معنى حبّ الوطن

[font="] الخطبة الأولى: معنى حبّ الوطن[/font]
[font="] [/font]
[font="]الحمد لله الذي خلق من الماء بشرا، فجعله نَسَبًا و صِهْرًا، و كان ربُّك قديرًا.. أحمدُهُ و أَشْكُرُهُ ربّي له النّعمةُ و الفضلُ و الثناءُ الحسنُ الجميلُ.. و أشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شرَّفنا بنعمة الإيمان و الإسلام و كفى بهما من نعمٍ.. اللهمّ ببابك نقف فلا تطردنا، و إيّاك نسأل فلا تُخيّبنا، و إلى جناب رسولك محمّد صلى الله عليه و سلم ننتسب فلا تبعدنا.. و أشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبدك و رسولك و صفوتك من خلقك، بعثته إلى الحياة مُبَشِّرا، و بعثته بالقرآن الكريم هاديا و في الأكوان بدرا نيِّرًا.. اللهمّ فصلّ و سلم و بارك عليه و على آله و صحبه و كلّ من سار على دربك، و اتّبع سنّتك..[/font]
[font="]أمّا بعد، فيا أيّها الّذين آمنوا، مفهوم الإيمان مرتبط ارتباطا وثيقا بالحياة بحيث يؤثّر تأثيرا واضحا في السّلوك و العقول و الأخلاق و المعاملات و التصرّفات، لذلك نجد أنّ الحقّ تبارك و تعالى حينما يمدح عباده المؤمنين فإنّما يذكر لهم صفات بشرية دنيويّة ذات علاقة بالواقع مصداقا لقوله تعالى: " قد أفلحَ المُؤْمنونَ * الذين هُمْ في صلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * و الذين هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * و الذين هُمْ للزَّكاةِ فاعِلُونَ ".[/font][font="]( سورة المؤمنون الآيات: 1-4 )[/font][font="].. [/font][font="]و لهذا نجد أنّ النّصوص الدّينية تربط دوما بين الإيمان و بين العمل. يقول رسول الله صلّى الله عليه و سلم: " الإيمانُ ما وَقَرَ في القلبِ و صَدَّقَهُ العَمَل ".[/font][font="]( هذا الحديث عند ابن القيّم الجوزية في – تهذيب سنن أبي داود رقم الحديث 1685 )[/font][font="]..[/font]
[font="]و الإسلام دينُ الأخوّة الإنسانية، و الحرية، و الحوار، و البناء الحضاري، أركانه الأساسية: كتاب الله و سنّة رسوله، و الاجتهاد العقلي المستنير بهديهِما، المتفاعل مع المستجدّات الإيجابية المختلفة فهما و استيعابا و إسهاما، دعائمه الإيمان و العلم و العمل، حرَّرَ العقول من زيف الأوهام و الأساطير و الأباطيل، و استنهض الشعوب و الأمم لتتخلّص من ضلال العادات و التقاليد، و نزعات الاستعلاء و الاعتداء..[/font]
[font="]و لذلك حرّض ديننا الإسلاميّ الإنسان على فهم الحياة و كشف أسرار الكون، بحثا و تحقيقا، و استدرار للنّفع، و برهنة على خالق الموجودات ربّ العالمين، ليعبُدَهُ موقِنا مقتنعا، و يحمدَهُ و يذكرَهُ متضرّعا خاشعا، لأنّ الإسلام في جوهره استسلام للخالق الواحد الأحد، و سِلْمٌ و سلامٌ و مسالمةٌ مع البشر..[/font]
[font="]كما أعطى ديننا قيمة متكافئة لكلٍّ من المادّة و الرّوح، و جمع بينهما في تكامل محكم مراعاة لفطرة الإنسان، فأرسى بذلك عوامل استقامته، و سعيه الدّائب إلى التعمير و جعل منه نواة المجتمع المتوازن الفاضل. قال الحقّ تعالى: " و ابْتَغِ فيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ و لا تَنْسَ نصيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ".[/font][font="]( سورة القصص الآية: 77 )[/font][font="].. [/font]
[font="]و من الدعائم المرتبطة بالإيمان ارتباطا وثيقا، و المؤَكِّدة لهذا التكامل بين عناصر الوجود، دعوة الإسلام إلى محبّة الوطن و الذّود عنه و فدائه بكلّ غالٍ و نفيسٍ.. ففي الأثر: حبُّ الوطن من الإيمان ". و تذكُرُ كُتب السّيرة أنّ النبيّ صلى الله عليه و سلم لمّا خرج مهاجرا إلى المدينة قال: " و الله يا مكَّةُ إِنَّكِ لأحبُّ بلادِ الله إليَّ و لَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجوني مِنْكِ ما خرجتُ أبدا ".[/font][font="]( أحمد في المسند حديث 17968 )[/font][font="]. [/font][font="]و في رواية أخرى: " اللهمّ إنّكَ قد أخرجتني من أحبّ البلاد إليَّ فأسْكنِّي أَحبَّ البلادِ إليكَ ".[/font][font="]( الحاكم في المستدرك حديث 4261 )[/font][font="]. [/font][font="]وهو ما يدلّ على مبلغ حبّ النبيّ صلى الله عليه و سلم لبلده و اعتزازه به.. لذلك كان من صفات المؤمن الحقّ أن يحبَّ وطنه و أن يعمل على رفعته و الإعلاء من شأنه، و أن يضحّيَ بما يستطيع أن يُضَحِّيَ به في سبيل النهوض به و الذّود عنه و حمايته من كلّ سوء..[/font]
[font="]عبادَ الله، نستحضر هذه المعاني فيحدث عزيز علينا أبناء وطني، وهو انتفاضة شباب تونس من هيمنة بن علي الظّالم، الغاشم، و من عبث الطرابلسية و استيلائهم على متاع الشعب و آثار تاريخه و حضارته.. ثورة غالية استطاع البوعزيزي أن يعلّم شعب تونس كيف يعيش حرّا أو يموت مجيدا.. التونسيّون حيث جعلوا نصب أعينهم قول الحقّ تبارك و تعالى: " كمْ من فِئَةٍ قليلةٍ غلبتْ فِئَةً كثيرَةً بإِذْنِ اللهِ و اللهُ مَعَ الصَّابِرينَ ".[/font][font="]( سورة البقرة الآية: 249 )[/font][font="]. [/font][font="]و قد مَنَّ سبحانه و تعالى على شعبنا بالسّيادة و الحرّية، فكان هروب الطّاغوت كمرحلة أولى في 14 جانفي 2011 بفضلٍ من الله و توفيقه و تأييده و نصره..[/font]
[font="]أيّها المؤمنون، إنّ محبّة الوطن اليوم هي ذاتُ أبعادٍ جديدة تتمثّل أساسا في العمل و البذل في سبيل تجسيم أهداف الثورة و تحقيق التقدّم و النّماء..هذا العمل الذي جعله الإسلام عبادةً نتقرَّبُ بها إلى الله كما نتقرّب إليه بالصلاة و الصيام و الحجّ، ذلك أنّ الله عزّ و جلّ قد استخلفنا في هذه الأرض لنعمّرها و نُفِيدَ منها قال تعالى: " هُوَ الذي جعل لكُمُ الأرْضَ ذلولا فامْشُوا في مناكِبِها و كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ و إليه النُّشُورُ ".[/font][font="]( سورة الملك الآية: 15 )[/font][font="]. [/font][font="]وهو العمل الذي اشترط فيه النبي صلى الله عليه و سلم الإتقان، حيث قال: " إنَّ اللهَ يحبُّ إذا عمِل أحدُكم عملا أن يتقِنه ".[/font][font="]( أخرجه البيهقي في سننه و المناوي في فيض القدير الحديث 6649 )[/font][font="]. [/font][font="]لذلك فأَنْ يُحِبَّ الرجل منّا وطنه و يغار عليه اليوم هو أن يعمل و يبذل الجهد الذهنيّ و البدنيّ من أجل رقيّه و ازدهاره، لا لأجل تحقيق أهدافه الشخصية و مشاريع حزبه أو تنظيمه أو تكتّله..[/font]
[font="]و تعني محبّة الوطن أيضا نبذ التواكل و القعود، و الخلود إلى البطالة و الكسل، " فمن نام لم تنتظره الحياة "، فنحن اليوم في عصرتيقّظ و عملٍ لا ينفع فيه التراخي أو المشي على مهل، بل لا بدّ من مجاراة الأمم المتقدّمة الطموحة، و بذل كل ما في الوسع للالتحاق بها في الأعمال المفيدة، فالشراكة تفرض علينا جودة البضاعة و صدق الوعد في التجارة و الإتقان حتى تضاهي بضاعتنا بضاعتهم أو تفوق، و مسؤوليتنا في هذا جسيمة، و لا يتحقق لنا ذلك إلاّ إذا صدق حُبُّنا لوطننا، و أقلعنا عن العادات السلبيّة التي تحبط العزائم.. قال تعالى: " و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كنتم مؤمنين ".[/font][font="](آل عمران: 139)[/font][font="][/font]
[font="]و تعني محبّة الوطن اليوم أيضا عدم الاسراف في استنزاف خيرات البلاد و ثرواتها الطبيعية، و عدم انفراد البعض باستغلالها عن البقية، تحقيقا لمبدأ الاعتدال و العدالة في الاستهلاك و الإنفاق الذي ميّز الله به المؤمنين من عباده، حين قال تعالى: " و الذين إذا أنْفقُوا لم يسرفوا و لم يُقْتِرُوا و كان بين ذلك قوامًا ".[/font][font="]( سورة الفرقان الآية: 67 )[/font][font="][/font]
[font="]و تعني محبّة الوطن اليوم حماية بيئته و رعايتها من كلّ ما من شأنه الإساءة إليها بتلويثها، و لهذا أشارت النّصوص الدّينية إلى ضرورة استصلاح الأرض و غراسة الأشجار، و الآيات و الأحاديث عديدة في هذا المجال..[/font]
[font="]و حبّ الوطن يعني أيضا تكريس مبدأ التضامن بين أفراده دعما لروح التآزر و التراحم التي حثّ عليها الدّين الحنيف في مثل قوله تعالى: " و تعاونوا على البرّ و التَّقْوى و لا تعاونوا على الإثمِ و العدوان ". [/font][font="]( سورة المائدة الآية: 2 )[/font][font="] [/font][font="]و قول النبيّ صلى الله عليه وسلّم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُه بعْضا ".[/font]
[font="]عباد الله، إنّ حرص كُلّ فرد من أفراد المجتمع على تحقيق هذه المعاني فيه وفاءٌ لقيم الإسلام السمحة الزكيّة، يؤكد به جدارته بالاستخلاف و فيه أيضا تأكيد لمحبّة الوطن و الوفاء لأمجاده و التطلّع إلى مستقبل أفضل..[/font]
[font="]اللهم وفقنا لرفعة ديننا و وطننا، و اجعلنا هادين مهديين، غير ضالين و لا مضلّين.. أقول ما تسمعون فإن كان حسن فمن الله وحده، و إن كان غير ذلك فمن الشيطان و من نفسي، و استغفر الله العظيم لي و لكم و لوالدي و لوالديكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم..[/font]
[font="] [/font]
[font="] الخطبة الثانية: الشباب و تجسيم معاني حب الوطن[/font]
[font="] [/font]
[font="]الحمد لله المستحقّ للحمد على جميع الأحوال.. و أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة من تفتّح قلبه لبالغ العظات و اتّبع رضوان ربّه في الجهر و الخلوات.. و نشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبده و رسوله، ميّزته بالرسالة الخاتمة فاستحقّ من ربّه أعلى الرّتب و المقامات.. اللهم فصلّ و سلم و بارك عليه و على آله و صحبه إلى يوم قراءة الكتب و نشر الرسالات..[/font]
[font="]أمّا بعد أيّها الناس، لقد شملت رحمةُ اللهِ و عنايتُه الإنسان، و تعدّدت مظاهرُ ذلك في كلّ ما يتعلّق بهذا المخلوق، باعتباره الكائن الذي اختاره المولى تبارك و تعالى لعمارة الأرض، قال تعالى: " هُوَ أَنْشَأَكم مِنَ الأرضِ و استعمركم فيها ".[/font][font="]( سورة هود الآية: 61 )[/font][font="] [/font][font="]و عمارة الأرض لا تكون إلاّ بالعمل و الكدّ لتحقيق الرزق.. و الإنسان محلّ عناية الخالق سبحانه لأنّه المعنيُّ دون سائر المخلوقات بتنفيذ أوامر الله و نواهيه من أجل تحقيق الإصلاح و ضمان أسباب الصلاح، قال تعالى: " إنْ أُريدُ إلاّ الإصْلاحَ ما اسْتَطَعْتُ و ما توْفيقيَ إلاّ بالله عليه توكّلتُ و إليه أُنيبُ ".[/font][font="]( سورة هود الآية: 88)[/font][font="][/font]
[font="]عباد الله، لقد برزت العناية بالإنسان شابا، و ذلك بالدّعوة إلى مصاحبته و إلى توجيهه إلى ما ينبغي أن يكون عليه سلوكه خصوصا أنّ فترة الشباب هي من أهم فترات حياة الإنسان التي يتوافر فيها النشاط بعوامله المختلفة، و يحلّق فيها الخيال في آفاقه الواسعة.. لذلك فإن واجبات المجتمع تجاه الشباب كبيرة و هامة خاصة في ظل تسارع التحوّلات التي تشهدها المجتمعات، فهذه الفئة الهامة، التي نفخر في تونس بأنّها هي الأرفع نسبة، تتطلّب من المجتمع الإحاطة و توفير أسباب التعلّم في مختلف الاختصاصات التي تعتبر في عصرنا مفتاح كلّ نجاح..[/font]
[font="]و المجتمع مدعوٌّ أيضا إلى الاستماع للشباب باعتبارهم قلب الأمّة النابض و غدها الباسم، إذ هو عماد المجتمع و سبيله نحو الرّفعة و التقدّم، بعقولهم، و سواعدهم تبني الحضارات.. فإذا أراد الله تعالى بأمّة خيرا هيَّأَ لها من شبابها عناصر عاملين مخلصين يقدّرون مسؤولياتهم و يؤدّون واجباتهم على أكمل الوجوه.. أمّا إذا أراد الله تعالى بأمّة شرّا هيَّأَ لها من شبابها عناصر الانحراف و الإجرام و الهدم نسأل الله تعالى لبلادنا و شبابنا العافية و السلامة.. [/font]
[font="]نفعني الله و إياكم بأسرار كتابه المبين، و وفّقني و إياكم للوقوف مع آدابه التي بها الفوز المكين، و حشرنا جميعا في زمرة نبيّه الكريم..[/font]
[font="]اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ... اللهم إنَّا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عُضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السَلْب بعد العطاء، اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد شعبنا إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير... والحمد لله رب العالمين..[/font]
[font="] [/font]
[font="] الشيخ محمّد الشاذلي شلبي [/font]
[font="] الإمام الخطيب
[/font]

[font="] جامع الإمام محمّد الفاضل ابن عاشور
[/font]

[font="] بالزّهور الرّابع - تونس [/font]
المشاهدات 5708 | التعليقات 0