مع بداية عام دراسي

فهد عبدالله الصالح
1438/12/23 - 2017/09/14 07:17AM

الحمد لله القائل ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113]..

أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله جل وعلا ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].

أيها المسلمون أغلى المكاسب وأعلى المطالب وأرفع المواهب علم نافع، ينفع في الدنيا ويرفع في الآخرة، وكفى أهله شرفا أن الله رفع قدرهم وأعلى ذكرهم وأشاد في العالمين بخبرهم، قال عز وجل ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11]، وقال صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين ), ولله در القائل:

إن كبير القوم لا علمَ عندَهُ ♦♦♦ صغيرٌ إذا التفَّتْ إليه المحافلُ

فالعلماء هم الأموات الأحياء، مات خُزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقى الدهر، أعيانهم مفقودة، وأثارهم في القلب والسطور موجودة، خيرهم لا ينقطع، وأثرهم لا يزول، قال ابن عبد البر (العلم هو الولد الباقي في عقب الرجل، وهو الولد الخالد )، وروي عن على بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: (العلم خير لك من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق).

أيها المسلمون: مهما كان مقام الإنسان عالياً ومنصبه سامياً فإنه لا يستغنى عن التعليم، فهذا نبي الله داود عليه السلام مع حصوله على الملك والنبوة لم يستغن عن تعليم الله إياه، قال الله تعالى ﴿ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 251]، وموسى عليه السلام يتلمس من العبد الصالح مرافقته ليتعلم منه، قال تعالى ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ [الكهف: 66]، وقد أمر الله سبحانه نبيه أن يدعوه ليزيده علما ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].

أيها الإخوة في الله: العلم كلمة عامة وهي ضد الجهل، والعلوم منها ما هو شرعي أي مصدرة الكتاب والسنة، أي ما جاء عن الله تعالى وهذا منه الواجب العيني على كل مسلم كمعرفة الحلال والحرام وأحكام العبادات ونحوها، ومنها ما هو فرض كفاية كأحكام المواريث.

ومن العلوم ما هو غير شرعي أي يعرف بالتجربة والبرهان كالطب والهندسة والتأريخ مما تحتاجه الأمة وتستغني به عن غيرها من الأمم، وهذا يكون فرض كفاية لا تبرأ الذمة حتى يكون لدى المسلمين ما يكفيهم من أطباء يعالجون مرضاهم، ومهندسين يتولون تخصصهم وهكذا حتى لا تستغني الأمة عن عدوها فحسب بل تصدر العلم والمعرفة للعالم كما كانت من قبل.

أيها المسلمون: لا شك أن العلم من المصالح الضرورية والحاجات الملحة التي عليها تقوم حياة الأمة أفرادا وجماعات، وبها يستقيم حالها، ويصلح أمرها ويقوى شانها، وحاجاتها إليه لا تقل عن حاجتها إلى الطعام والشراب والملبس والمسكن والدواء, وإنما احتل الأعداء بلاد المسلمين لأسباب كثيرة كان من أهمها جهل المسلمين بأمور الدين والدنيا، وإنما ضاعت الحقوق وكثر الفساد بشتى أنواعه بسبب الجهل، وما انتشرت المذاهب الهدامة والنحل الباطلة لأنها وجدة قلوبا جوفا خالية من العلم فتمكنت منها وتغلغلت في سويدائها، وهكذا فإن القلوب التي لا تتحصن بالعلم والمعرفة تكون عرضة للانخداع بالضلالات والوقوع في الانحرافات، وإذا كان العلماء الأوائل من سلفنا الصالح يقطعون الفيافي والقفار لطلب العلم، وإذا كنا نقرأ ونرى كيف تحرص بعض الشعوب على طلب العلم، إننا نتساءل عن سر كراهية كثير من طلابنا لمحا ضن التعليم وسبب نفرتهم منها، وربما عاشوا في ضيق وجرح من مدارسهم، حتى يتمنى بعضهم سرعة انقضاء أيام المدرسة وزوالها.

إن الإجابة على السؤال: إن أولئك المسلمين كانوا يطلبون العلم لأجل الله ليدركوا به رضوان الله وخدمة البشرية، أما طلاب هذا الزمان فيطلبون العلم لأجل الشهادة والوظيفة والشهرة والمنصب، إلا من رحم الله، فحرموا بركة العلم، فلا تجد منهم الإقبال والحرص، فأين المدرسون والآباء والأمهات من أن يزرعوا في قلوب أبنائهم الإخلاص لله رب العالمين؟ فإن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل، أين هم من قول الله جلا الله ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 282].

وثاني مشكلات التعليم البارزة في ديار المسلمين - أيها المسلمون: غيابُ القدوات، الذين يقتدي بهم الطالب، فشتان بين من يسمع من المدرس النصائح والتوجيهات بالأقوال، وكذا ما يسمعه من والديه، وأما الأفعال فتخالفه في بعض الأحيان، وتأملوا مدرساً يشم طلابه رائحة التدخين من ثيابه، أو يجلس يتحدث معهم عن مباراة البارحة نقداً وتحليلاً، أو يتلفظ عليهم بما لا يليق، إن الطالب يفقد الثقة بالمعلم والاحترام له أمام هذا التناقض الصارخ، فأزمة المسلمين هي أزمة قدوات، لا أزمة معلومات، إننا نحتاج إلى معلم يؤدى رسالته، فتصل إلى القلوب, يؤديها لأجل الله لا لأجل الراتب والمكافأة، بذلك يحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم (فو الله لان يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) متفق عليه، وإن هذا ليقودنا إلى أن نوجه كلمة لصناع الأمة وبناة الأجيال من المدرسين، كيف لا ؟وهم الأمناء على ثروة الأمة الحقيقية من الأبناء.

أيها المدرسون الأفاضل: مهنتكم من أعز المهن وقد قيل (كاد المعلم أن يكون رسولاً)، إنها وظيفة ومهمة الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه، فجملوا هذه المهنة بالإخلاص والجد والمتابعة، وأبشروا بالأجر الكبير من الله، روى الترمذي في سننه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله وملائكته وأهل السموات والأراضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير).

أيها المعلم: إن شباب اليوم يعيشون في معترك الشهوات والشبهات، فكن لهم معيناً بعد الله على تحصينهم على هذه الآفات، اغرس في قلوب طلابك محبة الله ورسوله, حبب إليهم الإخوة الإسلامية، ولا تكن داعية فرقة ووهن بالتمييز بين المسلمين لاختلاف بلدانهم أو ألوانهم.

وبعد أيها المصلون: فيقول ابن عبد البر (أحسن كلمة تورثها بعد كلام النبوة قول على رضي الله عنه: (قيمة كل امرئ ما يحسن)، فما أحرى المسلم أن يكون ذا فقه وثقافة ووعى وإدراك ليعبد الله على بصيرة، ويعيش مدركاً لما يحدث حوله، مستفيداً من خيرات الأرض وبركات السماء، ويحصن نفسه من كل ضلال، ويحظى بالنعيم المقيم يوم أن يلقى الله.

والله نسأل أن ينفعنا بما علمنا، وان يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعل ما تعلمناه حجةً لنا لا علينا...

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79]

 

الخطبة الثانية

أيها الآباء الكرام: حتى يقع العلم مواقع نافعة في قلوب أبنائكم ازرعوا فيهم احترام المعلم أيا كان ذلك المعلم وأينما كان ذلك العلم من علم شرعي أو غيره مما تحتاجه البشرية، فالأدب مفتاح العلم وأساس الطلب، إن المعلم والطبيب كليهما لا ينفعان إذا لم يكرما.

إن تقدير المجتمع للمعلم وللطبيب وللمهندس ومن يفتى الناس فى دينهم وغيرهم ممن ينفعون الناس له أثر عظيم، لا لذات الشخص فحسب، وإنما لشرف المهمة التي يؤديها، والرسالة التي يحملها، وشجعوا أبناءكم على الدراسة وطلب العلم وتابعوهم من أول يوم للدراسة.

ورسالة أخيرة لأبنائنا الطلاب: ها قد عدتم إلى مقاعد الدراسة، فكيف بدأتم هذا العام؟ هل جددتم النية وأخلصتموها لله جل وعلا في طلب العلم؟ هل تتذكرون يوم أن تسعوا كل صباح إلى أماكن الدراسة قول النبي صلى الله عليه وسلم (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً الجنة)؟ هل تستحضرون تقوى الله في طلبكم للعلم والله يقول ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 282]، ما مدى أدبكم مع معلميكم وأساتذتكم؟ ما مبلغ الأدب فيكم مع زملائكم؟ فالأدب مفتاح العلم، والاحترام والتقدير أساس الطلب.

لا تحسبن العلم ينفع وحده ♦♦♦ ما لم يتوج ربه بخلاقِ

أخي الطالب: ما نوع الزملاء والأصدقاء الذين تختارهم لرفقتك وصحبتك في المدرسة وفى الشارع والحي ؟ هل هم من النوع المرضي في دينه وخلقه وجديته وحسن هدفه، أم هم من النوع الضائع في دينه الممقوت في خلقه عديم الجدية والهدف ؟ ألا ففر من المجذوم فرارك من الأسد، وتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (المرء على دين خليله) ويقول أيضا (المرء مع من أحب) ويقول (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي) ولذا قال جماعة من السلف: اصحب من ينهضك حاله، ويدلك على الله مقاله، وقالوا: من لم يتحمل ذل التعليم ساعة بقى في ذل الجهل أبدا.

هذا وصلوا وسلموا على معلم البشرية الخير...




المشاهدات 1201 | التعليقات 0