ قَالَ: عَلَيْكَ بالصَّومِ؛ فَإِنَّهُ لا عِدْلَ لَهُ»؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :«إنَّ للهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وذَلكَ كُلَّ لَيلَة»؛ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ أَثَرِ الصِّيَامِ عَلَى العَبْدِ، وَمَدَى تَحَقُّقِ العُبُودِيَّة بِهِ؛ فَإِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةُ الإِخْلاصِ وَالصَّبْرِ، فَدَاعِي الرِّيَاءِ فِيهِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةُ تَرْكٍ لاَ فِعْلٍ، وَالفِعْلُ يُرَى، وَالتَّرْكُ لاَ يُرَى، فَيَصُومُ الشَّخْصُ وَلاَ يَعْلَمُ عَنْ صِيَامِهِ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَفِيهِ تَهْذِيبٌ لِلنَّفْسِ وَرِيَاضَةٌ لَهَا عَلَى الإِخْلاصِ فِي الأَعْمَالِ كُلِّهَا، وَالإِخْلاصُ فِي العِبَادَةِ هُوَ أَسَاسُ العُبُودِيَّةِ وَرُكْنُهَا الأَهَمُّ؛ فَكُلُّ عِبَادَةٍ بِلاَ إِخْلَاصٍ تُخْرِجُ صَاحِبَهَا عَنِ العُبُودِيَّةِ الحَقَّةِ للهِ تَعَالَى إِلَى عُبُودِيَّةِ غَيْرِهِ، وَأَهْلُ العُبُودِيَّةِ مَأْمُورُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ بِالإِخْلاصِ للهِ تَعَالَى؛ [وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] {البيِّنة:5}، [أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ] {الزُّمر:3}؛ وَلِذَا "قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَهُوَ كَذَلِكَ عِبَادَةُ الصَّبْرِ؛ لِأَنَّ الكَفَّ عَنِ المُشْتَهَيَاتِ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ، والعُبُودِيَّةُ لاَ تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِالصَّبْرِ، وَالتَّجْرِبَةُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ العَبْدَ حَالَ صِيَامِهِ يَتْرُكُ كَثِيرًا مِنَ المُحَرَّمَاتِ الَّتِي يُقَارِفُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّوْمِ، وَيَصْبِرُ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ صَبْرِهِ حَالَ فِطْرِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَمْسَكَ عَنْ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّكَاحِ وَهِيَ أَعْظَمُ الشَّهَوَاتِ وَأَكْبَرُ اللَّذَّاتِ، وَأَقْوَاهَا تَأْثِيرًا فِي النُّفُوسِ؛ كَانَ إِمْسَاكُهُ عَمَّا دُونِهَا مِنْ شَهَوَاتِ النَّظَرِ وَالكَلَامِ وَالفِعْلِ المُحَرَّمِ أَهْوَنَ.
وَلِأَنَّ الصَّبْرَ مِنْ أَمْيَزِ مَا فِي الصَّوْمِ مِنْ مَعَانِي العُبُودِيَّةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمَّى بِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الإِلْزَامِ لاَ الاخْتِيَارِ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، صَوْمُ الدَّهْرِ"؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ وَحَرِ صَدْرِهِ فَلْيَصُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ".
وَلاَ غَرَابَةَ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَوَلَّى اللهُ تَعَالَى جَزَاءَ الصَّوْمِ لِمَا تَحَقَّقَ فِيهِ مِنَ الإِخْلاصِ وَالصَّبْرِ، وَيَنْسُبُهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ دُونَ سَائِرِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي؛ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَهَذَا الحَدِيثُ يَلْتَئِمُ مَعَ آيَةِ ثَوَابِ الصَّبْرِ؛ [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الزُّمر:10}، وَالصَّوْمُ صَبْرٌ.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ لِلصَّوْمِ أَثَرًا عَظِيمًا فِي عُبُودِيَّةِ العَبْدِ للهِ تَعَالَى، فَبِالصَّوْمِ يُفْتَحُ لِلْعَبْدِ بَابَا الإِخْلاصِ وَالصَّبْرِ المُؤَدِّيَانِ بِصَاحِبِهِمَا إِلَى التَّقْوَى المُنْجِيَةِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُبَلِّغَنَا رَمَضَانَ، وَأَنْ يُعِينَنَا عَلَى القِيَامِ بِحَقِّ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، وَأَنْ يَتَسَلَّمَهُ مِنَّا مُتَقَبَّلاً، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لاَ غَرَابَةَ فِي أَنْ يُعَلَّلَ الصِّيَامُ بِالتَّقْوَى فِي آيَةِ فَرْضِهِ؛ لِأَنَّ العُبُودِيَّةَ الحَقَّةَ لاَ تَتَأَتَّى إِلاَّ بِالصَّوْمِ.
وَشَعِيرَةٌ هَذَا شَأْنُهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا أَثَرُهَا فِي إِصْلاحِ العَبْدِ، وَالصُّعُودِ بِهِ فِي مَدَارِجِ العُبُودِيَّةِ، فَإِنَّهُ حَقٌّ عَلَى العِبَادِ العِنَايَةُ بِهَا، وَإِعْطَاؤُهَا حَقَّهَا مِنَ الاهْتِمَامِ وَالاسْتِعْدَادِ، وَرَمَضَانُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ العُبُودِيَّةِ، وَقَدْ أَزِفَ قُدُومُهُ، وَمَنْ أَحْيَاهُ اللهُ تَعَالَى أَيَّامًا مَعْدُودَةً فَإِنَّهُ مُدْرِكُهُ، لَكِنْ كَمْ مِنْ مُدْرِكٍ مُضَيِّعٍ، رَمَضَانَ وَغَيْرُهُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ، فَلاَ مَعْنى لَهُ فِي نَفْسِهِ أَكْثَر مِنْ كَوْنِهِ شَهْرًا تَتَغَيَّرُ فِيهِ أَوْقَاتُ وَجَبَاتِ الطَّعَامِ، وَتَنْشَطُ فِيهِ الفَضَائِيَّاتُ بِالبَرَامِجِ وَالمُسَلْسَلاتِ؛ فَهُوَ يَسْتَعِدُّ مِنَ الآنَ: مَاذَا يُشَاهِدُ مِنْهَا؟ وَمَعَ مَنْ يَسْهَرُ عَلَيْهَا؟ وَلاَ مَعْنَى لِلعُبُودِيَّةِ فِي قَلْبِهِ اَلْبَتَّةَ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَى الشَّهْرِ الكَرِيمِ عَلَى أَنَّهُ نَفْحَةٌ مِنْ نَفَحَاتِ اللهِ تَعَالَى يُفِيضُ فِيهَا مِنْ رَحْمَتِهِ وَعَفْوِهِ وَجُودِهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَيَتَعَرَّضُ لِنَفَحَاتِ اللهِ تَعَالَى بِلُزُومِ المَسَاجِدِ، وَمُصَاحَبَةِ المَصَاحِفِ، وَهَجْرِ المَجَالِسِ، وَالخُلْوَةِ بِاللهِ تَعَالَى فِي أَكْثَرِ الأَوْقَاتِ ذَاكِرًا قَارِئًا مُصَلِّيًا.
إِنَّ رَمَضَانَ سَيَأْتِي وَيَمْضِي كَمَا مَضَى فِي أَعْوَامٍ سَابِقَةٍ، وَسَتَكُونُ أَعْمَالُ العِبَادِ فِيهِ مُتَفَاوتَةً، فَكُنْ يَا عَبْدَ اللهِ مِمَّنْ فَهِمَ مَعْنَى العُبُودِيَّةِ فِي الصِّيَامِ، وَسَعَى لِتَحْقِيقِهَا كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى، وَاسْتَعِنْ بِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى بُلُوغِ الكَمَالِ فِي العِبَادَةِ، وَتَحْقِيقِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الطَّاعَةِ؛ فَإِنَّ الاسْتِعَانَةَ بِاللهِ تَعَالَى عَلَى تَحْقِيقِ مَا يُرْضِيهِ أَنْفَعُ لِلْعَبْدِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ.
وَالْقَلْبُ فَقِيرٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
مِنْ جِهَةِ الْعِبَادَةِ، وَهِيَ الْعِلَّةُ الغَائِيَّةُ، وَمِنْ جِهَةِ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَهِيَ الْعِلَّةُ الفَاعِلَةُ؛ فَالقَلْبُ لَا يَصْلُحُ وَلَا يُفْلِحُ وَلَا يَنْعَمُ وَلَا يُسَرُّ وَلَا يَلْتَذُّ وَلَا يَطِيبُ وَلَا يَسْكُنُ وَلَا يَطْمَئِنُّ إِلَّا بِعِبَادَةِ رَبِّهِ وَحُبِّهِ وَالإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْ حَصَلَ لَهُ كُلُّ مَا يَلْتَذُّ بِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لَمْ يَطْمَئِنَّ وَلَمْ يَسْكُنْ؛ إِذْ فِيهِ فَقْرٌ ذَاتِيٌّ إِلَى رَبِّهِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْبُودُهُ، وَمَحْبُوبُهُ وَمَطْلُوبُهُ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ وَاللَّذَّةُ وَالنِّعْمَةُ وَالسُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ.
وَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللهِ تَعَالَى لَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِك لَهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى؛ فَهُوَ دَائِمًا مُفْتَقِرٌ إِلَى حَقِيقَةِ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فَإِنَّهُ لَوْ أُعِينَ عَلَى حُصُولِ كُلِّ مَا يُحِبُّهُ وَيَطْلُبُهُ وَيَشْتَهِيهِ وَيُرِيدُهُ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِبَادَةٌ للهِ تَعَالَى، فَلَنْ يَحْصُلَ إِلَّا عَلَى الْأَلَمِ وَالْحَسْرَةِ وَالْعَذَابِ، وَلنْ يَخْلُصَ مِنْ آلامِ الدُّنْيَا وَنَكَدِ عَيْشِهَا إِلَّا بِإِخْلاصِ الْحبِّ للهِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ اللهُ هُوَ غَايَةَ مُرَادِهِ وَنِهَايَةَ مَقْصُودِهِ..
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...



المرفقات

مَقَامُ_الصِّيَامِ_فِي_مَدَارِجِ_العُبُودِيَّةِ.doc

مَقَامُ_الصِّيَامِ_فِي_مَدَارِجِ_العُبُودِيَّةِ.doc

مقام الصيام في مدارج العبودية.doc

مقام الصيام في مدارج العبودية.doc

المشاهدات 3621 | التعليقات 3

جزاك الله خيرا


جزاك ربي كل خير على الخطبة ياشيخ إبراهيم ..

ونفع الله بك الإسلام والمسلمين وأنا من المتابعين لك بارك الله فيك

أتمنى تصحيح في الخطبة وهي أن الصوم الركن الرابع من أركان الإسلام

ذكرت في الخطبة على أنه الركن الثالث

تقبل مروري ياشيخنا الفاضل.


الأخوان الكريمان شبيب القحطاني وقلبي دليلي
أشكر لكما مروركما وتعليقكما وأسأل الله تعالى أن ينفع بكما
وإن شاء الله يتم تعديل الخطأ