مفهوم الوسطية والاعتدال

عبدالرحمن اللهيبي
1439/05/09 - 2018/01/26 02:49AM

خطبة جمعت بتصرف نسأل الله أن ينفع بها

إخْوة الإيمان: التشدُّد، التزمُّت، التطرُّف، التعصُّب، الجمود، مِن أكثر المفرْدات التي تلوكُها المنابِرُ الإعلاميةِ مؤخَّرًا . 

وقد تُرْمى هذه التُّهمُ على فِئات من المجتمع بالباطل؛ فتُرمَى السَّلفيَّة بالجمود، وتُربط دعوةُ المجدِّد محمد بن عبدالوهاب بالتعصُّب والتكفير، وتُقذَف مناهج التربية الإسلامية في التعليم بالتشدُّد والاقصائية، ويُتَّهم حملةُ العلومِ الشرعيَّة وأهلُ العلم والدعوة بالتزمت والانغلاق والبُعْدِ عن الواقعية، وتُوصَف شرائحُ كبرى من أهل التديُّن والالتزام بالتطرف والغُلو، وفي المقابل يوصم الانحلال والتغريب والتمرد على القيم الإسلامية بالوسطية والاعتدال في عَبَث وتسافل وبذاءة، لم تشهدْها وسائل الإعلام والتواصل من قبل.

لقد أصبح رَمْيُ المتدينين بالتشدد والمصلحين بالتطرف والمحافظين بالتزمت شِنْشنةً من أهل التغريب والانحلال لا تتوقف، تتقاذفها أهواؤهم لتنفير الناس من التدين وتشويه الشعائر والقيم لنبذها وإقصائها وإحلال قيم الحضارة الغربية بدلا منها .. وتصويرها على أنها هي الوسطية والاعتدال والسماحة والتيسير

وحيث أن مصطلح الاعتدال والوسطية قد شاع كثيرا في الأوساط الإعلامية والثقافية وبات يوصف به أناس ويطرد منه آخرون فقد وجب بيان معناه والوقوف على حقيقته

الاعتدال والوسطية مصطلح أخَّاذ، تهفو له النفوس، الكلُّ يزعم أنَّه على الوسطية والاعتدال، بَيْد أنَّ تفسير الاعتدال لا يخضع لأهواء البشَر وأذواقهم، بل مردُّه إلى النصوص الشرعية، مردُّه إلى الكِتاب الذي لا يأتيه الباطل مِن بيْن يديه ولا مِن خلْفه، مردُّه إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أُمرنا باتباعه .

الاعتدال والوسطية -عباد الله-: هو سِمَة هذه الأمَّة؛ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا).

فالاعتدال والوسطية باختصار شديد وفي كلمتين فقط هي لزوم الصِّراط المستقيم ، احفظوها وانقلوها يا كرام الاعتدال والوسطية هي لزومُ الصِّراط المستقيم وليس سوى ذلك إلا الإفراطُ والتفريط أو الغلوُ والتشدد أو الانحلالُ والتغريب

ونعني بلزوم الصراط المستقيم في الوسطية والاعتدال أي بالتمسُّك بالقرآن والسُّنَّة، عملاً بالأحكام، والتزامًا بالأوامر، واجتنابا للنواهي , وتطبيقًا للحدود؛ قال -تعالى-: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)؛ وعليه فإن اتِّباعَ هَدْي المصطفى -صلَّى الله عليه وسلَّم- هو أوضحَ طريق للوسطية والاعتدال؛ قال -تعالى- عن نبيه: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). لذا فإن ميزان الوسطية والاعتدال هو رسول الله صلى الله عليه وسلم

لأجل ذلك كان أصدقُ الناس اعتدالاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم صحابته الكرام الذين تمسَّكوا بهَدْيِ نبيِّهم، وعضُّوا عليه بالنواجِذ، فإنْ رامتِ الأمَّة منهجَ الوسطية والاعتدال، فها هو طريقُ سَلفِها من الصحابة ومَن تبعهم في الهُدى والدِّين، فهم خيرُ الأمة، وأفضلها بعدَ نبيها؛ قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "خيرُ الناس قرْني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

 

فمَن حاد عن منهج النبي r وعن مسلك الصحابة الكرام وتابعيهم بإحسان فقد انحرف عن جادَّة الاعتدال والتوسُّط؛ وهو إمَّا إلى غلوٍّ وتشدد أو جفاء وتحلل، والشارع الحكيم حَذَّر مِن هذا وهذا، فقال تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وقال r في الغلو: "إيَّاكم والغلوَّ في الدِّين".

لذا فمِن الخطأ المنهجي، والقُصور الفكري، أن نذكر الوسطية والاعتدال وننادِي به في مقابل التشدُّد والغلو فقط.

بينما نرى صورَ التسيُّبِ، ومناظرَ الانحلال، ولا ندعوهم معها إلى نهْج الوسطية والاعتدال.

إخوة الإيمان: وإذا عرَفْنا أنَّ خطَّ التشدُّد هو ما خرَج عن طريق الاعتدال إلى الإفْراط والغلو، سهُل علينا إدراكُ صور التشدُّد، ونماذج الغلو؛ فكلُّ إحْداث في الدِّين، وزيادةٍ في العبادة لم يفعلْها النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فهي تشدُّدٌ لم يأذن به الله.

-ومن التشدد كذلك تحريم ما أباحه الله تعالى من الطيِّبات.

-ومن التشدد أيضا عدم الأخْذ بالرُّخَص الشرعية، كرخصة قصر الصلاة في السفر مثلا والعمل بخِلافها احتياطًا ؛ "إنَّ الله يُحبُّ أن تؤتَى رُخصُه كما يَكره أن تُؤتَى معصيته".

ومن التشدد عدم إعطاء النفس حقها من الراحة والمتعة الحلال كمن يصوم الدهر فلا يفطر او كمن ينقطع للعبادة ويترهبن ولا رهبانية في الإسلام                                                
وإذا تقرَّر هذا -عباد الله- فصورٌ أخرى يُخطِئ البعض، فيجعلها من التشدُّد والغلو، وليستْ كذلك،

منها:-مَن ترك شيئًا من المباحات تورعا من غير تحريم له، فلا يصحُّ وصْفه بالتشدُّد ، وإلا لأغلقْنا بابًا مندوحًا في الشريعة هو بابُ التورُّع.

- ومن صور عدم التشدد أيضا: الأخذُ بالرأي الفِقهي الأشدّ، إذا كان مبنيًّا على دليلٍ صحيح، أو برهان معقول؛ فلا يصحُّ وصفُ من أخذ به بالغلو والتشدُّد. وإلا لأدرجْنا قوائمَ كثيرة من علماء السَّلف وأفاضلهم في سِلْك الغلاة والمتشدِّدين.

وإذا كان يُعذر مَن أخذ بالرأي الأسهلِ بناءً على اجتهاد معتَبر، ولا يوصف بالتمييع والتساهل والتفريط فكذلك مَن أخَذ بالرأي الأشدِّ المبني على اجتهاد معتَبر، لا يصحُّ تصنيفُه في قائمة المتشددين.

إخوة الإيمان: من الغريب العجيب أن نرى بعضَ حملة الأقلام يتعامل مع الطوائف البدعية المتشدِّدة كالرافضة في معتقدها حيث غلوا في أئمتهم حتى ألّهوهم من دون الله ونسبوا إليهم بعض خصائص الربوبية  ثم تجدهم يتعاملون معهم بلُغة ناعِمة، وعبارات حانية، ممزوج بحديث التعايش والتسامُح.  في الوقت الذي لا نرَى مِن هؤلاء الكتاب وغيرهم إلا الألسنةَ الشداد، والأقلامَ الحِداد، والاتهامَ بالتشدُّد والغلو ضدَّ أهل العلم والدعوة، والمصلحين والمتدينين.

عباد الله: إنه يجب التنبيه على أن موضوع التشدُّد والغلو من المسائل الشرعيَّة، لذا فالحديث عن التشدُّد وملامحه، ومعالمه وصوره ليس من شأن الكتاب ولا مرتزقة الإعلام والصحف بل هو مجال أهل الاختصاص مِن حَمَلة الشريعة؛ فهُم أعلم بما يدخل في التشدُّد وما لا يدخُل فيه، ومَن تطفَّل على غير فنِّه أتى بالعجائب والمصائب

ومِن بلايا زماننا: أن يتحدَّث عن الغلو والتشدُّد مَن ليس مِن أهل الاختصاص؛ بل العجيب إن كثيرا منهم من أهل التفريط والانحلال والتغريب والفساد فيجعلون البر تشددا، ويجعلون المنكر وسطية واعتدالا.

إنه حقا زمن الرويبضة ,, يأتي كويتب لم يخُضْ غمار العِلم الشرعي، ولا أدرك أصوله وفنونه وعلومه، و"بخربشة" يخطها في صحيفة أو بحديث سخيف على قناة فضائية ثم يرمي قيم الإسلامي بالتزمت والتشدد ويتهم العلماء والفتاوى بالجمود  والتخلف، ويصف من خالفهم بالاعتدال والتوسط.

إخوة الإيمان:  هذا الاتهام والتجنِّي لأهل العلم والدعوة، والصالحين والمصلحين بالألقاب المنفِّرة، كالتشدد والتشنُّج، والأصولية والظلامية والانغلاق والتخلف والرجعية، هي سُنَّةٌ مِن سُنن التدافع بيْن الحق والباطل. لكنَّ يقيننا مِن ربِّنا تعالى ومِن سُننه في أرْضه أنَّ الزَّبد يذهب جفاءً، وأمَّا ما ينفع الناس فيمكُث في الأرْض.

أقول قولي هذا ..... 

 الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطفى، وعلى آله وصحْبه ومَن اهتدى، أمَّا بعد:

فيا إخوة الإيمان: هذا الهجوم الإعلامي في الصحف والقنوات وعلى منصات التواصل الاجتماعي على مظاهِر التديُّن وصوره ورموزه، ووصمه بالتشدد والتزمت لا يمكن أن نفصلَه عن الحملاتِ الغربية الخارجية، والتي تقوم بها مراكز الدِّراسات الغربية ضدَّ مجتمعاتِ المسلمين، والتي كان مِن آخرها تلك الدراسة المشهورة التي كان عنوانها (بناءُ شبكات اعتدال وتعاون داخلَ البلدان الإسلامية) والتي كان مِن وصاياها:

- مهاجمة الخِطاب الدِّيني، والتشكيك به.

- تشويه صورة العلماء؛ لإفقاد الناسِ الثقةَ بهم.

- العمل على تقوية التيارات المخالِفة لأهل السنة.

 

وما جفَّت محابرُ هذا التقرير وتوصياته الآثِمة إلا ورأيْنا في واقعِنا خُطواتٍ عمليةً لهذه التوصيات، وأصبح الحديثُ عن الخطاب الدِّيني ونقْده ورجْمه والتشنيع على رموزه والتنفير منهم ووصمهم بالتشدد والتزمت هو الحديثَ المقدَّم في كثير من وسائل الإعلام ..

وللأسف اغتر بخطابهم في التنفير من التدين وأهله كثير من العامة وتأثروا به والله يقول : وفيكم سماعون لهم.

نسأل الله أن يَهديَ ضالَّ المسلمين، وأن يُثبِّتنا على الهُدى والدِّين، وأن يحشرَنا في زُمْرة عباده الصالحين.

اللهمَّ صلِّ على محمَّد.

المشاهدات 1114 | التعليقات 0