مع قصة يوسف عليه السلام في القرآن (1)
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، الرحمنِ الرحيمِ، مالكِ يومِ الدينِ، والعاقبةُ للمتقينَ ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ؛ وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه النبيُّ الأمينُ، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأزواجِه وأتباعِه إلى يومِ الدينِ وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعدُ: فأوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى اللهِ جلَّ وعلا، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون](آل عمران:102).
أيُّها المؤمنونَ والمؤمناتِ: مِنْ جميلِ القصصِ وأحسنِها في القرآنِ قصةُ يوسفَ عليهِ السلامُ، ففيها الكثيرُ من العبرِ والعظاتِ والآياتِ المعجزاتِ، ومظاهرِ عظمةِ اللهِ وقدرتهِ التي تولَّتْ يوسفَ عليهِ السلامُ بدايةً من رؤياه التي رآهَا ثمَّ مكرِ إخوانِه بِه للتخلصِ منهُ وحتَّى بلوغِه عرشَ مصرَ وقيامِه على خزائِنها. ومَنْ نَظَرَ لهذهِ القصَّةِ بقلبٍ حاضرٍ، شاهدَ خِلالَها مراحلَ الاختبارِ والبلاءِ التي يبتلي بها جلَّ وعلا عبادَه ثمَّ ما يتبعُها من الفرجِ واليسرِ والتمكينِ. فيوسفُ عليهِ السلامُ كانَ أحبَّ الأبناءِ إلى أبيهِ يعقوبَ، وقد أراهُ اللهُ رؤيا في منامِه، ورُؤيَا الأنبياءِ حقٌّ كما قال ذلك نبيُّنا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فلمَا حكاهَا لأبيهِ، حذَّره بقولِه [يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا]. واللهُ تعالى المطَّلعُ على سرائرِ خلقِه يعلمُ ما في نفوسِ إخوتِه التي امتلأتْ حسدًا على محبةِ أبيهم ليوسفَ وتفضيلِه عليهِم، فما برحُوا إلا أَنْ قالوا [اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ]، وتحايلوا على أبيهِم كيْ يرسلَه معهم فوافقَ على مضضٍ، ولما أرادُوا قتلَه خيَّبَ اللهُ ظنَّهم، فألهمَ أحدَهم أَنْ يرموه في الجبِّ بدلاً من قتلِه، ثمَّ لمَّا رجعوا إلى أبيهِم كَذَبُوا عليهِ بأكلِ الذئبِ له، ولكنَّ يعقوبَ عليه السلامُ كانَ يقينُه وحسنُ ظنِّهِ بربِّه يملأُ قلبَه، فسلَّم أمرَه لهُ وحدَه، ولمَّا أنقذَ اللهُ يوسفَ مَِ الجبِّ، وأخذتُه القافلةُ أصبحَ مِلْكًا لهم، ولمَّا وصلوا مصرَ اشتراه أتباعُ العزيزِ بثمنٍ رخيصٍ.
عبادَ اللهِ: ولمَّا رآهُ العزيزُ توَّسمَ فيه خيرًا، وذَهَبَ بهِ إلى بيتِه وأكْرَمَه واعتنى بِه، وكذلكَ مَنَّ اللهُ على يوسفَ بإنقاذِه من الجُبِّ واسكانِه في بيتِ عزيزِ مصرَ حتَّى بلغَ مَبْلغَ الرجالِ. ثمَّ ينتقلُ القرآنُ إلى تصويرِ محنتِه الأخرى في بيتِ العزيزِ، فقالَ تعالى حاكيًا عن امرأةِ العزيزِ [وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ..]، ولكنَّ اللهَ تعالى برحمتِه أبى أن ينالَه منهَا سوءٌ، وكانَ ردُّه القويُّ عليهَا [مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ]، ولكنَّها بسببِ ضعفِ نفسِهَا، أبتْ أن تستلمَ لرفضِه، واستمرَّتْ في محاولةِ إيقاعِه فيما تُريدُ منه، لكنَّه لم يَستسلمْ [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]، وهَربَ إلى البابِ، فَوَجدَ العزيزَ أمامَه، ولكي تَخرجَ من هذا الموقفِ اتَّهمتْ يوسفَ بقولِها بهتانًا وظلمَا [مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]، ولكنَّ يوسفَ ردَّ عليهَا غيرَ خائفٍ منها أو مِنْ زوجِهَا [هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي]، وشَهِدَ شاهدٍ من القصرِ [إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِين * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِين * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم] فالتفتَ العزيزُ إلى يوسفَ قائلاً له [أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِين].
عباد الله: لقد وَصَلَ خبرُ موقفِ امرأةِ العزيزِ مع يوسفَ لبعضِ نساءِ القصرِ، فلما بَلَغَها ما خاضُوا فيهِ دَعَتْهم إلى بيتِها، وجهزَّتْ لهمْ مأدبةَ طعامٍ، [وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا]، وأَمرَتْ يوسفَ أَنْ يَدَخلَ عليهنَّ فجأةً وهنَّ مشغولاتٌ بالحديثِ والطعام [فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ]، فلمَّا رأتْ منهنَّ ذلكَ قالتْ [فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ]، فمَا كانَ منْ يوسفَ إلَّا أَنْ اعتصمَ بربِّهِ في تلكَ الفتنةِ العظيمةِ، وقال [رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ]، فأنجاهُ اللهُ تعالى وَصَرَفَ عنه كيدَهنَّ، ولكنَّها أَمرَتْ بإدخالِه السجنَ عقوبةً لهُ على رفضِه. فَدَخلَ يوسفُ السجنَ وانتشرَ صيْتُه بصدقِه وأخلاقِهِ وعلمِهِ، فأتاهُ سجينانِ يسألانِه تفسيرَ رؤيًا رأوهَا، فبَدَأَ بدعوتِهما إلى تَوحيدِ اللهِ وتَعظيمِه، وبيَّن لهمَا ما هما عليهِ من الشِّركِ. ثمَّ فسَّر لهمَا الرؤيا وبيّن لهما أن أحَدَهمَا سَيُصلَبُ والآخَرَ سَينجُو، وسَيعملُ في قصرِ الملكِ، وأوصى يوسفُ الذي سَينْجُو منهما أَنْ يذكرَه عندَ الملكِ، فأنساهُ اللهُ تعالى ذلكَ، ليتعلَّقَ قلبُه بهِ وحدَهُ دونَ غيرِه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِين] (يوسف:42). باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ ما سمعتمْ فاسْتَغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكُم إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أنَّ تقواه هي طريقُ النجاةِ.
أيُّها المؤمنونَ: وفي إحدى جلساتِ الملكِ معَ حاشيتِه حَكَى لهمْ رؤيَاهُ طالبًا منهم تفسيرَها، وَوَصَل الخبرُ إلى سَاقي الملكِ - الَّذي نجا مِنَ السجنِ- وتَذَكَّر يوسفَ وتأويلَه لرؤياهُ، فأخْبرَ الملكَ بذلكَ، فأمرَه أَنْ يذهبَ إليهِ ويسأَلَه عن تلكَ الرُّؤيَا التي رآها. وعادَ رسولُ الملكِ إليهِ وأخبَرهُ بما ذَكَرَ يوسفُ في تأويلِه للرؤيَا، فلمَّا اطمئنَّ الملكُ لتفسيرِها، أَمْرَ بإخراجِ يوسفَ من السجنِ، فأبى إلا إذَا ثبتَتْ براءتُه ممَّا رموه به نسوةُ القصرِ، فاعترفوا بحقيقةِ الأمرِ و[قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ]، وقالتْ امرأةُ العزيزِ [أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ]. وهُنَا أمَرَ الملكُ بإخراجِ يوسفَ مِنَ السجنِ وتعيينِه مستشارًا ووزيرًا له على خزائِن مصرَ.
ولمَّا أصابَ الجدبُ والمجاعةُ أرضَ كنعانَ توجَّه إخوةُ يوسفَ إلى مصرَ لطلبِ الطعامِ، وذكروا ليوسفَ مِنْ أينَ أتوا، وأنَّ لهم أخًا صغيرًا لم يَحضُرْ معهم، فَطَلبَ منهم أَنْ يُحضِرُوا أخَاهم وسَيزيدُ لهم في العطاءِ، ورَجََ إخوةُ يوسفَ إلى أبيهم وَطَلبُوا منهُ أَنْ يَذهبُوا بأخيهِم إلى مصرَ ليأخذُوا طعامًا زائدَا، فقالَ [هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ..]، ولمَّا فتحُوا أوعيتَهم وَجدُوا بضاعتَهم مردودةً إليهِم معَ ما أُعطوا من الغلالِ والطعامِ. وذَكَروا لأبيهم ذلكَ، وأنَّهم سيُحافظُون على أخيِهم، فوافقَ بعدَ تردُّدٍ طالبًا منهم ألا يَدخلُوا جميعًا من بابٍ واحدٍ. [وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ]. وللقصة بقيةٌ في خطبةٍ قادمةٍ إنْ شاءَ اللهُ تعالى. هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]. 20/6/1441هـ