مُـفـتـقِــرُون

يوسف العوض
1446/06/14 - 2024/12/16 11:40AM

الخطبة الأولى

عِبَادَ اللهِ : مِنْ أَخَصِّ خصَائِصِ الْعُبُودِيَّةِ الْاِفْتِقَارُ الْمُطْلَقُ لله تَعَالَى، فَهُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَلُبِّهَا ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ"، وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسًى عَلَيْهِ الصَّلَاَةُ وَالسَّلامُ:" فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ" ، وعَرَّفَهُ الْإمَامُ اِبْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ بُقولِهِ:" حَقِيقَةُ الْفَقْرِ أَلَاّ تَكَونَ لِنَفْسِكَ، وَلَا يَكْونَ لَهَا مِنْكَ شَيْءٌ ؛ بِحَيْثُ تَكَونَ كُلْكَ للهِ، وَإِذَا كُنتَ لِنَفْسِكَ فَثَمَّ مُلكٌ وَاِسْتِغْنَاءٌ مَنَافٍ لِلْفَقْرِ” ، الْاِفْتِقَارُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدٌ، وَالرَّبَّ رَبٌّ، شَأْنُ الرَّبِّ الْغِنَى، وَشَأْنُ الْعَبْدِ الْفَقْرُ، شَأْنُ الرَّبِّ أَنَّهُ قَوِّيٌّ، وَشَأْنُ الْعَبْدِ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، شَأْنُ الرَّبِّ أَنَّهُ عَلِيمٌ، وَشَأْنُ الْعَبْدِ أَنَّهُ جَاهِلٌ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، الرَّبُّ رَبٌّ، وَالْعَبْدُ عَبْدٌ.

عِبَادَ اللهِ : جاءَ مِنْ حَدِيثِ أبِي ذرٍّ جُندبِ بنِ جُنادةٍ رضي اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ:" يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ"..

أيُّها المُسلِمون : الظُّلمُ أنواعٌ، أعظَمُها الشِّركُ باللهِ تعالَى؛ كما قالَ اللهُ سُبحانَه:" إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " ومِنها ظُلمُ العَبدِ لِنَفسِه بفِعلِ المعاصي والآثامِ، ومنها ظُلمُ العَبدِ لِغَيرِه بالتعَدِّي على مالِه أو دَمِه أو عِرْضِه ، وفي هذا الحديثِ يَرْوي أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ روى عَنِ اللهِ «تَبارَك وتعالَى»، ومعنى «تَبارَك» أي: تَكاثَرَ خيْرُه، وظَهَر في هذا الخيرِ بعضُ أثرِه، «وتعالَى» أي: ارتفَعَ عن مُشابَهةِ المخلوقينَ، فقال سُبحانَه وتَعالَى: «يَا عِبادِي» فخاطَبَ عِبادَه مِن الثَّقلينِ الإنسِ والجِنِّ، « إنِّي حرَّمْتُ» أي: منعْتُ «الظُّلمَ على نَفْسِي» والظُّلمُ هو وَضعُ الشَّيءِ في غيرِ مَوضعِه، وقدْ تَقدَّس اللهُ سُبحانه عن ذلك وتعالَى عليه، فهو في حقِّه مَستحيلٌ، «وجعلْتُه بيْنَكم مُحَرَّمًا» أي: حكَمْتُ بِتَحريمِه فيما بيْنَكم وألْزَمْتُه إيَّاكم، فإذا عَلِمتُم ذلك فلا يَظلِمْ بعضُكم بعضًا، وهذا تَوكيدٌ لقولِه تعالَى: «وجعَلْتُه بيْنكم مُحرَّمًا» وزِيادةُ تَغليظٍ في تَحريمِه.

«يا عِبادي، كلُّكم ضَالٌّ« أي: كلُّكم مُبتعِدٌ عن طَريقِ الهُدى، وعن كلِّ كَمالٍ وسَعادةٍ دِينيَّةٍ، ودُنيويَّةٍ، «إلَّا مَن هديْتُه»، وظاهرُ هذا أنَّهم خُلِقوا على الضَّلالِ إلَّا مَن هَداهُ اللهُ تعالَى، وأنَّ الهدايةَ لِمَنْ حصَلتْ إنَّما هي مِن عندِ اللهِ لا مِن عندِ نفْسِه، وهذا يَقتضِي أنَّ جميعَ الخلقِ مُفْتقِرونَ إلى اللهِ تعالَى في جلْبِ مَصالِحهم ودفْعِ مَضارِّهم في أُمورِ دِينِهم ودُنياهم، وأنَّ العِبادَ لا يَملِكونَ لِأنفُسِهم شيئًا مِن ذلك كلِّه، وأنَّ مَن لم يَتفضَّلِ اللهُ عليه بِالهَدى والرِّزقِ؛ فإنَّهُ يُحْرَمُهما في الدُّنيا، ولذلك قال: «فَاستهدُوني أُهدِكم» أي: سَلوني الهدَى واطلُبوه مِنِّي أُوفِّقكم لِلهدايةِ.

أيُّها المُسلِمون : ولمَّا فَرَغ سُبحانه مِن الامتنانِ بالأمورِ الدِّينيَّةِ، شَرَع في الأمورِ الدُّنيويَّةِ تَكميلاً للمَرْتبتينِ، مُقتصِرًا على الأمرينِ الأهَمَّينِ منها، وما هو أصلٌ فيها، ومُكمِّلٌ لِمنافعِها، ولا يُسْتغْنى عنهما؛ وهما: الأكلُ واللُّبْسُ، فقال: «يا عِبادي كلُّكم جائعٌ» مُحتاجٌ إلى الطَّعامِ «إلَّا مَن أطعَمْتُه» فبَسَطْتُ عليه الرِّزقَ، وأغْنَيْتُه؛ وذلك لأنَّ النَّاسَ عَبيدٌ لا يَملكونَ شيئًا، وخَزائنُ الرِّزقِ بِيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فَمَنْ لا يُطعِمُه بِفضلِه بَقيَ جائعًا، «فَاستطعِمُوني»، أي: اطلُبوا الطَّعامَ وتَيْسيرَ القُوتِ مِنِّي، «أُطعِمكم»، أي: أُيَسِّر لكم أسبابَ تحصيلِه، ثمَّ قال: «يا عبادي» وكَرَّره للتَّنبيهِ، «كلُّكم عارٍ» مِن اللِّباسِ والسِّترِ مُحتاجٌ إلى سَترِ عَورتِه «إلَّا مَن كسوتُه» فرزَقْتُه الكسوةَ، فاطْلُبوا مِنِّي الكسوةَ، أُيسِّرْ لكم سَتْرَ عوْرَاتِكم وأُزِلْ عنْكم مَساوئَ كشْفِ سَوءاتِكم، وكلُّ هذا مِن التَّنبيهِ على فَقرِنا وعَجْزِنا عن جَلبِ مَنافعِنا ودَفعِ مَضارِّنا بأنفُسِنا، إلَّا أنْ يُيسِّرَ اللهُ ذلك لنا بأنْ يَخلُقَ ذلكَ لنا ويُعِينَنا عليه، ويَصرِفَ عنَّا ما يَضُرُّنا، وهو تَنبيهٌ على مَعنى قولِه: «لا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العليِّ العظيمِ»، ممَّا يُوجِبُ التَّوكُّلَ على اللهِ في الرِّزقِ المتضمِّنِ جَلْبَ المنفعةِ.

أيُّها المُسلِمون : ثمَّ قال سُبحانه: «يا عبادي، إنَّكم تُخطِئون» أي: تُذنِبونَ «بِاللَّيلِ والنَّهارِ وأنا أغفرُ الذُّنوبَ جميعًا» فهو الغفورُ الَّذي يَمْحو ذُنوبَ التَّائبينَ «فَاستغْفِروني» أي: اطْلُبوا مِنِّي المغفرةَ أَغْفِر لكم» ذنوبكم «يا عِبادِي، إنَّكم لَن تبلُغوا ضُرِّي فَتَضرُّوني ولَن تَبلغوا نَفْعِي فَتَنفَعُوني» وهذا يعني: أنَّ العبادَ لا يَقدِرونَ أنْ يُوصِّلُوا إلى اللهِ نَفعًا ولا ضُرًّا؛ فإنَّ اللهَ تعالَى في نفْسِه غنِيٌّ حميدٌ لا حاجةَ له بِطاعاتِ العبادِ ولا يعودُ نفعُها إليه، وإنَّما هم يَنتفعونَ بها ولا يَتضرَّرُ بِمعاصِيهم، وإنَّما هم يَتضرَّرونَ بها.

«يا عِبادي لو أنَّ أوَّلَكم» مِنَ الموجودِينَ «وآخِرَكم» مِمَّنْ سَيُوجدُ، وَقِيل: مِنَ الأمواتِ والأحياءِ، والمرادُ جميعُكم، «وإِنْسكم وجِنكم كانوا على أَتقَى قَلْبِ رجلٍ منكم» أي: لو اجتَمَعْتُم على عِبادتي، «ما زاد ذلك في مُلْكي شيئًا» وهو بيانُ أنَّ اللهَ سُبحانه لا يَحتاجُ إلى شَيءٍ مِن عِبادةِ العِبادِ، بلْ هُم الَّذين يَحتاجُون إليه، «يا عِبادي، لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أَفْجَرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم» فاجتَمَعْتُم كلُّكم على عِصياني ما ضَرَرْتُموني، و«ما نَقصَ ذلك»؛ فإنَّه لا تَزيدُه طاعةُ المطيعِ، ولا تَنقُصُه مَعاصي العاصي، فهو سُبحانه غَنيٌّ عن عِبادِه.

«يا عبادي، لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم، وإِنْسَكم وجِنَّكم قاموا» أي: اجتمعوا جميعا في أرضٍ واحدةٍ ومُقامٍ واحدٍ، وقيَّدَ السُّؤالَ بالاجتماعِ في مَقامٍ واحدٍ؛ لأنَّ تَزاحُمَ السُّؤالِ وازدحامَهم ممَّا يُدهِشُ المسؤولَ، ويَبْهَتُه، ويُعسِرُ عليه إنجاحَ مَطالبِهم، ولكنَّ ذلك يَسيرٌ في قُدرةِ اللهِ وسَعةِ خَزائنِه، فإنَّهم لو وَقَفوا ذلك الموقفَ، فطَلَبوا كلُّهم أجمعونَ مَطالِبَهم، فأعطى سُبحانه كلَّ إنسانٍ وكذا كلُّ جِنِّيٍّ مسألَتَه، في آنٍ واحدٍ ومكانٍ واحدٍ ما نَقصَ ذلك الإعطاءُ مِمَّا عندي إلَّا كَالنَّقصِ أو كَالشَّيْءِ الَّذي يَنقصُه المِخْيَطُ -وهو ما يُخاطُ به الثَّوبُ كَالإبرةِ ونحوِها- إذا أُدخِلَ البحرَ؛ فإنَّ البحرَ إذا غُمِسَ فيه إبرةٌ، ثُمَّ أُخرجَتْ لم يَنقُصْ مِنَ البحرِ بِذلك شيءٌ، والمرادُ بهذا ذِكرُ كَمالِ قُدرتِه سُبحانه، وكَمالِ مُلكِه، وأنَّ مُلْكَه وخَزائنَه لا تَنفَدُ، ولا تَنقُصُ بالعطاءِ، ولوْ أعْطى الأوَّلِين والآخِرِين مِن الجِنِّ والإنسِ جميعَ ما سَألوه في مَقامٍ واحدٍ.

الخطبة الثانية

«يا عبادي، إنَّما هي أعمالُكم أُحصِيها» أي: أَحفظُها وأَكتُبُها عليكم، ثُمَّ أُعطيكم جزاءَ أعمالِكم يومَ القيامةِ وافيًا تامًّا؛ إنْ خيرًا فَخيرٌ، وإنْ شرًّا فَشَرٌّ «فمَنْ وَجدَ خيرًا» أي: تَوفِيقَ خَيرٍ مِن ربِّه وعمَلَ خَيرٍ مِن نفْسِه «فَلْيحمدِ اللهَ» على تَوفيقِه إيَّاه لِلخيرِ؛ لأنَّه الهاديَ، «ومَن وَجدَ غيرَ ذلك» أي: شرًّا -ولم يصرِّحْ به؛ تحقيرًا له وتنفيرًا عنه- فلا يَلومَنَّ إلَّا نفْسَه؛ لأنَّه صدَرَ مِن نفْسِه أو لأنَّه باقٍ على ضلالِه

المرفقات

1734417558_الظلم.docx

المشاهدات 673 | التعليقات 0