مفهوم العبودية الحقة

الخطيب المفوه
1432/12/15 - 2011/11/11 06:37AM




مفهوم العبودية الحقة
الدكتور سعد الدريهم

بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله ، نحمدُه ونستعينه ونستغفره ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله ؛ فلا مضلَّ له ، ومن يضللْ ؛ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعدُ : فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد e، وشرَّ الأمور مُحـدثاتُها ، وكلَّ محـدثةٍ بدعــةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
أَيُّهَا الأحبة ، كل شيء صائر إلى زوال ؛ حتى أعظم الخلق أجراماً ستزول ؛ ستزول السماوات والأرض ومن فيهن ؛ لأن البقاء والدوام لا يكون ولا ينبغي إلا لله الملك الواحد القهار سبحانه وتعالى ، وتلك حقيقة لا نماري فيها ولا نجادل ، وهو مما استقر في العقول ووعته النفوس ، وذوو العقول الرواجح هم من يعملون في هذه الدنيا وفق هذه السنة الربانية ، ويقضُّون أيام هذه الدنيا وفق حقيقتها التي لا تغيرها الليالي والأيام ؛ فيا سعادة من فهم العبودية الحقة ، واستفرغ الجهد في سبيل تحقيقها لربه سبحانه وتعالى ..
قد يقول قائل : ما العبودية الحقة الدائمة ؟ وجوابها لو عقلنا بترك المعاصي والآثام ، فأنت عندما تمشي في مناكب الأرض ، وتأكل من رزق الله سبحانه وتعالى وتفعل ما أمرت به من الواجبات ، وتجتنب المعاصي ؛ فأنت من أعبد الناس ؛ فلو دعوت الله ورجوته ؛ لكنت قريباً منه سبحانه وتعالى ، وأنت إذ تفعل ذلك فأنت المتقي الذي تغفر له الغفلات وتتجاوز عنه السيئات ، إذاً هذه هي العبودية الحقة : فعل المعاصي وترك المنكرات ، وهذا هو الزهد عندما يذكر الزهد ، فلا أزهد ممن ترك معصية لأجل ربه سبحانه وتعالى ، وإذا تجاوز الإنسان هذه المرحلة ؛ فعمل النوافل وتمادى في فعل القربات ؛ فهذا من السابقين في الخيرات ؛ نسأل الله أن نكون ممن كان على ذلك . فهذا جماع العبودية الحقة لله سبحانه وتعالى ..
أيها الأحبة في الله ، كما أن للدنيا تجاراً حذقة ، كذلك للآخرة ؛ فتجار الدنيا عندما تعن لهم مواسم الربح تجدهم يستعدون لها قبل زمنها ، وذلك بتوفير ما يحتاجه الناس فيها ؛ فيكونُ ربحهم فيها مضاعفاً ، وكذلك تجار الآخرة ، تجدهم يتعاطون التجارة مع الله في كل أحيانهم : فعلاً للطاعات واجتناباً للموبقات ، ولكن إذا قرُبت وتهيأت المواسم الفاضلة مواسمُ الربح المضاعف ؛ تجدهم ينغمسون فيها طلباً للربح المضاعف ؛ عمل قليل وأجر كبير ، أولئك وربي هم الأكياس الفطناء ورثةُ الجنان ؛ فاللهم إنا نسألك جوامع الخير وفواتحة وخواتمه إنك جواد كريم ..
قبل اليوم أيها الأحبة في الله ، كنا نشهد موسماً من مواسم التجارة مع الله سبحانه وتعالى ؛ فهناك من اتجر فيها وربح ، وهناك من تواني وغفل فخسر ، وهو ربي خسران مبين ؛ لأنه لا يدري أيعود إليه ذلك الموسم أو لا يعود ؟ وإن عاد إليه ؛ فهل يعود إليه وهو وافر الاستعداد ، أو يكون في وضع لا يُمكن فيه من الطاعة ؟ لذا من أدرك وعمل فهو السعيد ، ومن فاته الخير فليسأل الله ألا يكون من أهل الحرمان ..
وأنت يا من كنت في الخير ؛ تتفيأ ظلاله ، وتنعم ببرده ، وتجتني ثماره ، عليك بالوصال ، ولا تكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، فتحبطَ ما سلف بشر تعمله حاضراً أو مستقبلاً ؛ أتبع الحسنة الحسنة ، واقمع شيطان الهوى في نفسك ، واعلم أنها أيام وليالٍ ، وستسر بما عملت ؛ فيا غبطتك وأنت ترى تلك الأعمال أضحت جبالاً من الحسنات يكافئك الله عليها ؛ إنه لا خير من حالك ، ولا أطيب من مآلك ، وعندما تلتفت ذات اليمين وذات الشمال ، وترى من أوبقته السيئات سيزداد منك الحبور ، وكذلك أنت في الدنيا ، وإن أثقلك العمل ؛ فأنت تعاقر السعادة وتلتذ بنخبها ، وإن لم تشعر ، وذلك المحروم يتزقم التعاسة وإن ظنها غير ذلك ، فالسعيد من كان مع الله ، والشقي من كان بعيداً عن الله ؛ فتخير لنفسك ، وأوردها حيث شئت ، ولن تلوم إلا نفسك ، وابن آدم يتمنى الخير وقد يلقاه وقد لا يوفق له ، ولكن من سأل الله ذلك صادقاً بلغه الله إياه ، فاللهم إنا نسألك سعادة الدارين ، والتوفيق لكل خير ، وألا تحرمنا من عمل يقربنا إليك يا ذا الجلال والإكرام .
وممن أراد الله بهم الخير في أيامنا هذه ، وجمع لهم الفضل بحذافيره أيها الجمع الكريم ، هم من أدوا فريضة الله الحج ، وما أعظمه من ركن لو علمنا ، وهل هناك أعظم من أن تعود مبرأ من الذنوب والمعاصي طاهراً نقياً كيوم ولدتك أمك ، إنه لا فضل كذلك الفضل ؛ فيا من حججت وقمت بشعائر الله كما أمرك ؛ لقد حزت مفاتيح الجنان وتبوأت مقاعد الغفران ؛ فامض في عزماتك وشمر عن قدراتك ، لا تفتر ولا تتوانى ، ولا تدنس صحيفة أعمالك بعد بياضها ؛ لتكن حجتك بداية أوبتك ، وكن كمن يخوض تجده يتوقى أن تتلوث ثيابه ويتحرى ألا يزل ؛ ولكن لو وقع المحذور ؛ تجده لا يبالي ولو غاص كله ؛ فأنت من بعد حجك في مخاضة ، فاحرص ألا تغوص في الوحل أو تتلوث به ، وسل الله العون ، وستلقى الرشد والعون بإذن الله ..
إننا أيها الأحبة في الله ، ضعفاء ومن ضعفنا أننا نجترح السيئات ، وإنه لا عصمة لنا منها ، ولكن ليكن الاستغفار سميرَنا ليلنا ونهارنا ، سراً وإعلاناً ، ولنسأل الله العون على طاعته ، ولنقل متى تحينا الإجابة والحاجة: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، لقد كان نبيكم يقولها أدبار صلاته ، وكان من كان على نهجه من صحابة وتابعين ومن تبعهم بإحسان على ذلك النهج ؛ فاللهم إنا نسألك أن تعيننا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك حتى نلقاك .. إنك يا ربنا جزيل الهبات .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه ، أحمده سبحانه وأشكره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسله ، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيأيها الأحبة في الله ، لا أدري أنزع الخير منا أم أننا استغنينا عن ربنا سبحانه وتعالى ؟! لقد كان من سبق يدعون فيستجيبُ الله لهم فيسقون ويغاثون ، ونحن في هذه الأزمان لا يُستجاب لنا ؛ فلا نرى الغيث ولا نمتع بالسقيا ؛ فالربُّ هو الرب ، وهو سبحانه دائم الكرم والجود ، وخزائنه ملأى بالخيرات والبركات ، والخلق هم الخلق ، ولكن شتان شتان بين خلق وخلق ، فهم خلق ونحن خلق ، وهم عبيد لله ونحن عبيد له ، ولكن القلوب مختلفة ، فقلوب من سبق كان ترفع الأكف وهي تظهر العجز والحاجة لله ، وهم إن خرجوا لله طلباً للسقيا خرجوا جميعاً ، بل إنهم ليُخرِجون حتى البهائم ، ونحن إن خرجنا لم يخرج منا إلا عشرنا ؛ وكأننا استغنينا ، بل إن بعضهم ليقول ذلك مقالاً : فيقول وهل لي زراعةٌ أو بهائم حتى أطلب الغيث ، فلا القلوب منا مشفقة ، ولا الحاجة ظاهرة ، ولا القلوب موقنة بغياث الله سبحانه وتعالى ؛ فهل نريد بعد ذلك أن نسقى ؟! وليس ذلك يأساً أو تيئيساً من فضل الله وكرمه وجوده ، ولكن الرب سبحانه يحب ضراعة عبده إليه وحاجتَه له ، وعندما تكون الحاجة والضراعة والثقة ؛ فهناك الفرج والغيث ، وقد كان أجدادنا القريبون ، وهم يذهبون لصلاة الاستسقاء يصلحون السواقي ويعدُّون العُدَّة ثقة بالفرج ونزول الغيث ، وقد ذكر عن الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله أنه شوهد يصلح ميزاب بيته ، فقال له أحدهم في ذلك ، فقال رحمه الله : غداً الاستسقاء ، فالشيخ كان واثقاً من كرم الله وجوده وغيثه ، كما أنه كان متفائلاً ؛ فعمل وفق كرم الله وثقته بالله ؛ فأُغيثوا ، ولله المثل الأعلى لو أمل فيك إنسان معروفاً ، فأنت تستحي أن ترده خائياً ، وكذلك ربكم سبحانه يستحي أن يرد عباده إذا دعوه خائبين ؛ فتوجهوا يا عباد الله ، إلى ربكم دعاءً زرافات ووحداناً ، فو الله إن ربكم كريم ؛ جزيل العطاياً ؛ وافر الهبات ؛ فسلوه سبحانه فو الله لن يردكم خائبين ، ولا من رحمته محرومين ، عجوا إلى ربكم بخير أعمالكم وتوسلوا إليه بها ، واثنوا على الله بالمدح ؛ فلا أحد أحبُّ إليه المديح من الله ؛ سلوه بأسمائه وصفاته العظام ، وكل أسمائه وصفاته كذلك ، وتذكروا وأنتم تقلبون وجوهكم في السماء أنكم تطلبون الغيث من الله لا من السحاب ؛ لذاعندما يقول أهل التنجم : إنكم لن تروا السحاب في أيامكم القادمة ؛ فالثقة في الله تجعلنا نقول حالاً ومقالاً : إن الله ربنا هو مجري السحاب وموجده ، وهو ساقينا إن شاء ، فاللهم إنا نسألك ، وأنت خير من سئل وأجود من أعطى، ونلوذ بجنابك، ونسألك من خيرك المدرار أن ترزقنا الغيث ، وتنزل علينا القطر ، اللهم أغثنا ... ، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار تحيي به العباد والبلاد ، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد ، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ، برحمتك يا أرحم الراحمين ..
ولو دعا كل واحد في خلواته ، وفي الأوقات الفاضلة ، لربما أغيث الناس ببعضكم ، وكم من عبد لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره الله ، فلا تحرم أيها الموفق إخوانك الصالحين من بركتك . والله ذو الفضل العظيم .
المشاهدات 2429 | التعليقات 0